المسرح الكنسي (4)

المسرح الكنسي (4)

العدد 555 صدر بتاريخ 16أبريل2018

الفكر الكنسي والمسرح:
من النادر جدا أن تشاهد عرضا كنسيا أو تقرأ نصا مسرحيا كنسيا من دون أن تتعرف على الخلفية الفكرية الكنسية الكامنة داخل العرض؛ فمعظم أسماء فرق المسرح الكنسي مستلهمة من التراث المسيحي: (النور الحقيقي، مار مرقص، أجناد الرب، النعمة، الملائكة، مفديو الرب، ينبوع الرجاء، جنود الكلمة، الخشبة المقدسة، ابنة داود، أفامينا...)، كما أن الكثير من أسماء المسرحيات يعبر أيضا عن نفس الفكرة: (حياة يسوع، بالحقيقة قام، مات لأجلي، تضحية الأب، الهرم القبطي، قلوب مظلمة، رداء الموت، كاهن ضد العالم، عدو المسيح، يهوذا وبطرس، عروس المسيا “القديسة دميانة”، آلام المسيح...).
والمسرح الكنسي بدأ أولا مسرحا دينيا فقط يعتمد على مسرحة قصص الكتاب المقدس، ثم تطوّر عن ذلك ليستلهم حياة القديسين والشهداء، بداية من الشهيد مار جرجس ووصولا إلى البابا شنودة الثالث، ثم تطوّر الأمر أكثر ليشمل الموضوعات الاجتماعية التي تنتقد مشكلات المجتمع وتعتمد على حكايات وقصص عادية خيالية أو مأخوذة من واقع المجتمع المصري، لكن على الرغم من البعد النسبي للمسرح في هذه الحالة عن الفكر المسيحي، فإنه يعود إليه عبر هذه المسرحيات الاجتماعية بشكل آخر يتجلى في اللغة الحوارية، وفي الصراع، الذي عادة يدور بين الخير والشر، ثم يأتي الحل من خلال تعرّف الشخصيات على طريق الخلاص من الآلام، الذي يمثله غالبا المسيح سواء بشكل رمزي دال عليه، أو مادي يقوم على تجسد وتجلي صورة المسيح عبر حيل صوتية، ضوئية، أو من خلال تقمص إحدى الشخصيات الدرامية له.
ثمة إشارة حوارية، مضمونية، رمزية داخل المسرح الكنسي تحيلك إلى الفكر الكنسي، فمثلا في مسرحية “سيلا الحزينة” لأشرف عبده ترمز تضحية القبطان نفسه إلى تضحية المسيح، وفي عرض “زائر منتصف الليل”(46) تجد صورة زيتية للمسيح تتصدر غرفة الصالون التي تدور فيها أحداث المسرحية؛ حيث يتم التحقيق في جريمة قتل لنكتشف أن كل الموجودين (الأب، الأم، الابنة، خطيب الابنة، والدة خطيب الابنة) كلهم مشاركون بدرجة متفاوتة في هذه الجريمة التي أدت إلى انتحار الفتاة الفقيرة “عايدة”، لذا فهم يقدمون جميعا على الاعتراف ومن دون جهد كبير من المحقق، ورغم أن العرض المسرحي يتناول ثيمة التحقيق في جريمة قتل تشبه الثيمات البوليسية، فإن فكرة الاعتراف هي فكرة كنسية واضحة داخل العمل واكتشافنا في نهاية العرض المسرحي أن المحقق لم يصل أصلا، وإنما كان ذلك المحقق كامنا داخل نفوس الشخصيات الدرامية، وأنهم جميعا توهموا وصوله تعني أن رغبة الاعتراف هي رغبة ذاتية لدى الجميع لم يجبرهم عليها أحد، كما أن المحقق بعدما ينتهي من عمله يتوقف متأملا الجميع ثم يلقي آية من الكتاب المقدس معلقا بها على ما حدث:
أما دمه فمن يدك أطلبه...
