العدد 956 صدر بتاريخ 22ديسمبر2025
ما يُدهشنا، بالطبع، هو إمكانية استخدام الكلب فى المسرحية، ومشاركته دون وعى فى خلق الايهام. وتنشأ هذه المفاجأة من مراقبتنا للكلب ككلب فى حد ذاته. قد تُطرح أسئلة كهذه: أليس من المثير للاهتمام أن يستسلم الكلب للوجود على خشبة المسرح؟ عندها، بالطبع، الإجابة: إنه لا يستسلم، إنه ببساطة يكون على طبيعته. ماذا لو نبح؟ تبول؟ من الواضح أن حتى هذه الأفعال الطبيعية، مثل إساءة معاملة الممثلين الصبية، ستُسهم فى مزيد من الكوميديا. وهكذا أصبح الوهم فجأةً مجالًا للعب، مجال «ماذا لو؟». لقد أدخل الايهام شيئًا ما إلى نفسه ليُظهر تسامحه مع الأشياء. ليس العالم هو من غزا الايهام؛ بل ان الايهام سرق شيئًا من العالم ليُظهر قوته. وأخيرًا، يُشتبه المرء أيضًا فى أن عنصرًا من السخرية الذاتية يدخل المسرحية مع الكلب. يُفضح مشروع الوهم المسرحى برحابة صدر، وهى حرية كان شكسبير مولعًا بها (والسخرية من الذات من أفضل مظاهر التواضع). لقد وجد المسرح، إن صح التعبير، ندًا له: فالكلب فى غاية السعادة، سواء أكان فوق، أم تحت، مهنة التمثيل، ونحن نجد أنفسنا نشجع أدائه تحديدًا لأنه ليس كذلك.
تحت هذه الأمثلة، بالطبع، يكمن جوهر ايهام المسرح - الواقع المادى للممثل والخشبة - والذى نقبله، فى معظم الأحيان، على أنه مُعطى إدراكيًا. كان هدفى هو الإشارة إلى نقاط يتشقق عندها هذا الواقع فنندهش، وإن كان ذلك مُبهجًا، من صعود الواقع إلى دائرة سحرية حيث أكدت لنا أعراف المسرح أن الواقع قد خضع وتجاوز. نرى فجأة المألوف فى نزع الألفة. السؤال الآن هو: إلى أى مدى يُمكننا أن نُطلق على هذه العقد من الواقع المنبثقة من الوهم صورًا أو علامات؟ إذا كانت الصورة، بحكم تعريفها، صورة أو تمثيلًا لشيء ما، فكيف يُمكن أن تكون الشيء نفسه؟ مرة أخرى، يكمن نهجنا فى انفتاح المسرح الخاص على عالم الأشياء. مسرح الدوجون هو بلا شك شيء (مثل الأثاث الذى تستعيرها شركات المسرح من رجال الأعمال)؛ لكن إضفاء طابع مسرحى عليه - وضعه فى فضاء مقصود - يُحيّد موضوعيته ويدّعى أنه يشبه كلبًا. إنها فى جوهرها نفس العملية التى تحدث عندما يرسم الرسام صورة كلبه على قماش، إلا أنه فى المسرح لا يوجد فرق وجودى بين الصورة والشيء. لنأخذ، كمثال آخر، موليير وهو يُجسّد دور موليير فى «ارتجال فرساي». ما يُبهرنا هنا هو فكرة إيشير عن الخداع البصرى العكسي: الايهام الذى يُنتج خالقه، مُفترضًا بذلك استثناءً للقاعدة الجمالية القائلة بأن الصورة ليست الشيء. بالطبع، هذا فى جوهره، استثناء زائف، لأن موليير ليس موليير؛ أو بالأحرى، هو موليير مضافًا إليه نص موليير، أو موليير منزوعًا منه حرية «أن يكون ذاته». تكمن الأهمية الاستثنائية فى المسافة بين الاثنين، وفى تردد الذهن بينهما. أو، لنترك هذا الشكل من المسرح وننتقل إلى آخر، ألا نرى، بطريقة ما، الحيوانات فى الفضاء المتعمد لحديقة الحيوانات تتأرجح بشكل غامض بين الحيوانات وصورها أو علاماتها؟ حتى لافتة الاسم على القفص - «دينغو: كلب أستراليا البرى...» - توحى بأن الحيوان قد وقع فى فخ برّيته التجريبية، وأُحضر إلى هذه البيئة الزائفة ليكون مثالًا على ماهية الحيوان الحقيقى. تقول لنا بيداجوجية مشاهدة حديقة الحيوان: «هذا هو نوع الكلب الذى تراه فى أستراليا». لا يتعلق الأمر بتاتًا بفقدان الحيوان حقيقته، بل يتعلق فقط بالتغيير الإدراكى الذى يطرأ على شيء ما عندما «يُرفع إلى مستوى الرؤية»، كما قالت كليوباترا (خوفًا من مصير مماثل فى روما). بعبارة أخرى، لا يصبح الشيء صورة دالّة ومثالية إلا فى الوعى. اننا ندرك الكلب على المسرح خياليًا، كما ندرك الكلب فى حديقة الحيوان دلالةً. لذلك، فى تلك اللحظات التى لا نرى فيها سوى الكلب الحقيقى بدلًا من كلب لانس، يكون وعينا قد انتقل ببساطة إلى مستوى آخر. قد نرى الكلب كلبًا أو صورة، أو قد نسمح لعقلنا بالتذبذب بسرعة بين نوعى الإدراك، كما فى رسم البطة/الأرنب الذى رسمه علماء النفس الجشطالتى.
