الفنون الشعبية بين التراث والحداثة بجنوب الصعيد

الفنون الشعبية بين التراث والحداثة بجنوب الصعيد

اخر تحديث في 9/6/2019 7:02:00 PM

محمد إمام

تُولى الهيئة العامة لقصور الثقافة اهتماما كبيرا بكل ما هو تراثي ثقافى، سواء كان فنونا شعبية أو حرفا تراثية وبيئة. وللتراث الثقافى الفنى مؤشرات كمية قياسية فى خططها، تُسمى عدد العروض الفنية التراثية وعدد ورش الحرف التراثية والبيئية على الترتيب، يصبان فى برنامج حكومى تطبقه وزارة الثقافة تحت مسمى حماية وتعزيز التراث الثقافي ودعم الصناعات الثقافية.

تتكون الثقافة الشعبية أو ما يطلق عليه اصطلاحا "الفولكلور" من عدة أجناس، منها أجناس مادية محسوسة مثل الأزياء والصناعات الحرفية كصناعة الألباستر التى تشتهر بها الأقصر، الفخار فى قنا، والمشغولات النوبية فى أسوان. وجنس شفاهي، كأشعار النميم التى تنتشر فى المناطق الحدودية كحلايب وشلاتين. والحكي كالقصص البطولية كأبوزيد الهلالى والزناتى خليفة، وجنس حركى كلعبة التحطيب والرقص الشعبي.

ذكر الدكتور محمد الجوهرى فى بحث منشور تحت عنوان (إعادة إنتاج التراث الشعبي) فى كتاب "التراث الشعبي فى عالم متغير" :"إن التراث الشعبي يتعرض ضمن جوانب الحياة التقليدية لوطأة التبديلات والتعديلات الناتجة من تبنى أساليب الحياة الحديثة، والنشئة من التوسع فى الاستخدامات التكنولوجية الحديثة والمتأثرة أعظم التأثر، بتغيير البنية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وفقاً لضرورات التحضر والتحديث. بالإضافة إلى تأثير وسائل الاتصال الجماهيرية الحديثة على سلوك الناس...ولكن مادة المأثورات الشعبية يحكمها قانونان هما قانون الاستمرار وقانون نشوء البدائل".

فالتغيير لا يمكن أن يقضى على التراث الشعبى، فهذا التراث يتمتع بمرونة وقدرة على إعادة التكيف مع كل ظرف إنسانى جديد، يستطيع أن يحفظ ويبقى على بعض عناصره ويحقق لها الاستمرار، ويستطيع أن يخلق عناصر جديدة ويبدع تراثا جديدا.

ومن منطلق التغييرات الحداثية الناتجة عن التطور، يحاول إقليم جنوب الصعيد الثقافى أن يحافظ على تلك الثقافة الشعبية سواء فى الناحية الفنية المادية أو فى الناحية الحركية والقولية. فالإقليم يضم أربع محافظات لهم نفس الامتداد الجغرافى الواحد بين قنا والأقصر وأسوان؛ إلا أن الاختلافات بينهم واضحة للعيان. فكل محافظة لها طابع ثقافى وتراثي مختلف، مزيج تراثى وإنسانى ضخم، فالثقافة النوبية فى أسوان تختلف عن الثقافة الشعبية ذات الطابع الفرعونى فى الأقصر، وتختلف ثقافة قنا ذات العصبية الصعيدية، عن الثقافة الساحلية السياحية والحدودية فى البحر الأحمر. حيث يعقد الإقليم سلاسل من ورش حرف بيئية وتراثية، عروض فنية تراثية، وألعاب شعبية كبري كمهرجان التحطيب، فعاليات تشهد إقبال كبير من الجماهير.

ففى جانب الحرف التراثية والأشغال اليدوية، تتميز كل محافظة من المحافظات بطابع مميز فى حرفة ما، فمثلاً تشتهر قنا بالفخار والفركة، الأقصر بالألباستر، مثلث حلايب وشلاتين بالسجاد اليدوى والخرز، وأسوان بالإتامين والخرز النوبي، ويتشابهوا فى بعض الصناعات مثل صناعة الخرز، الخوص، أشغال الكروشيه، والخيامية، ومع ذلك تظهر الفروق المتأثرة بالبيئة واضحة فى التصميمات.

