القهوة - الجَبَنة - وأصالة التراث الثقافي لقبائل منطقة الحدود الجنوبية

القهوة - الجَبَنة - وأصالة التراث الثقافي لقبائل منطقة الحدود الجنوبية

اخر تحديث في 6/3/2020 6:53:00 PM

د/ جيهان حسن مصطفي .. دكتوراة في الأنثروبولوجيا الثقافية

تتمتع المنطقة الجنوبية حلايب والشلاتين وأبو رماد بتراث ثقافي غني يتعدى البنية المادية للمواقع التاريخية، إذ يتجسد في منظومة غنية من عناصر التراث المعنوي المتوارثة على شكل عادات حياتية وتقاليد يومية وممارسات اجتماعية وحرف ومهن تقليدية، تشكّل كلها معاً جوهر الثقافة الجمعية لقبائل العبابدة والبشارية، ويعدّ الحفاظ على هذه العناصر التراثية ضمان استمراريتها في ممارساتهم اليومية أولوية رئيسية لدائرة الاستدامة.

وتعدّ "القهوة أو الجَبَنة بفتح الجيم والباء" من أبرز هذه العناصر المتأصلة في قلب ثقافة المنطقة الجنوبية بشكل عام.

 حيث تعدّ القهوة جزءًا أساسيًا من الضيافة، وتعكس التقاليد المرتبطة بها أصالة تراث المنطقة، وتمثّل طريقة تقديمها أهم تقاليد الضيافة في المجتمع البدوي عامة وقبائل العبابدة والبشارية خاصة، فضلاً عن كونها رمزاً للكرم واحترام الآخرين وتقديرهم. وظلت القهوة "الجبنة" تُشكل جزءًا أساسيًا من الثقافة وتراث المنظقة الجنوبية على مدار سنوات عدة، وتتميز طريقة تحضيرها وتقديمها بتقاليد ومراحل دقيقة..

فقد لعبت "الجبنة" القهوة دورًا محوريًا في ترسيخ الحياة الاجتماعية باعتبار أن مجالسها أسهمت في بلورة مكونات المنظومة الثقافية والأنماط السلوكية وفي مضمون نمط الحياة اليومية، باعتبارها رمزًا لهذه المنظومة لتكشف عن رؤى أو فلسفة تميزهم عن الآخرين وتنعكس دائرة الثقافة والتراث لمنطقة الحدود الجنوبية الرامية إلى الحفاظ على  طقوس القهوة أو الجبنة لقبائل العبابدة والبشارية باعتبارها حجر أساس ثقافة الضيافة للعبابدة والبشارية ليتجلي شرب القهوة الذي اصطبغ بعادات البدو وتقاليدهم وقيمهم وممارساتهم اليوميّة لذلك أصبحت عنوانًا لأكثر القيم تقديسًا واحترامًا في المجتمع البدوي، وهي الكرم والشّجاعة. فعادات البدو وقيمهم التي استوعبت الدلائل الرمزية في الأوساط البدويّة من حيث طريقة إعدادها وكذلك الأدوات التي تُعدّ بها. وحتى طريقة توزيعها للضيوف في فناجين خاصة بها وطريقة شربها. فهي تقليد متوارث عن الآباء والأجداد، وموروث يعتزّ البدوي به ويفخر. فهي دليلا للكرم وحسن الضيافة والشهامة والرجولة. من هنا جاء تفنّن البدوي بإعدادها، فلها حضور دائم في الأحزان والمسرات والليالي المقمرة وجلسات الونسة. فيها يبتدئ الحديث وبها يُختتم، وتفضّ الاجتماعات وينتهي الجدل. والقهوة من أكثر العناصر التراثية تغلغلاً في الحياة الشعبية للأفراد في حياة بدو العبابدة والبشارية. فالقهوة وسيلة إيجابية ليس فقط في تنشيط التفكير بل أيضاً وسيط رمزي هام في تعزيز قيم الكرم والضيافة، كما أنها تقوم بدور حيوي وفعال في عمليات التواصل الاجتماعي بين الأفراد والجماعات لذا فمن النادر أن يعثر المرء على فرد بين بدو العبابدة والبشارية لا يجيد إعداد القهوة أو طريقة توزيعها على الضيوف. لأن الصغار يشبّون ويكبرون على رؤية تلك الطقوس والعادات وكيف يجري الاستعداد لها وتكريسها واحترام قواعدها