وهنا يدوي التصفيق في القاعة، وكأن جمهور العرض ينتظر كما تعوّد أن يتم لضم الحدوتة الاجتماعية وجريمة القتل التي يتم التحقيق فيها بالخلفية الإيمانية المسيحية، ثم يأتي تنويه آخر على لسان أحد أفراد العائلة يقول:
 - عايدة راحت بس فيه ألف ومليون إنسان محتاجين المساعدة..
وكأن العرض هنا يشير إلى أبناء الكنيسة الذين يحتاجون للمساعدات الروحية بضرورة الوقوف إلى جوارهم وإرشادهم للعودة للإيمان، وهي رسالة للجمهور بأنه إذا كان المجتمع داخل العرض المسرحي لم يستطع الحفاظ على “عايدة”، فعلى المجتمع/ الجمهور الكنسي خارج العرض الحفاظ على مليون “عايدة” أخرى قد يتسبب الإهمال في ضياعهم.
والمسرحيات الأخرى غير الكنسية التي تم إعدادها لتعرض في الكنيسة يتم تحميلها بالأفكار الكنسية؛ فمثلا عرض «حفلة للمجانين» لفريق الخشبة المقدسة، تم معالجته ليصبح معبرا عن عالم الكنيسة وصراعات الطوائف المسيحية فيما بينها، أيضا عبر عرض “أوديبوس”(47) المأخوذ عن مسرحية “أوديب ملكا” لسوفوكليس، الذي أخرجه بيشوي عاطف عن فكرة الخلاص من الآلام عبر الحكي والبوح، حيث يوجد اثنان من البشر عالقان داخل منطقة مجهولة، اكتشفا وجودهما داخلها فجأة، ولا خلاص لهما إلا بالحكي تنفيذا لأوامر الصوت القوي والمتحكم فيهما، والقادم إليهما من خارج فضاء المسرح، وفكرة الخلاص تتردد بشكل أو بآخر في مسرحية “أريد أن أقتل”(48) لفريق هيفين المسرحي ومن إخراج جوزيف طلعت، فالنص الأصلي لتوفيق الحكيم، وقد تم إعداده بطريقة كوميدية ساخرة ليعبر عن الرغبة في الحياة داخل أجواء من الطمأنينة والحب من خلال فتاة تريد أن تقتل لكي تستطيع التخلص من معاناتها النفسية، فتوقعها الظروف مع زوج وزوجة ومندوب تأمين، وعبر الصراع وتنفيذ رغبتها في القتل تكتشف الكثير من الحقائق التي كانت خافية عليها.
هذا بخلاف المسرحيات الكنسية الدينية الصريحة، سواء تلك التي تستلهم قصصها من الكتاب المقدس من مثل “قلوب مظلمة”(49)، التي تستلهم معجزة “المولود أعمى” من الكتاب المقدس، وتقدمها في معالجة درامية تعتمد الشكل العصري من خلال مجموعة من الشباب يبحثون عن نص مسرحي ليقدموه داخل الكنيسة فلا يجدون النص المناسب، لذا فهم يقررون تأليفه، ويقع اختيارهم على تقديم معالجة درامية لمعجزة “المولود أعمى” التي تغير كثيرا من معتقداتهم وأفكارهم تجاه الواقع أثناء عملهم عليها، والمسرح هنا يسرب نوعا من المعرفة الدينية عبر التباحث حول هذه المعجزة، يسربها أولا لفريق العرض المسرحي، ومن ثم يسربها عبرهم إلى الجمهور المشاهد لهذا العرض. أما مسرحية “تضحية الأب”(50)، وهي إعداد درامي لخدام اجتماع البابا كيرلس السادس للخريجين، وقد تم التنويه عن أنها «قصة حقيقية حدثت بالفعل في القرن التاسع عشر»، وتدور حول تذمر أحد الآباء “ويصا” من عمله داخل الكنيسة ورغبته في استبداله بعمل آخر أسهل منه، لذا فهو يقوم بفعل استجابته لإغواء الشر بتحطيم ساقية المياه في الدير مما يتسبب في طرد رئيس الدير له، لكن الكاهن “يعقوب” راعي الكاهن «ويصا» وصديقه يقوم بإحدى الحيل لكي يحول دون طرد “ويصا” من الدير، لذا فهو يتظاهر بالجنون طالبا من رئيس الدير العفو عن «ويصا»، وفي مستشفى الأمراض النفسية يتقابل «يعقوب» مع ثلاثة نماذج معذبة؛ أولها لـ”شكري” الذي طرده ابنه من المنزل، وثانيها لـ”حنا” الذي أفسد الشر حياة ابنه وابنته وأودى بهما إلى الموت، وثالثها لـ”منصور” الذي تم استغلال جسده وسرقة أعضائه أثناء قيامه بعملية جراحية.
