مفتاح شهرة عن غريزة الشغف التي تخصنا جميعا

مفتاح شهرة عن غريزة الشغف التي تخصنا جميعا

العدد 537 صدر بتاريخ 11ديسمبر2017

لا يرتبط عرض “مفتاح شهرة” على مستوى فكرته الأساسية بالقراءة الظاهرية للنص والأداء والسياق الشكلي والذين يرتبطون بتيمة حلم الشهرة والتحقق الضائعين - اللذان يجسدهما الكومبارسات المتكلمة مفتاح وشهرة - ولكنه يتجاوز كل هذا إلى فكرة غريزة الشغف التي توجد بداخلنا جميعنا، والتي لا ترتبط بكون شخصيات العرض تنتمي إلى عالم الفن والسينما، فالبشر جميعا يشتركون في تحول شغفهم الوجداني والمهني إلى مسألة غريزية، خاصة عندما يتم إجهاض هذا الشغف أو إضعاف طرق الوصول إليه نتيجة لظروف ضاغطة – اجتماعية وإنسانية - أو اختيارات حياتية خاطئة.
أن فكرة ممارسة الشغف - حتى لو كانت ممارسة خافتة - في إطار من أحلام اليقظة هي ما منحت هذا العرض عمقه الحقيقي، وإلا لأصبح مجرد مساحة لتعاطي الكثير من الكلاشيهات الحوارية والمشهدية التي سبق وأن قدمت كثيرا من قبل، خاصة في ما يتعلق بتيمة الكومبارس الضائع ما بين حلمه بالشهرة ورغبته في ممارسة الفن أو الانصياع لآليات السوق من أجل تحقيق مساحة من الأمان المادي والاجتماعي.
يبدأ العرض من دخول مفتاح في هيئة عريس وشهرة في فستان عروسة من جهة الصالة وليس من جهة الخشبة، إنها تفصيلة مكانية في ظاهرها وكأن المخرجة – دعاء حمزة - تحاول أن ترسم لنا بيئة الحركة التي سوف تحتجز فيها شخصياتها (غرفة تغيير الملابس)، ولكن ما يبدو عقب تقدم العرض زمنيا ودراميا هو أن هذا الدخول هدفه أن يصبح كل من مفتاح وشهرة نموذجين يعبران عنا نحن الجالسين في الصالة فيما يخص مسألة الشغف المنتهك من قبل الظروف والآخرين.
ينطلق العرض وكأن مفتاح وشهرة عروسين بالفعل يتشاجران في ليلة زفافهما وهو إيهام مقصود لتحقيق جاذبية الهجوم الأول على المتفرج ثم يتصدر المشهد الواحد للعرض معلومة أنهما مجرد كومبارس في هيئة عريس وعروسة وأن مفتاح أفسد برغبته في التجويد أداء المشهد وقام بسكب الشربات على فستان شهرة التي لم يكن لديها أي رغبة سوى في أداء المشهد بشكل اعتيادي لا سبيل فيه لأي فن أو إبداع، فهم في النهاية مجرد كومبارسات متكلمة وليسوا نجوما ينتظر الجمهور أي فعل بسيط لهم كي يهلل لهم.
بمجرد أن تتكشف معلومة الكومبارسات ويتم احتجازهم نتيجة وجود تصوير في الخارج يتخذ الديكور الخاص بالعرض أبعاده النفسية والفكرية المطلوبة، فغرفة تغيير الملابس التي تكتظ بالإكسسوارات وملابس الشخصيات تصبح انعاكسا لما هو بداخل هذه الشخصيات الشغوفة بالفن والتشخيص من طاقات تمثيلية مكبوتة، حتى إنهم بعد أن يجتازوا مرحلة التعارف ثم يبدأ كل منهم في إطلاق ما بداخله من شخصيات وأدوار – أغلبها مأخوذ من أفلام كلاسيكية معروفة - يحدث لهم ما يشبه هيستريا التحرر حيث يبدأون في إلقاء الملابس والإكسسوارات هنا وهناك وكأن أشباح الشغف تنطلق من داخلهم لتجوب الخشبة وتتطاير معلنة عن أنها لن تستسلم للكبت الاجتماعي والنفسي والإنساني الممارس عليها.
تتبلور فكرة غريزة الشغف من خلال العلاقة التي تبدأ تصادمية ما بين مفتاح وشهرة ثم تتطور إلى صداقة مشبعة بميل عاطفي وارتياح شعوري واضح، فكلاهما مسكون بالرغبة في التحقق ومطاردة الحلم الضائع الذي يوشك أن ينفلت إلى الأبد، ورغم قسوة الظروف من حولهما ورغم احتباسهما الظاهري في غرفة الملابس - كدلالة مكانية واضحة عن أنهما محبوسان داخل نفسيهما ومحاصران مع أحلامهما غير قابلة التحقق – فإن أفكارهما ومشاعرهما وغرائزهما تتجه نحو التعبير عن شغفهم المدفون، الذي هو محركهما الأساسي في الحياة، وملجأهما لتقبل قسوة القدر ودمامة الواقع – حيث يحكي كل منهما للآخر ولنا كجمهور في البداية الصدامية عن خلفياتهما الشخصية - فكل من مفتاح وشهرة لا يستمرون في الصدام ولا تمتد علاقتهما لمجرد شغف جسدي أو عاطفي بل يصبح محبسهما الإجباري خلال ساعات التصوير هو متنفسهما لممارسة شغفهما حيث نراهما يتقمصان شخصيات من أفلام كثيرة تعكس ما هما مسكونان به، وذلك مع مساحة من الطرافة التي لا تنزلق إلى فخ المحاكاة الساخرة، فكل من مفتاح وشهرة لا يتعاطيان مع تلك الأدوار أو الشخصيات باستهانة أو استخفاف بل عبر مشاعر الشغف التي تتوق لدور مماثل في فيلم شبيه من تلك الأفلام.