ومن هنا تعتبر القهوة أو الجبَنَة كمفردة من مفردات التراث الثقافي لجماعات الجنوب، فإعداد القهوة وتقديمها جزء من التراث الشعبي لذا فهي تعتبر لغة للحياة اليومية حيث تتجلي أهميتها في طقوس الضيافة بين بدو الشلاتين، ويتضح لنا مدى تغلغل الطقوسية والرمز في إعداد القهوة (الجبنة). وتعد "الجَبَنة" المعروفة بـ"الدلة الفخارية" واحدة من أشهر الأواني التي يستخدمها أهالي المنطقة الجنوبية و"دلة الفخار" بحد ذاتها، قطعة فنية، لا مجرد وعاء بسيط، خاصة تلك المصنوعة يدوياً، والتي كثيراً ما تحمل بصمات صانعها الحرفي الخبير، ورغم ذلك، فكثيراً ما رسم الفنانون في لوحاتهم التي تجسد الطبيعة الصامتة، الدلة والفناجين. كما نحتوا شكل الدلة بخامات مختلفة وتسمى الفونتوك وهي"الدلة الفخار" فالماء الذي لا يفتر صوته والنار التي لا تنطفئ علامتان من علامات الكرم البارزة، حيث تضفي نكهة خاصة عليها وتحتفظ بحرارتها مدة مناسبة، لتشكل بذلك عنوانًا ورمزًا. و"الجَبَنة" واحدة من أهم الصناعات اليدوية التقليدية التي تمثل جزءًا من ثقافة المنطقة ورمزاً لخصوصيتها، حيث عمد أهالي المنطقة منذ القدم للتعامل مع موارد البيئة الطبيعية من حولهم تبعاً لاحتياجاتهم المعيشية ووفق نسق خاص يحافظون على إرث ثقافي توارثوه عن الآباء والأجداد.

حيث يرسم الشعر الشعبي صورة إيجابية للقهوة، فهي من منظور تفاعلي شيء مقدس، لذا يحتل موضوع القهوة موقعًا متميزًا في بناء القصيدة الشعرية فقد يستخلصوا من القهوة معنى إنسانيًا ورمزًا اجتماعيا. ويتجلي الشعر البدوي في لغة شعرية جديدة استطاع توظيفها لترسيخ بعض القيم الأساسية التي تتطلبها حياة الصحراء حيث نجد أن شرب القهوة يمثل مصدر من مصادر العشرة والود واستقبال الضيف في البادية كما أنه شكل من أشكال التماسك الاجتماعي.

إن للقهوة أغان خاصة تغنى في المناسبات كالأفراح أو جلسات السمر وهناك بعض الأغاني المحفوظة والمتداولة منذ أزمان بعيدة ولا زال الناس يتغنون بها بمصاحبة آلة الطمبور وتتضمن كلمات الأغنية وصف لأنواع الشجر الذي يعد منه الفحم الذي يستخدم فى صنع القهوة أو الجبنة يتضمن الوصف كذلك لون الجبنة (القهوة) وصفاؤها.

حيث اقتضت العادة أن تصنع القهوة في الصباح الباكر قبل البدء بالأعمال العادية، (كرعاية وحلب الإبل والأغنام أو الذهاب للاحتطاب أو غيرها من الأعمال اليومية)، حيث يبدأ صانع القهوة بإشعال النار بالموقد الذي يتوسط عادة المضافة، (هو عبارة عن حفرة صغيرة تتوسط المضافة) ثم يضع الحطب فيقوم بإشعال النار ويعد الجبنة "القهوة"، ومن الأمور التي كان ولا يزال يتفاخر بها البدوي المهارة في صنع وإعداد القهوة لاعتقاده أن طعم القهوة جيدة الصنع يزيل آثار التعب والتوتر، ويظهر لنا هذا المعتقد بصورة واضحة في مجتمعات حياة البادية.