وعلى الجانب الآخر يرى رئيس الدير رؤيا سماوية تخبره بأن «يعقوب» سيموت بعد عدة ساعات، لذا فهو ينفذ طلبه ويعفو عن تلميذة «ويصا »، ويذهبون جميعا لزيارة يعقوب في المستشفى، ثم يعتذر له «ويصا» وبالفعل يموت «يعقوب» في نفس اليوم بعدما قدم من تضحيات أنقذ بها «ويصا «من الطرد خارج الدير...
وتظهر هذه المسرحية وكأنها جزءين منفصلين، الأول يخص حكاية تذمر «ويصا» من أعمال الدير ورغبته في تغيير عمله، والثاني يخص حكاية الكاهن يعقوب مع المرضى الثلاثة (شكري حنا منصور)، والربط الدرامي فيما بينهما ضعيف جدا، كما أن حيلة يعقوب بادعائه الجنون لكي يعفو رئيس الدير عن «ويصا «تبدو ساذجة من خلال معالجة الكاتب، لكن الفكرة إجمالا لا تبعد كثيرا عن كونها فكرة خلاصية تثمن كثيرا عملية التضحية وتدور داخل فضاء أحد الأديرة، كما تنمي فكرة الطاعة وضرورة تنفيذ الأوامر الكهنوتية حتى لو لم تتوافق مع الرغبات الشخصية للكهان والخدام كما يظهر ذلك في حالة «ويصا»، وكما هو الأمر أيضا في عرض “حفلة للمجانين”، الذي تكررت فيه:
 - ابن الطاعة تحل عليه البركة...
ومسرحية “حفلة للمجانين” تنتقد أيضا فكرة الطاعة وتنفيذ الأوامر وتدعو للتغيير والثورة، وهي الأفكار التي تحاول مسرحية “تضحية الأب” ترسيخها بالإشارة إلى ضرورة احترام الأوامر الكهنوتية وتنفيذها رغم كل شيء، بعكس “حفلة للمجانين” المنتقدة بعنف فكرة التراتب في الوظائف الكهنوتية والمطالبة بالتغيير في كل شيء.
بالإضافة إلى ما سبق هناك مئات المسرحيات الدينية الأخرى التي تدور حول المسيح والشهداء والقديسين بدءا من الشهيد مار جرجس وصولا إلى مسرحية “الهرم القبطي”(51) التي كتبتها نرمين فاخر مع أشرف عبده حول حياة البابا شنودة، والتي تسرد مجموعة من المواقف في حياة البابا شنودة من مثل: ميلاده، تعليمه، دخوله لعالم الرهبنة، مواقفه مع بعض الأزمات السياسية كرفضه لمعاهدة السلام “كامب ديفيد” بين مصر وإسرائيل، وجهوده في حل مشكلة مياه نهر النيل بين مصر وإثيوبيا، ولا ينسى النص أن يضع ذلك داخل إطار حكائي درامي معاصر، فهو يختار لحظة إلقاء النظرة الأخيرة على جثمان البابا، حيث يمر الناس من أطياف مختلفة حول الكرسي الذي يجلس عليه البابا متنيحا وهم يودعونه، ولا تنسى المعالجة الدرامية الاستعانة بالكثير من حوارات وعظات البابا وتضمينها النص، الذي يظهر في النهاية وكأنه نص مسرحي احتفائي يقدم صورة درامية غير مكتملة عن البابا شنودة على الرغم من امتلائها بالكثير من المشاعر الإنسانية
والفكر الكنسي يظل قابعا داخل الكاتب المسرحي المسيحي بمسحته الأخلاقية والدينية وبدرجات مختلفة من نص لنص ومن كاتب لكاتب، وأيضا داخل ذهنية الكاتب المسرحي المسلم في حال كتابته لمسرحيات كنسية، فإذا ما اقتربنا من مسرحيات “ناجي عبد الله” سنجد الأمر نفسه؛ ففي مسرحيته “العودة” نجد صراعا عائليا ومجتمعيا حول علاقة اثنين من الأصدقاء: أحدهما مسلم “إبراهيم”، والآخر مسيحي «أسامة»، ومسرحيته “البداية” تتخيل تجلي المسيح في أحد مشاهدها وهو يلقي بعضا من كلماته وتعاليمه، وفي مسرحية “رداء الموت” يصوّر رحلة “عماد” للحياة الآخرة، والصراع القائم بين أفراد عائلته على الميراث، ثم نعرف في النهاية أنه لم يمت بل كان مصابا بضربة شمس أدت إلى فقدانه للوعي، وخلاصة الرحلة دعوة للتوبة والعودة إلى حظيرة الإيمان، أما مسرحية “يا صبر أيوب” فتستلهم حياة العبد الصالح أيوب، وتصوّر مدى المعاناة التي مر بها في حياته ومكافأة الرب له على صبره، وتتضمن المسرحية فكرة البحث عن الإنسان الكامل داخلنا عبر التدرب على الصبر والإيمان ومواجهة الأزمات، وفي “حزر فزر” ندور داخل نفس الفلك حيث تنبني المسرحية على إثارة مجموعة من الأسئلة والبحث عن إجابات إيمانية لها حيث نصل في نهاية الأمر إلى الإجابة الكبرى الخاصة بضرورة التعرف على ذواتنا وعلى ماهية الأمانة الكبيرة/ الدنيا الملقاة على عاتقنا...
إذا الفكر الكنسي بتعاليمه ووصاياه وأخلاقياته وعظاته حاضرا في الذهنية المسرحية الكنسية على اختلاف أشكالها المسرحية ومبدعيها، وهو ما يعني أن الكنيسة حاضرة بقوّة داخل المسرح الكنسي
المسرح الكنسي ما بعد ثورة 25 يناير (كانون الثاني):
المسرحيات التي تقدم في الكنائس لا تخضع في مصر للفحص من قبل جهاز الرقابة العامة على المصنفات الفنية مثلما تخضع معظم المسارح الأخرى، فالمسرح الكنسي يخضع لرقابة داخلية كنسية، وكل عرض يشرف عليه الكاهن مسؤول خدمة المسرح في الكنيسة، لذا فالكنيسة هي المتحكمة في الخطاب المسرحي الكنسي عموما، وعلى الرغم من ذلك تفلت من هذه الرقابة الكنسية بعض العروض من مثل “كنت أعمى والآن أبصر”، “حفلة للمجانين”، فالأول هاجم بعض المتشددين دينيا من المسلمين، والثاني هاجم المتشددين دينيا من رجال الدين المسيحي، لذا فقد زادت الرقابة المسرحية داخل الكنيسة بعد «كنت أعمى...»، وزادت مرّة أخرى بعد الثورة - كما قلنا - خاصة بعدما أعلن البابا شنودة وقتها عدم انسياقه وراء المظاهرات في 25 يناير، وعلى الرغم من ذلك تظاهر الأقباط ورفع بعضهم شعار «أنا مسيحي لكني ضد تعاليم البابا»، لذا شددت الكنيسة على تناول الموضوعات السياسية ذات الطبيعة الحادة في المسرح، وألزمت العاملين بخدمات الأنشطة الكنسية المختلفة بضرورة احترام عقائد الآخر، وزادت عبر هذا التقييد الثاني لحرية المسرح داخل الكنيسة المساحة التي يتحرك فيها فنانو الكنيسة، وعلى الرغم من ذلك دخلت الثورة كنسج مهم ومتمايز في بعض العروض الكنسية بعد الثورة، ففي عرض “مات الكلام” الذي كتبه ناجي عبد الله وأخرجه أمير رمسيس، والذي قدم على قاعة النيل للآباء الفرنسيسكان (أكتوبر 2011)، يتناول الحدث الثوري من خلال فرقة تمثيلية تقوم ببروفات عرض مسرحي لكنها تواجه صعوبة في الخروج من الكنيسة بسبب اشتعال الثورة في الخارج، لذا ظل الجميع حبيسا لأسوار الكنيسة، وهو ما يدفعهم للتفكير في ذواتهم وعلاقاتهم ببعضهم حتى يقرروا معا الثورة على مخرج المسرحية لاضطهاده لهم وتصغيره لأدوارهم داخل المسرحية، والمعنى هنا واضح «الثورة خارج الكنيسة انتقلت وبفعل العزلة إلى ثورة داخل الكنيسة»، وهنا تتخذ فكرة الثورة على المخرج معنى الثورة على نظام مصر خارج الكنيسة، أو الثورة على نظام الكنيسة نفسه.
