الحواسُ بين التداعي والاختزالِ في سرِّبني لحواسِك لـرغدة مصطفى

الحواسُ بين التداعي والاختزالِ في سرِّبني لحواسِك لـرغدة مصطفى

اخر تحديث في 12/18/2020 6:11:00 PM

محمود سيف الدين

في رائعة شاعر لبنان الكبير جورج غرداق "هذه ليلتي"، والتي شدت بها كوكبُ الشرق بألحان عبد الوهاب، شطرةٌ تقول "ثم أغمض عينيك حتى تراني"، وفيها قد نجد مقابلًا دلاليًا لـ" سربني لحواسك"، عنوان ديوان الشاعرة رغدة مصطفى، والذي يمثل باكورة إصداراتِها الشعرية، الصادر عن سلسلة إبداعات بقصور الثقافة في مائةٍ وعشرين صفحةً من القطع المتوسط.

وإذ يكتملُ جوابُ الطلب في شطرةِ غرداق بـ"حتى تراني"، نجد جواب سربني لحواسك، معظم ما جاء في أنحاء متن الديوان، هذا العنوان الذي يتجاوز إيقاعه الحسي الظاهر في همس السين فوق كفتيْ جملةٍ متزنة، إلى إيقاعٍ خفيٍّ يشتبك مع دلالاتٍ متفرقة، تنبئُ عن تسريب تلك الحواس أو هروبها عبر أسلاكٍ شائكة، وقد يُجملُ هذا التصور في: سربني لحواسك، ترَ، تسمعْ، تتنسمْ، تُحس، تتذوق هذا المتن بين يديك.

ولعلّ "سربني لحواسك" النصَ الشعري، كان في أجواءٍ منه، خارطةً لاكتشافِ هذا التفصيل الجمالي خلال رحلةِ الحواس، وعبرَ نقاطٍ أكثرَ إضاءةٍ، تجلت في "إلا أنك لا تغيب.. حواسُك يقظةٌ.. تمتصُ كلَّ جمالٍ مختبئٍ وعابر.. تمتلئُ وتمتلئُ، ولا يسعُك إلا أن تصرخَ أو تفيض....."، فكان هذا الفيض قبل هذه الفِقرة وبعدها، والذي يجوز أن نراهُ أيضًا تداعيًا، احتفظ كثيرًا بنقاطِه المضيئة في صورٍ مُجردة ومجاز يبدلُ مهامَ الحواس، في لحظاتِ الذروةِ والتشظي، فكان خطابًا يليقُ بالآخر والذات، وبالآخر/الذات.

كما أحدث هذا التداعي ارتباكًا في تباينٍ ذي رهافةٍ بين مستويات اللغة، والتي قد تكونُ أقربَ لمسألةِ التشكل، وإن اتضحت معالمُها في منعطفاتٍ ذات توهجٍ دال، وقد بدا هذا الارتباك بحسبِ آلية بناء كلِ صورةٍ، كالمسافة بين "ذاكرتي مشوّشةٌ كثيرًا.. كُلّما أردتُ الحديثَ عن الفيلمِ الذي أعجبني.. استرسلتُ في وصفِ شالٍ بُرتقاليٍّ" ص(113)، حيثُ القصة المكثفة التي لا تبدو كذلك لأولِ وهلةٍ، وحيث البناء التراكمي، الذي يصعدُ بإيقاع الحواس إلى ثمرةِ اللقطة، فنرى أثرَ هذا التشوش على امتدادِ المشهد، والذي لم يخلُ من حركةٍ ولونٍ وحوار.، ليحدث انتقالٌ باللغة على مستوى يناوش التفكير أحيانًا، ثم يرتدُ إلى إيقاعٍ هامس ويراوحُ بينهما، وصولًا لما يُشبه الذروةَ أو نتاج هذه المسافات التي تُقطع خلالَ محاولة إعادة ترجمة الحواس لنتائجَ مغايرةٍ، تحتملُ صدامًا بينَ ما هو مألوف وما هو ممكن، باتجاه تدمير هذا الصدام.. "اخشع لرفرفة الطير.. دعِ الثعبانَ يتلوّى على جسدِك في سكينة...." ص(118).
صدامٌ يتكشّف أيضًا بين الومضةِ المتسقة مع أداء الروح وما هو واقعٌ بالفعل "روحي النهمة.. شكّلت من الطمي أوانيَ ولم تصلح آلهة" (امنحيني السر ص"103")، حيث هذا الحضور المطمئنّ والمؤرَّق للروح.. "كل ما أردتُه أن أشاهد روحَك بالنظرِ طويلًا في عينيك"... وصولًا إلى "لم أكن عطشى يومَ كنتَ إلى جواري تسير.. غيرَ أن القُللَ الفارغةَ على طولِ الطريق، كانت تُصيبُني بالذعر" ص (102).

