«الولايا» يكسر صمت «إدريس» ويشعل المصباح في الأقصر

«الولايا» يكسر صمت «إدريس» ويشعل المصباح في الأقصر

العدد 550 صدر بتاريخ 12مارس2018

تواطأ الجميع على الصمت؛ الأم وبناتها الثلاثة والزوج الكفيف والخاتم والمصباح، حتى لا تتحول الغرفة الفقيرة التي تجمعهم تحت سقفها الواطئ إلى جحيم غير محتمل. وحتى لا ينقض العالم الذي صنعوه من الجنس المحرم فوق رؤوسهم. كانوا أصغر من أن يواجهوا مأساتهم، وأكبر من أن يتعايشوا معها وكأن شيئا لم يكن، فاستمر الوضع، واستمروا في تناول الطبخة المسمومة، دون قدرة على الرفض والمقاومة، تتبادل أصابعهم الخاتم في صمت، بعد أن يطفئوا المصباح.     
لم تكن تلك السردية التي شيدها يوسف إدريس في “بيت من لحم” هي نفسها التي نسجها الشاعر والكاتب أسامة البنّا، عندما استعان بها في كتابة نصه” الولايا” الذي قدمته قومية الأقصر، مؤخرا، على خشبة مسرح قصر ثقافة الأقصر، من إخراج أشرف النوبي.
  قدم “البنّا” نصا جديدا، وليس إعدادا لنص، مستفيدا من حدوتة “بيت من لحم” في إنتاج سردية أخرى، أكثر شمولا، تتضمن النص الإدريسي وتتجاوزه في آن، فيما يعرف بـ (التناص)، أو بالتعالق النصي (حسب جوليا كرستيفا) وهو ما يشير إلى عملية تقاطع أكثر من نص على أرضية النص الجديد، ومن خلال هذا التفاعل، ينتج المؤلف معماره و رؤيته الخاصة.      
أقام عرض” الولايا” مجتمعا مغلقا – يشبه أي مجتمع مغلق آخر- واتخذ منه مركزا جديدا لأحداثه، يفسر عبر قوانينه الداخلية سلوك أبنائه، ومصائرهم، الأمر الذي انتقل بالحدوتة الإدريسية من المتن إلى الهامش، وجعلها بمثابة الشاهد الذي تتجلى خلاله مشكلة أكبر، هي مشكلة المجتمع الذي يغلق أبوابه في وجه الآخر، مصمما على أن  يحبسه دائما في وضعية “ الغريب” لا يغادرها، حريصا على ألا يجرح هذا الغريب “هويته” أو يهدد ما يتصور أنها ملكيته الخاصة، الأمر الذي يحول هذا المجتمع إلى قاتل أو متواطئ على القتل من ناحية، كما يؤدي - بدرجات متفاوتة - إلى تحلله وفساده من ناحية أخرى؛ ومن ثم يقع التأثير الأكبر على الفئات الأكثر هشاشة، وعلى رأسها المرأة، التي تتحول بفعل سلوك مجتمعها إلى آخر، يمكن العسف به إذا طالب بالحقوق نفسها التي رتبتها (الأنا) لنفسها، بوصفها المركز المطلق، حامل الهوية، وصاحبة الملكية.        
يقدم العرض – إذن-  نقدا جذريا لهذا الموقف الاجتماعي المتصلب تجاه الآخر، من خلال ما كشفت عنه الدراما من مصائر مأساوية، فقد تحول الأخ (عوض) ممثل هذه الذهنية الاجتماعية، وصاحب الهيمنة إلى قاتل، تطارده لعنة القتل، بعد ما رد “الغريب” ورفض طلب زواجه من أخته(عسكرية) بل وقام بقتله، إمعانا في تأكيد الرفض، ومصادرة سعي الغريب للاقتران بـ ( عسكرية) إلى الأبد. فيما حلت المصيبة بتلك الأخت، إذ حُرمت من الغريب الذي أحبته وتمنته زوجا، وأٌجبرت على الزواج من (جابر) الذي قتله – فعلا لا مجازا - إحساسه بأنه لم يكن الرجل الذي ترضاه زوجته، وقد تبين له أنها لم تكن أكثر من جثة تعيش معه بلا روح،  حتى بعد أن أنجب منها الثلاثة بنات. لم يتوقف العقاب الذي ترتب على خطأ ( الأخ/ المجتمع) عند هذا الحد، إنما امتد - بالضرورة - ليطال بنات (عسكرية)  وقد عوقبن بالافتقار إلى الجمال، كونهن الحصاد المُر لسيرة أم أحبت غريبا وحرمت منه، من ناحية، ولزواج بلا حب أجبرت عليه من ناحية أخرى، الأمر الذي قضى على فرصهن في الزواج، وجعل الخطّاب لا يقتربون منهن، حتى أبناء الخال، وبموافقة  الخال نفسه. فلم يبق لهن من تلك السيرة التعسة إلا الجوع الجنسي. كما لم يترك هذا المجتمع من خيارات أمام الأم إلا أن تستسلم تماما، فترضى بالزواج من المقرئ الأعمى، لتكتمل المأساة، فبدلا من أن يشكل وجود رجل في البيت نوعا من الحماية لسمعة البنات، تحول إلى طعام مسموم لإشباع جوعهن، وقد ارتدين” خلخال الأم  – استبدله العرض بالخاتم - دون علمها. فتقرر الأم بعد اكتشاف المصيبة الهرب ببناتها بعيدا، قبل أن تستيقظ القرية على الفضيحة.