أما مسرحية “المدينة الحزينة” لأشرف عبده، فترصد أحوال مصر بعد الثورة، وحالة الفوضى التي سادت جميع مناحي الحياة، وتصور الاقتتال السياسي من أجل المصالح الشخصية، وتشير إلى أحداث ماسبيرو المؤسفة وإلى أن الاقتتال السياسي بين الجميع أوصل مطالب الثورة (عيش - حرية - عدالة اجتماعية - إنسانية) بشكل رمزي إلى مجرّد مجموعة من الموتى موجودة داخل توابيتها ومحمولة على الأكتاف في طريقها للدفن.
أما فريق الأنبا رويس بكاتدرائية العباسية، فقد قدم في سبتمبر 2011 عرض “إسقاط النظام”، وهو معد عن قصتين قصيرتين أحدهما بعنوان “الفاليون” لتولستوي، والأخرى “حبة عين العنب” لروبير الفارس، والعرض من إخراج مينا إثناسيوس، ويصوّر ثورة يقوم بها الناس على عمدة القرية بمساعدة رجل غريب وافد على القرية، وبعدما تنجح ثورتهم عليه يخبرهم عمدة القرية بأنه كان ظالما بسبب تعرضه هو نفسه لظلم واضطهاد شديد وقع عليه من الله، وهو الأمر الذي يزيد غضب أهل القرية عليه بسبب اتهام العمدة لله بالظلم، لكنه يلجأ إلى حيلة فانتازية غيبية حتى يصدقوه، وذلك بأن يأخذهم للمقابر ليؤكد لهم كلامه من خلال شهادة ثلاثة من الموتى تعرضوا هم أيضا للظلم من الله لأنه رفض أن يغفر لهم ذنوبهم مما تسبب بوقوع الكثير من المآسي داخل القرية، التي منها مقتل والد العمدة ووالدته، وهو ما جعل العمدة بهذه الشخصية الظالمة، وبغض النظر عن تحليل الأسباب التي أدت إلى تحوّل شخصية العمدة للظلم ومدى سذاجتها من وجهة النظر الدرامية، إلا أننا بصدد فعل ثورة لم يكن موجودا في المسرح الكنسي من قبل، فكلمات: ثورة، سياسة، جيش، انقلاب، إسقاط نظام.. هي كلمات جديدة دخلت لقاموس المسرح الكنسي في بعض عروض ما بعد الثورة، لكن بالطبع يحفها حتى الآن الكثير من المحاذير والموانع الرقابية الكنسية التي تحول دون تحقيق فناني المسرح الكنسي لكل ما يريدون التعبير عنه بحرية كاملة، وهذه المحاذير الرقابية الكنسية الضاغطة هي ما دفعت مثلا القمص يوساب لقطع التيار الكهربائي في محاولة منه لإيقاف عرض “ألبوم شهيد” لأنه يظهر أحد ممثليه وهو يرتدي زي الجيش ويقتل المتظاهرين الأقباط أمام ماسبيرو.
سمات عامة:
عندما تمارس الرقابة على الإبداع دورا مهددا لحرية المبدع وحركة الإبداع ذاتها، فإن استمرار سلطة المنع تؤدي إلى أمر بالغ الخطورة، وهو ما يخص ذهنية المبدع الخاصة ومسار تفكيره الإبداعي، إنه يتحوّل رويدا رويدا وبفعل عملية الضغط المستمر إلى كائن إبداعي مهدد لذاته رقابيا، إنه يراقب تصرفاته الكتابية ويعيد قياسها على قوانين الرقيب التي يعاني منها، حتى يصير الأمر في النهاية إلى استبدال الرقيب الخارجي برقيب داخلي يسكن رأس المبدع.
