د. حمدي سليمان يكتب: السيرة الهلالية باللهجة البدوية السيناوية 

د. حمدي سليمان يكتب: السيرة الهلالية باللهجة البدوية السيناوية 

اخر تحديث في 1/23/2021 8:49:00 PM

نقدم هنا نموذجًا لاحتضان الثقافة البدوية السيناوية لسيرة من أشهر السير العربية، وهي "السيرة الهلالية "، التي تعد الأكثر انتشارا في المنطقة، حيث نعتبر ما تم جمعه من قبل الباحث السيناوي "مسعد أبو بدر" تجربة رائدة، فهو أول جمع وتدوين للسيرة الهلالية باللهجة البدوية السيناوية, فقد استطاع بعد رحلة بحثية شاقة، جمع نصوص "السيرة الهلالية" من رواة يتوارثون التغني بها على أنغام الربابة أبا عن جد، في مجالس ودواوين البدو بسيناء، وقد اعتمد في جمع المادة على رواة التقى بهم مباشرة وهم: سلمي أبو جبيل، عيد عبد الكريم، مبارك جمعة، رفيع عيد، صبيح جمعة، في رحلة بحث متقطعة استمرت 6 سنوات، ومن المتعارف عليه أن نصوص السيرة الهلالية مثلها مثل معظم السير والحكايات والنصوص الشفاهية تختلف من مكان لآخر، وهي متناقلة. وقد كانت السيرة الهلالية تروى في سيناء من زمن، ولم تجمع وتسجل، حتى جاء الباحث أبو بدر وقام بجمع نصوصها بلهجة بدو سيناء وتسجيلها في كتاب تم نشره عن طريق هيئة قصور الثقافة، ويحسب الفضل هنا لفرع ثقافة شمال سيناء الذي احتضن هذا العمل وقام بنشره, فقد كان ضمن التراث الشفاهي، وتعتمد هذه النصوص على رواية بدو سيناء للسيرة الهلالية، حيث استطاعت تلك السيرة أن تبسط طياتها في فضاء جديد برواية لبدو سيناء وتحديدًا بادية شمال سيناء. فبعد أن اتخذ معظم شعراء ورواة سيرة بني هلال من جنوب مصر مستقرًا، بحكم الهجرات القبلية القديمة, انسحب استقرار من نوع آخر على السيرة الشعرية نفسها، لتصبح رواية منغلقة جغرافيًّا, ذلك لأن ارتجال شاعر السيرة ينبع معظمه من تفاصيل الحياة ومفرداتها، مع الاحتفاظ بالسياق العام للرواية، ولذلك أيضًا تبدو الرواية الحديثة المكتشفة في مسطح صحراء بادية سيناء على النقيض، بسب الترحال الدائم والحياة المتجددة في البادية، حيث تفاصيل النص تتباين بين حياة الفلاح المستقر على النيل وحياة البدوي الرحال في الصحراء.
 ومما لا شك فيه أن سيرة بني هلال لها منزلة كبيرة وعزيزة في بادية شمال سيناء تحديدًا، فالبدو لديهم شغف بها، وربما يرجع اهتمام بدو سيناء بالسيرة الهلالية لتشابه مفردات الحياة بما يوافق حياتهم وتفاصيلها، وهي كثيرة، كشكل المنزل "بيت الشعر" والسامر والخيل والسيف، والحرص على قيم البطولة والشهامة والتعاون وتعزيز قيمة المرأة, ويعد جمع هذه السيرة عملًا عسيرًا،  فمعظم رواة السيرة في سيناء وهم بعدد الأصابع، لم يكونوا سوى رواة لا يزيدون عن النص المنقول أو ينقصون منه، فهو نص لا يجتهد الراوي في خلق أحداثه ولا في صياغته، بل يحكي كل راوي ما قد سمع، وهنا الصعوبة، فهي نص شفهي لم يدون من قبل، حيث يتناوب الرواة في قوة ذواكرهم, وما يوجد عند راوٍ ربما لا تجده عند راوِ آخر، لذا قام الباحث بدور الجمع والتوليف والتنسيق بين ما نقص هنا وزاد هناك، وقد حالفه الحظ عندما وقع على رواة حفظة أكمل بعضهم رواية بعض، حتى استقام العمل استقامة حسنة لتخرج الرواية بإبداع محلي صرف، وحكاية شعبية سيناوية متفردة، تخالف سائر الروايات الشعبية المعروفة للسيرة الهلالية في مصر أو خارجها، متفردة في لغتها، وقيمها، وشعرها، وأحداثها، وإن كان فيها أحداث مشتركة مع الروايات الشعبية الأخرى.