 ( عسكرية ) وبناتها هم التجلي الأظهر لخطأ هذا المجتمع وانغلاقه، وقد رأى العرض أن يشعل - من خلال مأساتهن – مصابيحه، ويدق أجراسه، بديلا عن الصمت والعماء، والتواطؤ بسبب قهر الحاجة و قلة الحيلة .
لم تقتصر دراما العرض الأقصري على تيمة قهر المرأة، وإخضاعها بالعادات والتقاليد الاجتماعية، إنما تجاوزتها بأن وضعتها داخل رؤية مركبه أشمل، تعيد طرح الأسئلة حول رؤية المجتمع لنفسه، ومن ثم رؤيته للآخر، وما يمكن أن يحدثه الخطأ في النظر إلى الذات وعلاقتها بالآخر من تأثيرات، ربما تصل إلى إهلاك الذات نفسها، وربما إهلاك الآخر أيضا.   
يحسب للمخرج أشرف النوبي في تفسيره للنص، عبر تحويله إلى صورة وحركة تدب على المسرح- بمساعدة العناصر الأخرى- التقاطه المرهف لأهم المفاصل الدلالية، واستثمارها الجيد على مستوى صناعة الفرجة، وهو ما يتضح مثلا على مستوى الديكور في إغلاق خلفية المسرح بما يشبه الجدار المرتفع، تعبيرا عن البيئة المغلقة، وما يتضح أكثر في إلباس روح “الغريب المقتول” صورة أقرب إلى المسيح، تطوف بفضاء القرية، كأنها الإدانة، يذكّر حضورها بفداحة خطأ القرية، ومسئوليته عما يحيق بالشخصيات من مآس، كما يمكن أن  تشير هالة النور التي تحيط برأس ذلك المسيح، وملابسه البيضاء، إلى الخير الذي أغلقت الأبواب دونه، وإلى الحب الذي تم صلبه، ولم يسمح له بالدخول، فنراه مشفقا أحيانا حين تتعلق نظرته بالضحايا، كالأم وبناتها، ومرعدا أحيانا أخرى في حضور قاتله الذي لم يعد يستطيع النوم بسبب تلك النظرات التي تطارده، وقد أدى ( أحمد الصادق ) الدور، بشكل جيد، كما نجح المخرج بواسطته في أن يشكل مركزا دلاليا مهما داخل العرض، مستخدما نظرات عينيه وحضوره الجسدي فقط، و مستعينا بصوت خارجي في بعض المواقف أداه الفنان”حجاج ثابت”.
انضباط العرض، وإيقاعه المتدفق، الذي حمل تنوعا على مستوى الصورة، ما بين حضور المجاميع، وحضور الشخصيات، وتتابع المشاهد الجادة، التي يقطعها     الترويح الكوميدي، أو أغاني وألحان ( عبد المنعم عباس) في التوقيت المناسب، إضافة للأداء الجيد لكثير من الممثلين، وإضاءة د. حجاج كحول، كل ذلك مما يحسب للعرض، ومخرجه والمشاركين فيه.
دكتورة داليا صالح، وما قدمته على مستوى صياغة الصورة البصرية، فيما يتصل بالديكور والأزياء، كانت من أكثر العناصر بروزا في العرض، إلى الحد الذي يجعلنا نحسب أنها قدمت عرضا داخل العرض، وهو ما يمكن أن نلحظه في ذلك الجهد المبذول في تحويل كل قطعة ديكور أو ملابس على الخشبة إلى علامة، إما على البيئة المحيطة بالأحداث، وإما على الحالات النفسية و مواقف الشخصيات والجموع داخل الدراما، وهو جهد مطلوب وضروي بغير شك، و لكنه -مع ذلك- مشوب ببعض الخطورة، حيث يمكنه أن يتحول إلى عبء على التلقي، خاصة إذا كانت العلامات تتبع حقولا دلالية ليست من النسيج الدرامي نفسه، ومن ثم تحتاج إلى تأويل خاص، الأمر الذي يستفز وعي المشاهد ويفصله لبعض الوقت، وهي إشكالية فرضت نفسها على تلقيّ للعرض، خاصة فيما يتصل بعنصر الملابس، واستخدام المصممة للخطوط والألوان. هذا بالطبع لا ينقص من تقديري للجهد والوعي المبذولين، خاصة وقد نجحت المصممة في تقديم صورة كلية تدعو إلى الاحترام، و تجعلنا ننتظر القادم.
أما ممثلي العرض فيستحق كثيرون منهم التحية: نرمين ميشيل، نشوى مرجان، أيام أبو الحجاج، وسنبل فهمي، ونجلاء فتحي، والفنانة القديرة صباح فاروق، ومعهم محمود أبو القاسم، عبد العاطي نجدي، سها سامح، فاطمة إبراهيم، ممدوح فخري، وحجاج محمد.
“الولايا” عرض جيد، يحمل رسالة مهمة، لكل مجتمع مغلق، أو قرية ظالمة لنفسها.


محمود الحلواني