هناك نقطة أخرى تخص مشاركة الجمهور المستهدف من عملية الإبداع في فعل الكتابة الإبداعي، فالكاتب المبدع يضع في اعتباره وهو يكتب نصه الإبداعي ذوق الجمهور وما يعجبه ويلبي طموحاته وقناعاته، ولذا فهذا المبدع ليس حرا في أن يكتب ما يريد، بل إنه عندما يكتب ما يريد يكتب أيضا وفي نفس الوقت ما يريد الجمهور حتى لا يتهم بتجاهله والتعالي عليه، وبالتالي يصبح إبداعه في هذه الحالة منفصلا عن المجتمع. إذن فالجمهور هو الآخر الذي يتوجه إليه الكاتب بإبداعه والمخرج بعروضه، يسكن دوما رأس المبدع، إذن المبدع تحت هذه الظروف ليس حرا تماما في كتابته الإبداعية ولا في إخراجه للعروض المسرحية، ثمة محاذير رقابية وذوق مجتمعي حاكم له في إبداعاته.
لذا يمكن القول إن الفنان غير المنتمي للمسرح الكنسي ممن يعمل ولو بالصدفة داخل تجارب المسرح الكنسي يقع على الرغم عنه داخل ذلك التحيز الآيديولوجي والديني الذي تعتمده الكنيسة، ويكون مرغما على تنفيذه بغض النظر عن إيهامه بحريته الفنية والفكرية في تناوله لعناصره الإخراجية، فمؤلفو ومخرجو المسرح الكنسي لديهم تحيزات دينية وآيديولوجية، وهناك تعاليم كنسية يجب الالتزام بها، ومعظم العاملين في المسرح الكنسي يشتغلون باعتقاد تقديم خدمة دينية ونوع من التقرب للرب عبر المسرح، فهم يكتبون على بامفلت العرض مثلا “نال بركة هذا العمل”؛ إنهم بصدد عمل ديني ودعوي وتوعوي.
والمسرح الكنسي بدأ دينيا خالصا في أفكاره وموضوعاته المستمدة أولا من الكتاب المقدس، ثم من سير القديسين والشهداء، ثم الاتجاه بعد ذلك، وفي العشر سنوات الأخيرة، إلى الاهتمام أكثر بالموضوعات الاجتماعية المطعمة ببعض الأفكار والعظات الأخلاقية.
كما أن طبيعة الصراع في معظم أعمال المسرح الكنسي تميل إلى إقامة نوع من الصراع الداخلي بين رغبات الشخص الدنيوية وطموحه في الخلاص الأخروي، وهذا التدخل لفكرة الخلاص وهذا التجلي بالظهور للمسيح عبر عظاته ورؤاه يحيل بعض المسرحيات إلى طبيعة صراع غير متكافئة، صراع يحل ميكانيكيا عبر الآلة الإلهية كما كان يحدث في المسرحيات الإغريقية، وهو ما حدا بالكتاب الإرشادي الذي تصدره الكنيسة لأن ينص صراحة على “عدم إقحام الشخصيات المقدسة مثل السيد المسيح والعذراء والملائكة في العروض بداع أو بدون داع..”(52).