وتصبح ذروة هذه الممارسة الشغوفة تحرر طاقاتهما الداخلية المكبوتة ومن ثم رفضهما أن يغادرا مساحة الراحة والحرية – المتمثلة في غرفة تغيير الملابس - لكي يعودا إلى العالم الخارجي الممتلئ بالكبت والجمود وضياع الروح.
يقوم كل من مفتاح وشهرة بغلق الغرفة من الداخل بعد أن كانا يتوقان لمغادرتها، لقد صارت مساحة محررة من قسوة العالم، وحالة إنسانية من حالات ممارسة الشغف التي نتوق إليها جميعا.
لكن بما أن السياق في النهاية هو سياق واقعي يتاخم فانتازيا أحلام اليقظة – المتمثلة في تقمص أدوار من أفلام العصر الذهبي - يتوجب على مفتاح وشهرة أن يغادرا غرفة الشغف عائدين إلى الواقع، ولكن هذه العودة تختلف كلية عن الدخول، فبعد أن كان الدخول عبارة عن شجار وتصادم ما بين الاثنين، تصبح العودة هي اقتران حميمي وإنساني وشعوري لطيف بعد أن أحس كل منهما أن ممارستهما للشغف أعتقت روحيهما من قيود كثيرة وجعلتهما أكثر اطمئنانا أن إصرارهما وصبرهما على مكاره الإحباط وتآكل صيغ الأحلام وتلاشي سبل الوصول إلى أهدافهما هو إصرار وصبر مستحق وغير قابل للتفاوض أو التنازل عنه مهما كان، وهو نفس الإصرار والصبر اللذين ينتقلان إلى المتفرج عبر حالة التماهي ما بينه وبين مفتاح وشهرة وهم يمارسان شغفهما الأثير والملون.
يعود مفتاح وشهرة إلى الصالة كما دخلا منها، لكنهما متأبطا الأذرع، بلا شجار ولا أكاوب شربات مسكوبة، فخوران بأحلامهما وممتنان لشغفهما المتطاير هنا وهناك مع ملابس الشخصيات التي ينتظران أن يقدماها.
يختصر عنوان العرض «مفتاح شهرة» الكثير من ضمنيات الفكرة والسياق الشعوري، فهو نكرة مضافة إلى نكرة، وإضافة النكرة لنكرة يفيد التجريد واتساع مساحة التأويل، فهو ليس مفتاح الشهرة أو مفتاح للشهرة، بل هو أقرب للنصيحة منه للتوصيف أو استغلال أسماء الشخصيات في الحصول على عنوان سهل ومريح، أن الشهرة هنا ليست مرادف للشهرة الفنية أو السينمائية لشخصيات العرض التي تعمل ككومبارسات تنتظر فرصة التمثيل والنجومية، بل إن المقصود بها هو التحقق الإنساني الناتج عن ممارسة الشغف بشكل غريزي مهما كانت الحياة ملغمة بالإخفاق والخفوت، وبالتالي يصبح سياق العنوان هو مفتاح التحقق عبر ممارسة الشغف والتحرر من أي كبت مهما كان ثقيلا.
باستثناء وجود الممثل عماد إسماعيل في دور مفتاح يعتبر العرض أقرب لعروض الشخص الواحد ولا نقصد به المونودرما ولكن الطاقة المسرحية التي تدعي دعاء حمزة قدمت جهدا على مستوى الكتابة والإخراج والتمثيل وبث روح حية في سياقات العرض – بعد خبرات في عروض الحكي والتشخيص اللافت في تجارب الآخرين - بشكل يجعلها من أبرز الوجوه الشابة خلال الفترة الحالية، حيث تعتمد دعاء على عفوية واضحة تجعلها لا تؤدي الدور بل تمارسه، ورغم ما شاب العرض من كلاشيهات حوارية ومشاهد محاكاة طريفة للأفلام القديمة، فإن السياق العام والإطار الشعوري والفكري استطاع أن يدمج كل هذا في صورة طازجة لولاها لسقط العرض في فخ النمطية بلا منقذ.
وقد استطاعت دعاء كمخرجة أن تُكسب عماد إسماعيل الذي يتقاسم معها العرض نفس القدر من العفوية والبساطة في الأداء، بل إن اختياره على مستوى الشريحة العمرية والشكل الخارجي هو اختيار موفق جدا حيث يبدو عماد بالفعل وكأنه كومبارس في أواخر الثلاثينات لا يملك أي ميزات ملامحية أو وسامة ذكورية لكنه يبدو أقرب للموظف منه للممثل، صحيح أنه ممثل جيد ولكن جزءا من ذكاء الإخراج أن يتم اختيار الممثل الذي يبدو وكأنه هو الشخصية بالفعل وليس كمن يصلح لأداء الشخصية.


رامي عبد الرازق