وكذلك محاولة الهروب من الخذلان، لكن لا هروبَ من السمت وتداعي المشاهد في مجهولٍ ما... "كلما حشدتُ روحي بالقسوة واللا مبالاة في مواجهة هذا العالم، مرّ كروانٌ عابرٌ بأغنيتِه الأزلية، يسحبُ الروحَ للمجهولِ والأمل".
إذن هناك حضورٌ طاغٍ للروحِ، في تجلياتٍ تتماس وتتعلق بمعانيها الكبرى: النهم، الأمل، الذعر، وما إلى ذلك..
كما أن للروحِ حضورًا يُستشفُّ بأداءٍ مغايرٍ، في الفعل ورداته، والتي تصل إلى درجةِ اليقين المُصوّر.. "أنا قريبةٌ.. قريبةٌ جدًا.. لا أوهامَ هنا.. أنا حقيقةٌ يمكنُ لمسُها في تمامِ اليقظةِ وذروةِ النشوة".
وعلى الرغمِ من إدراج معظم نصوص الديوان في صورة ترقيم لمقاطعَ ذاتَ اتصالٍ موضوعي، فإن حالةَ ثورةَ الحواس توزّعت غيرَ خاضعةٍ لهذا التراتب، وأُطلق لها العنان لعناقِ اللحظة كيفما تبدّت، للصراع، للرغبة، لرصد المشهدِ الآني المواتي، وللصراخ الذي بدا كرغبةٍ أصيلة، وتشكّل في أكثر من هيئةٍ بين خطابين للذات والآخر، وفي أداءٍ يُحركُ لوحة النرويجي"إدوارد مونش" الشهيرة.. "حين تُبصر الجرح قطرات دماء.. فتصرخ متألمًا" قصيدة "يسقي الجبل سرًا"، مع الالتفات إلى سجيةِ السر الهامسة وإيقاعِ الصرخةِ المُعلن، وفي القصيدة ذاتِها هذا الجمع بين الروح والصراخ.. "شيءٌ في روحي مُبهمٌ وفاسدٌ.. أشتهي أن يصرخ بي: أكرهُكِ"، وأيضًا: "أن أضغط بأصبعي على سنها الحادة لأطلقَ الصرخة"، وفي قصيدة "أنفاسي تُحدثُ ضجيجًا يُخيفُني": "صرخاتُك المدوية تجلب لك أُناسًا يُخمدون الحريق"، وفي "شهوة التخفي": "أصرخُ فيُصاب الجندُ بطنينٍ يصمُّ الآذان".. وفي "شكي تعاظم": "كان صراخُها متواصلًا" وفي "وحده كافٍ لكل هذا الرعب": "ما ضرَ العالم إن وقفت فتاة في عرض شوارعه تصرخ.. على سبيل المتعة.. تراقبُ صرختها، تتخطى البيوت والأراضي" وفي "امنحيني السر": "عند وصولنا للبئر.. أردتُ أن أصرخَ بكلمةٍ وحيدة"، وصولًا إلى الصرخةِ عنوانًا ومتنًا في قصيدة "أصرخ باسمي": "أصرخُ باسمي من أعلى تبّةٍ في تلك الأرض القاحلة.. وليجبني أي شيءٍ حي باسمه.. أي شيءٍ حي لأتتبع الصوتَ زأذهبَ إليه".
غيرَ أننا إذ نتتبعُ الصوتَ لا نصل، لأن الوصولَ هنا، في قيمةِ الرحلةِ ذاتِها، حيثُ التأمل وإعادة تشكيل العلاقات مع مفردات الحياة، وتبادل الأدوار أو تمثلها جميعا.. "كنتُ شالًا حريريًا يتطاير.. والعالمُ طفلًا أحمقَ يلاحقُه" و "الأرضُ كلُّها موطني ومنفاي" و"أبصرتُ موتي مرارًا ولم يحدث بعد" حتى نصل إلى ملمحٍ أوضح لهذا التشكُّل: "أنا شغوفةٌ وزاهدة.. باقيةٌ كخنجرٍ مغروسٍ في اللحم.. ومتلاشية كالهواء.. أنا أنا كل الوجوه.. ولا وجهَ لي".


محمود قطز

محمود قطز

راسل المحرر @