والاقتباسات في المسرح الكنسي تتم عادة باقتباس آيات من الكتاب المقدس وأقوال القديسين والشهداء، ونصوص المسرح الكنسي المكتوبة، التي لم ينشرها أصحابها، تكتب في المقام الأول بهدف تنفيذها، لذا لا يوجد اهتمام بالنص الموازي فيما بين الأقواس، وكأن الهدف من هذه المسرحيات هو عرضها لتحقيق هدف مرحلي وليس ضمها كنصوص منشورة تساهم في إثراء حركة المسرح المصري، فلا يوجد اهتمام داخل الكنيسة ولا في أإحدى الدور الاجتماعية أو الفنية التابعة لها بنشر نصوص المسرح الكنسي ولا بتوثيق حركته داخل كنائس مصر، وبالتالي لا توجد كنيسة ولا سلطة كهنوتية تعرف على وجه التحديد كم العروض المسرحية الكنسية المنتجة سنويا، هذا على الرغم من معرفة الكنيسة بأهمية الدور الذي يلعبة المسرح داخلها، وهذا التجاهل الناتج عن عدم التوثيق وعدم الاهتمام بتراكمية حركة المسرح الكنسي ربما هو ما يدفع ببعض المهتمين به من الفنانين إلى الانصراف عنه، وبالتالي لا توجد كوادر مسرحية رائدة ما زالت تعمل داخل المسرح الكنسي، وإنما هي موجات شبابية دائمة التجدد في كل مرحلة زمنية.
وللمسرح الكنسي فرقه الخاصة التابعة للكنائس المختلفة، التي استمر بعضها للعمل ما يقرب من 25 سنة من مثل فريق مار جرجس مثلا، وكل عام تتوقف فرق عن العمل وتنشأ فرق جديدة، ثمة نوع من الحراك المسرحي الدءوب والمستمر والمتجدد.
المسرح الكنسي هو مسرح غير مقصود لذاته ولم يضف تعريفا جديدا للمسرح ولم يتمايز كمسرح نوعي له تقنياته وفرادته الخاصة بل اعتمد على شكل المسرح العادي مع تحميله بالمعرفة الكنسية في مقابل تفريغه من مضامينه الاجتماعية والسياسية الأخرى، وهناك طوال الوقت استمرارية ودأب في تقديم عروض جديدة للمسرح الكنسي كل عام.
والمسرح الكنسي يمكن التمييز داخله بين ثلاثة أنماط: أرثوذكسي يلتزم بتعاليم الكنيسة الأخلاقية والوعظية بصفة عامة، وبروتستانتي تظهر فيه الأفكار الخلاصيه أكثر من غيرها، بينما المسرح الكاثوليكي ليس له ثمة محددة أو ميزة خاصة يمكن الحديث عنها، هذا بالإضافة إلى ندرة وجوده، فإذا كان المسرح الكنسي في عمومه ينتج مثلا مائة عرض مسرحي سنويا، فإن 70% منها تنتمي للأرثوذكس، 20% للبروتستانت، 10% للكاثوليك، وهذا مرجعه يعود لعدد الأقباط المصريين المنتسبين لكل طائفة من هذه الطوائف في مصر وليس لاهتمام كل طائفة بفن المسرح.
هوامش
46 - قدمه فريق “كلمة في صورة” لكلية الخدمة الاجتماعية بجامعة حلوان، وهو فريق تابع لأسقفية الشباب بالكنيسة، وقد قدم العرض ضمن ملتقى بساطة للمسرح الحر، الذي أقامه فريق ألفا أوميجا المسرحي في يناير 2013 على مسرح الأنبا أنطونيوس بشبرا، والعرض منشور على رابط: www.youtube.com wach?v=po8nlpzwxfo
47 - قدم أيضا ضمن ملتقى بساطة/ يناير 2013، ومنشور على رابط www.youtube.com wach?v=hgtfxfd_euu
48 - قدم أيضا ضمن ملتقى بساطة/ يناير 2013، ومنشور على رابط www.youtube.com wach?v=hwhtqxqaco
49 - قدم أيضا ضمن ملتقى بساطة/ يناير 2013، ومنشور على رابط www.youtube.com wach?v=hwhtqxqaco
نص مسرحية “قلوب مظلمة”، نسخة مخطوطة من المؤلف أشرف عبده.
50 - نص مسرحية “تضحية الأب”، قدمها فريق البابا كيرلس المسرحي بكنيسة العذراء مريم بأرض الشركة، ضمن “اجتماع البابا كيرلس السادس للخريجين والخريجات”، والنسخة مهداة لي من الكاتب أشرف عبده.
51 - نص مسرحية “الهرم القبطي”، نسخة مخطوطة من المؤلف أشرف عبده 51
52 - مسابقات الخدام والخادمات: دار الجيل للطباعة/ سابق ص129.


إبراهيم الحسينى