وللجبنة آداب، فعلى الضيف ألا يترك أي بقايا للجبنة أو القهوة بداخل الفنجان، لأنهم يعتبرون ذلك إهانة لهم مادام لم يقلب الفنجان على وجهه فمعناه أنه يريد المزيد وعندما لا يرغب الأهالي في ضيف عندهم لا يقدمون له هذا المشروب تعبيراً عن اعتراضهم على وجوده كما يعتقدون أن العدد الفردي في الجبنة يدعو إلى التفاؤل ماعدا العدد واحد.. ويشرب البدوي الجبنة فرادى أي العدد الفردي 1، 3، 5، 7، .. فهم لا يقبلون العدد الزوجي وكلما شرب البدوي أعدادا كثيرة دليل على الكرم وحب الشارب للمضيف لأن صاحبه ليس صابرًا وكثيرًا لحركة اللف والدوران لأن الجبنة ونستها تدعو إلى الطمأنينة والمودة والسكينة والكرم، فقد عرف بدو الشلاتين بعشقهم للحرية وكراهيتهم للاستكبار والإذلال.. كذلك يتميز البدوي بالكرم بدليل عشقه لمشروب الجبنة والذي يحمل أكثر معاني المروءة والشهامة وها هو بعض من شعر البشارية ما يجسد هذه المظاهر الايجابية في قولة "بوصيكم على البيت الكبير ابنوه***بوصيكم على السيف السنين اسعوه ***بوصيكم على الجار أن وقع شيلوه ***بوصيكم على الولد اليتيم ربوه ***بوصيكم على ضيف الهجوع عشوه.

فقد كان هناك اﻋﺘﺒﺎرات للصبغة ﺍﻟﺴﺤﺭﻴﺔ ﻭﺍﻟﺘﻲ ﺘﻘﺘﺭﺏ ﻟﺒﻌﺽ ﺍﻷﺭﻗﺎﻡ ﺍﻟﻔــﺭﺩﻴﺔ ﻤﺜل ﺍﻟﺴﺒﻌﺔ ﻭﺍﻟﺜﻼﺜﺔ، ﻓﻜﺜﻴﺭ ﻤﻥ ﺍﻟﻘﻨﺎﻋﺎﺕ ﺍﻟﻌـﻘﺎﺌﺩﻴﺔ ﻓﻲ ﺍﻟﻭﺠــﺩﺍﻥ ﺍﻟﺸﻌﺒﻲ التي ﺘﺭﺘﺒﻁ ﺒﺎﻟﺭﻗﻡ ﺴﺒﻌﺔ. ﻓﺎﻟﺴﻤﺎﻭﺍﺕ ﺴـﺒﻊ، ﻭﺍﻟﺨــﻠﻕ ﺘﻡ ﻓـﻲ ﺴﺒﻌﺔ ﺃﻴﺎﻡ، ﻭﺍﺒﻥ ﺍﻟﺸﻬﺭ ﺍﻟﺴﺎﺒﻊ ﻴﻌﻴﺵ ﺒﻴﻨﻤﺎ ﻻ ﻴﻌﻴﺵ ﺍﺒﻥ ﺍﻟﺸﻬﺭ ﺍﻟﺜﺎﻤﻥ. ﻭﻫﻜﺫﺍ ﺇﻀﺎﻓﺔ ﺇﻟﻲ ﻤﺎ ﺃﺸﺭﻨﺎ ﺇﻟﻴﻪ ﻤﻥ ﺍﻟﻁﺒﻴﻌﺔ ﺍﻟﻤﺘﻤﻴﺯﺓ ﻟﻠﺭﻗﻡ ﺴﺒﻌﺔ. ويُطلب من العريس إذا كان يريد شراكة زوجته العروس ناقة أو قيمتها الحقيقية، وجملا آخر للأب، وهذا يترك حسب ظروف الزوج، ويدفع من 6 إلى 12 عنزة أو نعجة أو بدلا منها، ويسمى سبعة وسبعة وسبعة من الأغنام: سبعة للسيف، سبعة للدرقة، سبعة للحربة، وتكون وقفا على معاملة الزوج لزوجته وأهلها أن قيمة (سالف) عنها والمراد هنا القيمة المعنوية المادية، ويعتاد البدو على تناولها في أوقات كثيرة وعديدة. لذا فهي تعتبر عادة من عادات البدو لتوقير الكبير واحترام الصغير حيث تتناولها السيدات عند الضحى، ويحرص عليها الأطفال ذكورًا وإناثًا، ولذلك عبر أهل البشارية والعبابدة عن أهمية الجبنة في عديد من الأغاني ومنها هذه (الأغنية) الجبنة الجب ون الحكرك بناي،***الياقوت ما دحك والدهب جلاي،***الجبنة الجبون***سيد مو أجوال،****من دغش كبير تنقر بالا حداد بكريك***أحسن من تلتايك،***زي خيط العسل البكر في الفنجان***، سوي الجبنة يا بنية في ضل الضحاوية ***سوي الجبنة وإسفيني قد فنجان يكفيني***ما بيغشك عمي عيني***قلبي بيعرف الزيني***الجبنة الظريف بنها***حالف ما يفوت عنها ***سوي الجبنة بالبابه***رغم اللي يرضي واللي يأبي***سوي الجبنة يا أم خلخال، للناس اللي يعرف الحال***وارمي في القلاية شوال***ما مثل تلقيمه التجار***قالتلي الدار خالية***غيري وغيرك زول ما فيها***وسوتلي في الحي بنطريها***دقت عود ودربكة، كما يشيرون إلي فوائدها في أغانيهم للجبنة (القهوة) ومنها: سوت لى جبنه دقت عــوده***أخذت شفته من بوكريها (فمها) كما تظهر جودة مهاراتهم وعمق معرفتهم بهذه الممارسة التراثية الهامة لتحضير أفضل فنجان قهوة بدوية باستخدام أدوات تقليدية فقط للتحميص والطحن، بالإضافة إلى مهاراتهم في العرض والتقديم ومعرفتهم بتاريخ وتقاليد تراث القهوة  لمنطقة الحدود الجنوبية مهارات تتجلي في طحنهم وتحميصهم لحبوب البن وإظهارهم لآداب المجالس عند التضييف، ليعبر عن أفضل مشروب قهوة مع مراعاة جودة المذاق وطريقة التقديم والمظهر الكلي للمشروب، إلى جانب تفرّد مفهومه الابتكاري من ناحية النهج والأسلوب المتّبع خلال العملية المتكاملة لإعداد الجبنة، مما يدل على تميز هذه الممارسة الاجتماعية القديمة وصقل موروثها الثقافي لدي قبائل الجنوب.