وتختلف طقوس رواية أهل البادية للسيرة عن سابقتها، فهي تبدأ بدون الاستهلال الشهير الذي يقول "بعد المديح في المكمل أحمد أبو درب سالك، بنحكي في سيرة وأكمل عرب يذكروا قبل ذلك". فبحسب إجماع الباحثين تبدأ الرواية بدون مقدمة، أيضا تبدأ القصص بمقولة "قال لك وقال خير" في الميلاد والنشأة، وقد سجّل رواة بادية سيناء أبيات مختصرة، تعرج على معظم محطات السيرة.
تقول رواية البادية: كان "بنو هلال" ساكنين في "نجد" في "جزيرة العرب"، ومن ضمن القوم رجل ينقال له سرحان، ورجل ينقال له رزق، ورجل ينقال له غانم.
سيرة أجداد النبي: السلسلة الممتدة من عبد المطلب بن هاشم حتى عدنان.
وتبدأ السيرة بمولد الطفل "بركات"، ثم تأخذ الرواية في سرد مغامراته حتى يصبح هو "أبو زيد"، الفارس البطل ذا الحيل والمكر والدهاء، ثم تمضي الرواية في سرد مغامرات "أبو زيد" في ريادته بلاد الغرب وعودته منها، لتبدأ الملحمة بخروج "بني هلال"، واكتساحهم كل عقبة في طريقهم، حتى استولوا على "تونس الغرب"، وتنتهي بمقتل "أبو زيد"، ثم "دياب".  
ونقدم هنا مقتطفات من نصوص السيرة الهلالية التي تم جمعها من البيئة السيناوية باللهجة البدوية، قال الراوي: "خرجت مرة سرحان، وراوي ثاني بيقول مرة غانم مع مرة رزق في نزهة على عين الميه، ومعهن خادمة بتخدمهن, وكانت الحريم كلهن حوامل، حتى الخادمة كانت حامل، شافن سرب طيور، وشافن طير كبير أبيض بيقود الطيور كلها، إن طار طارت الطيور وإن حط حطت الطيور، قالت مرة سرحان، أو مرة غانم: "يا ريت ربي يرزقني بولد يقود ربعه؛ مثل ما هالطير الأبيض بيقود الطيور". ثم جاء طير أسمر كاسر هجم على الطيور خلى ريشهن فطاط، قالت خضرا مرة رزق: "يا ريت ربي يرزقني بولد مثل هالطير الأسمر، يخوف الطيور كلها". قالت الخادمة: "وأنا يا حبابات؟" قالت: "وأنتي ربنا يرزقكي".  
في مقتطف آخر نجد الراوي يشرح من خلال هذا البيت الشعري قصة مفاوضات أبو زيد الهلالي مع خليفة الزناتي, التي توضح قيم الكرامة المتمثلة بقوة في مجتمع البادية. تشرح هذه التفاصيل بقول أبو زيد الهلالي: 
أنا عبدهم يوم يشدوا ويرحلوا
وأنا سيدهم يوم البلا والنكايب
وهناك أبيات أخرى تشير إلى مدى حزن المرأة على الفراق، وحكمتها ومدى معرفتها بصفات الرجال ودورها أيضا في أحداث السيرة، حيث كان للمرأة عموما دور مهم في السيرة الهلالية، ويقول النص:
قالت (شيحة) تودع أخاها سلامة وأبناءها الثلاثة:
في جيرة الله يا الثلاثة وخالهم
في جيرة الله يا كبار العرايب
الناس بتودع اثنين واللا ثلاثه
وانا بودع اربعة ملّا مصايب
أوصيكوا عن اللقش بينكو
ثرا اللقش في بعض المكان يغيظ
أوصيكوا عن مقعدٍ في ظل حيطة
ثرا البنّا يبني والأساس يعيب
أوصيك يا ابو زيد لا تجمّعوا سوا
والعين في المجمّعين تصيب
أوصيكوا لا توقدوا نار في الخلا
ثرا النار توري والطريق يجيب
وإن جيتوا تدخلوا سوق مدينة
يونس ثراه شرّاي حسيب
وإن جادلكوا عالم في طريقكو
مرعي في ذاك الجدال يجيب
وإن رعيتوا جمالكو
ثرا يحيى في رعي الجمال رغيب.
وربما لا يعرف الكثير أنه ليس فقط رواية السيرة الهلالية التي لم يسبق جمعها ونشرها ورقيا من تراث سيناء الشفاهي، بل ما تزال هناك كنوز من التراث والمأثور الشفاهي من الروايات والأساطير والحكايات الخرافية الشعبية والألغاز، لم تُجمع ولم توثق حتى الآن.
وعليه أدعو بصفتي بالإدارة العامة لأطلس المآثورات الشعبية التابعة للإدارة المركزية للدراسات والبحوث، بضرورة الاهتمام بتكثيف أنشطة الجمع الميداني وتوجيه الجهد البحثي في جمع كنوز التراث الأدبي من أرض الفيروز.
هذا إرثنا الأدبي الحقيقي.
_____
*د. حمدي سليمان: باحث في أطلس المأثورات الشعبية، مدرس علم الاجتماع والأنثروبولوجيا بكلية الآداب جامعة العريش.


محرر عام

محرر عام

راسل المحرر @