أما في مجال الفنون الشعبية، فالرقصات الشعبية قديمة فى مصر قِدم التاريخ، ولها طابعاً فنياً خاصاً وتشهد إقبالا جماهيرياً كبيراً؛ وقد تميزت الفرق الفنية بأنها ليست مختلطة، فإما رجال أو نساء فقط، فإذا نظرنا على سبيل المثال إلى الرقصات المصورة على جدران المقصورة الحمراء للملكة حتشبسوت بمعبد الكرنك بالأقصر سنجد أن الراقصات إناث فقط، ومؤدوا استعراضات العصا لفرق الفنون الشعبية رجال فقط. وفى العصر الحديث تطورت الرقصات لتواكب المتغيرات الجديدة فى بيئتها.

هناك فرق كبير بين الفنون الشعبية والرقص الشعبي الذي يُؤدى فى الموالد الشعبية والأفراح. وقد نجحت الهيئة فى الفصل بينهم بمعايير صارمة، مكنتها من تغيير الصورة النمطية الذهنية عند الجمهور عن الفنون الشعبية كونه رقص مبتذل. وعلى إثر ذلك انضمت لفرقة الشلاتين للفنون التلقائية بقصر ثقافة الشلاتين فتيات لأول مرة فى العروض، وذلك لما لمسوه الأهالى من أن قصر الثقافة به من الأمان ما تطمئن له قلوبهم، وأن ما يُقدم فن وليس إبتذال على حسب مدرب الفرقة "عوض الله كرار".

يُسمى الرقص الشعبي فى الأفراح والموالد برقص "الغوازى"، وفى العادة تقوم بها أسرة فنية من الوالد والأبناء، يقوم الرجال فيه بالطبل والمزمار، والفتيات يقمن بالرقص والغناء، ويلبسن ملابس مزخرفة بالترتر والخريات الذهبية والفضية، ومن التللى بألوان زاهية حمراء، زرقاء، خضراء، وصفراء. يكونون فرق صغيرة يجوبون بها الموالد فى الأرياف، وهم يجيدون الرقص والغناء الجميل المعانى، والمديح والرقص بالعصا.

وأصبحت بعض هذه الرقصات تراثاً فلوكلورياً، بدأت قصور الثقافة تحافظ على إرثه الشعبي، وفى نفس الوقت تحافظ على الحداثة ومواكبة العصر، ليخرج قالب ثقافى شعبي يعبر عن بيئته يُسمى استعراض. فتقدم فرقة الأقصر للفنون الشعبية استعراضاً فرعونياً، وتقدم فرقة أسوان استعراضات نوبية، وتقدم فرق القصير التلقائية وحلايب وشلاتين استعراضات الهوسيب والهركاب.

فى هذه العروض تقدم الفتيات والشباب الاستعراضات بشكل علمى وعملى، فلهم مدرب متمرس يدربهم على تكنيكات الاستعراضات، خطواتهم الإيقاعية، وحتى تعبيرات وجوههم فى طابع تمثيلي إلى حد ما، وتصاحبهم خلفية موسيقية حسب الاستعراض المقدم. ففى استعراض أوبرا عايدة الذى تقدمه فرقة الأقصر للفنون الشعبية، يتحرك من يقوم بدور الملك رافعاً رأسه فى شموخ، يتبعه الحاشية والحرس، ثم تؤدي الفتيات الاستعراض على أنغام موسيقى المارش العسكري لأوبرا عايدة الذى ألفه الموسيقار الإيطالي "فيردي".

وهناك جانب آخر انفردت به الأقصر عن بقية محافظات الإقليم وهى التنورة الصوفية النسائية. ففى المعتاد يكون لاعبوا التنورة من الذكور، يؤدون عروضهم على أنغام المزمار أو الربابة، وإذا عُزف أى لحن حديث تفقد التنورة إيقاعها فورا. فلما لا تقدم فتيات عروض التنورة؟ وهل تقدم عروض التنورة بالشكل المتعارف عليه لدى الشباب أم يكون لها شكل آخر؟

قرر مدرب الفرقة أن تكون العروض تراثية وحداثية فى ذات الوقت، فعلى أنغام أشعار ابن الفارض "قلبي يحدثى بأنك مُتْلِفى" تدخل "مارتينا" و"نورا" أول فتاتان يلعبون التنورة، ليقدموا استعراضا صوفيا على غرار الاستعراضات الصوفية التى تقدمها فرقة المولوية المصرية. تتهدج فيه أنفاس المتابعين مع تصاعد وتيرة نغمات "روحى فداك عرفت أم لم تعرفِ"، تتسارع الحركات الدائرية لمارتينا ونورا.

تحدى كبير واجهه الإقليم فى المحافظة على التراث الفنى الشعبي وتطويره ليواكب الفن المعاصر، ومازال التحدى كبير.

شاهد بالصور


محمد إمام

محمد إمام

راسل المحرر @