وبقدر ما بدت القهوة أو "الجبنة" قادرة على أن ترمز وبشكل كامل لفكرة "الواجب الأدبي"، بقدر ما أنها كانت معبرة عن أصول الضيافة. لقد تمتعت إذاً بكثافة رمزية في حد ذاتها، أكثر من مجرد النظر إليها على أنها مشروب حاز درجة واسعة من القبول ثقافيا واجتماعيا فهي "عادة أصيلة" تحولت بمرور الوقت إلى "طبيعة ثابتة" في المجتمع القبلي؛ بمعنى أنها لم تعد ممارسة طارئة أو عرضية أو محدودة. لقد صارت القهوة وجلسات "الونسة" معاً أهم ظاهرة اجتماعية مميزة للثقافة البدوية القائمة حول آداب الاجتماع والضيافة والمؤانسة

ويحاكي بيت القهوة "خيمة حلايب والشلاتين" شكلا من أشكال حماية موروث القهوة البدوية باعتبارها أحد أبرز العناصر التراثية في الثقافة البدوية، والتزامًا منها بتوفير تدابير تكفل استمرار ممارساتها وبتقديم تجربة معايشة للعادات والتقاليد المتعلقة بتجهيز وضيافة القهوة ضمن تصميم بيت القهوة، لتجسيد التقاليد الأصيلة للضيافة، فإن تقديم تجربة ثقافية ممتعة للزائرين تفردت بها الهيئة العامة لقصور الثقافة، بمعرض الكتاب 2020 ليتواجد في مختلف المهرجانات والفعاليات الثقافية والتراثية المقامة فيها".

ويكشف بيت القهوة كل مرحلة من مراحل تحضير القهوة، بدءًا من التحميص والتبريد والطحن مروراً بمرحلة الغلي والتخمير وإضافة النكهات المميزة وانتهاءً بطريقة التقديم. وكل ذلك يتم من قبل السيدة فاطمة من منطقة الشلاتين لتقدم تجربة محاكاة نموذجية لمراحل إعداد القهوة وتقديمها، وفق العادات والتقاليد الموروثة.

ويأتي في مقدمة الاهتمام بتراث وتقاليد القهوة لمنطقة الحدود الجنوبية من أهمية الممارسات المتعلقة بها، إذ تشتمل تقاليد القهوة على قيم ومبادئ عميقة ساهمت في الحفاظ على استمرارية واستدامة تلك الموروثات الأصيلة.

 

 


محرر عام

محرر عام

راسل المحرر @