رفعت سلام .. شاعر بحجم مؤسسة

رفعت سلام .. شاعر بحجم مؤسسة

اخر تحديث في 12/7/2020 4:10:00 PM

صبحي موسى
قبيل يناير 2011 بعام أو اثنين كان في القاهرة صديق عراقي اسمه ماجد موجد.. التقي بالراحل رفعت سلام وصارا صديقين .. حتى أنه كتب عنه بورتريه في إحدى الجرائد العراقية، حكي عن السهرة التي قضاها معه برفقة بعض الأصدقاء في مقهى الحرية... وكيف كان يجلس صامتا طيلة الوقت، وإذا تكلم فإنه يقول كلمة أو اثنتين ثم يعود إلى وضع الصمت.. وإذا تحدث يقول كلمات قليلة.

حين قرأت المقال تصورت أن رفعت سوف يلقم ماجد ضربتين أو ثلاث على فمه، أو أنه سوف يقطع علاقته به، لكنني وجدته يضحك متفهما النكتة التي في مقال، ومتقبلا شكل البورتريه الذي رسمه له صديقنا العراقي.
هذا الموقف جعلني انتبه إلى جانب مهم في شخصية رفعت سلام، وهو أنه متسامح وقادر على قبول الآخرين برؤاهم المختلفة معه وعنه، وأنه محب للكتابة الجيدة، والحقيقة أيضا أنه محب للبشر إلى أبعد مدى، وعلى غير ما يوحي به شكله الجاد المتحفظ قليل الكلام، وإن تكلم فإن ذلك يكون بتحفظ شديد وكلمة أو اثنتين لا معقب لهما، وهو ما يوحي بمدى الحذر من الآخرين وصعوبة الوقوع في الخطأ،  والحقيقة أنه كان أبسط من ذلك، كثيراً ما خدع من قبل آخرين، وكثيراً ما فتح يديه لصداقة أناس يتحفظ الكثيرون من التعامل معهم، ربما لأنه محب للبشر، ويثق في الجميع، وربما لأنه كان يمنح وقته كله للعمل تلو العمل.
أعرف رفعت سلام منذ النصف الأول من التسعينيات، كنا وقتها في الجامعة في شبين الكوم، حين تمت دعوته لمؤتمر أقامته كلية الآداب، رأيته برفقة الراحل حلمي سالم وطيب الذكر أحمد عبد المعطي حجازي، لكن معرفتي به لم تتوثق إلا في نهاية التسعينيات حين عملت صحفيا بجريدة القبس، وكان علي أن أذهب لوكالة أنباء الشرق الاوسط كي التقي به وأجري معه حوارا، يومها تعرفت من خلاله على الروائية والمترجمة الراحلة نجوى شعبان، ثم صرنا نلتقي به حينما كان ينهي عمله بالوكالة ليأتي فيجلس مع الراحل الكبير محمد عفيفي مطر، وكان كما رسمه ماجد .. لا يتحدث.. وإن تحدث قال كلمات تعد على الأصابع... دائم التدخين وحمل كتب كثيرة تحت إبطه، بعدها سافر إلى الجزائر نحو خمس سنوات ثم عاد ليستقر في مصر من جديد.
بعد الثورة حدث أن صرت مديراً للنشر في قصور الثقافة في وقت كان المد الإخواني يتزايد ويتصاعد في البلاد، كان رئيسي المباشر هو الشاعر الراحل محمد أبو المجد، وجدته يتصل بي ويسألني عن رأيي في كفافيس، ثم سألني عن رأيي في نشر أعماله الكاملة، قلت: يا ريت بس ازاي، فأخبرني أن رفعت سلام لديه ومعه سي دي عليه ترجمته الكاملة للأعمال، طبعا سعدنا بالأمر، وصمم الفنان أحمد اللباد غلافا رائعا وأصدرنا الكتاب في أسرع وقت ممكن، بالشراكة مع السفارة اليونانية، وكان الأمر سينتهي باحتفال على هيئة حفل شاي في أتيليه القاهرة أو أي مكان، لكنني طلبت أن يكون في النادي اليوناني، وسريعا جهزنا مجموعة بنرات، واتفقنا سريعا مع عدد من الشعراء والنقاد المصريين للمشاركة في الحفل، ودعونا كل من نعرف للحضور، حتى أن مسئولي النادي اليوناني كانوا في البدء مندهشين، ثم أقرب للعصبية، فقد تمت سرقة دفة الحفل من أيديهم، وصاروا ضيوفا بين المصريين، وتحول الحفل إلى واحد من أكبر الليالي اليونانية المصرية المهمة، حتى أن الصحافة اليونانية كتبت عنه باهتمام كبير، وكان رفعت سلام نجم النجوم الذي احتفى به وبكفافي الجميع.
بعدها قررنا تغيير هيئات التحرير تماشياً مع فكرة الثورة، وكان طبيعيا أن يكون رفعت سلام أول اسم مرشح لسلسلة الترجمة، يومها أتى وأبدى رغبته في عمل سلسلة المائة كتاب، حيث يوكل ترجمة اهم مائة عمل روائي إلى مترجم جديد، ويقوم بنشرها في السلسلة تحت لوجو خاص بها، تحمسنا للأمر معه، ورفعنا مكافآت الترجمة بما يتناسب مع تشجيع المترجمين على العمل، وكان محمد أبو المجد وراء الكثير من هذا الجهد.
رفعت ليس مجرد شاعر معبأ بالعالم كله، حتى أننا نشعر معه كأنه ينفجر في قصيدته ببشر وكائنات وعوالم وتفاصيل، وتكاد تشعر بالزحام في النص من كثرة رغبته في الاحتفاء بكل ما حوله، رفعت أيضا ليس مجرد مترجم نقل إلى العربية مجلدات شعرية كاملة لرامبو وبودلير وكفافيس وريتسوس تي إس إليوت وغيرهم، لكنه مؤسسة ثقافية متنقلة، أين ولى وجهه تجده يثير الحراك من حوله، بداية من حث البعض على ترجمةالشعر العربي إلى الإنجليزية، أو ترجمة سفر عظيم مثل قصيدة النثر الفرنسية لسوزان برنار إلى العربية، وصولا إلى مشروع المائة كتاب.. 
كان مغرما بالتجريب الفني والشكلي في الشعر. وأعطى حياته لهذا الفن الصعب والمدهش، حتى أنه يكاد يكون أكثر من ترجم أعمالا شعرية، ولا تتخطى ترجماته في الرواية سوى عمل او اثنين، وسعى طيلة الوقت لأن يقدم للقارئ العربي مشروعا كاملا، فكان واحداً من المترجمين الكبار الذين أخلصوا لهذا الفن حتى على حساب مشاريعهم الخاصة، رغم سعيه للموازنة بينهم.
فرحمه الله بقدر ما أعطى للثقافة والشعر والحياة من جهد وإخلاص في العمل.

شاهد بالصور


محرر عام

محرر عام

راسل المحرر @