نصل، حتمًا، إلى ما يشبه قانون التكامل: فبقدر ما يثير شيء ما على خشبة المسرح الوعى بدلالاته الخارجية (أو اليومية)، تتضاءل دلالته الداخلية (أو الوهمية). للوهلة الأولى، قد يبدو هذا اقتراحًا جديرًا بشخصية حفار القبور الأول فى مسرحية هاملت. إلا أن الأمر يصبح أكثر إثارة للاهتمام عندما نفكر فى مدى تكريس المسرح عمدًا لخلط هذين النظامين من الدلالات، إن لم يكن محاولةً لإخضاع أحدهما لسلطة الآخر. هذه النوايا لا تعنى أى انتهاك لمبدأ الوهم، بل توسيعًا لمفهومنا عن ماهية الوهم من حيث أساسه فى العالم التجريبى. وأطروحتى هنا هى أن الكلب على خشبة المسرح هو عرضٌ شبه كاملٍ لحداثة المسرح، تلك العضة التى يلجأ إليها ليحافظ على وجوده فى النظام الديناميكى لعلاماته وصوره التى لا تنضب. ويمكن تعريف تاريخ المسرح - لاسيما حيث نجده يُسقط تقاليده - بأنه استعمارٌ تدريجيٌّ للعالم الواقعى. وإذا جاز لى استخدام كلمات أرتو فى سياقٍ كان سيُثير رعبه، فإن المسرح هو «إعادة غزو لعلامات ما هو موجود».(1) لا أعنى بهذا ما كان يقصده أرتو، مسرحًا «يُوقع الأعضاء» فى شرك «القسوة»، بل مسرحًا يُدخلنا فى تواصلٍ ظاهريٍّ مع ما هو موجود، أو مع ما يُمكن فعله مسرحيًا، مع ما هو موجود. لو اقتصر هذا على أشياء حقيقيةٍ عنيدةٍ كالكلاب (والأطفال)، لكان ذلك نقطةً تافهةً فى أحسن الأحوال. لكن الكلب ببساطة هو أدنى مرتبة بين الكائنات الحية التى تظهر على المسرح مقيدة بالعالم الحقيقى. وبكلمة «حي» أشير إلى الكائنات الحية بمعنى انتمائها إلى الوجود المباشر، إلى التدفق المستمر للعلامات، ولكن ليس إلى عالم الفن بعد. إنها، فى النهاية، مسألة ولادة: فالمسرح يستوعب عالم الأشياء والعلامات فقط ليُحيى الصور. ففى الصورة، يُرفع شيءٌ مُجرّد من المألوف والرمزى إلى مستوى الرؤية، حيث نراه مُثقلاً بذاته بشكلٍ هائل. لحظة صدمة انتقالية تُشير إلى بداية الصورة: نشعر برعشة رفضها الاستقرار فى الوهم. قد يقول قائل إن قوة دلالاتها، التى تُشعر بها دفعةً واحدة، تُثقل كاهل الدائرة الفنية، كما فى خيوط تلك المصابيح الكهربائية المبكرة التى توهجت بشدة مع أول موجة من الطاقة؛ لا تُدرك كدالّ بل كمدلول، مع أن هذه الكلمات، من الناحية الظاهراتية، تُصنف الآن ضمن مفردات غريبة، لأنها بالضبط الدلالة التى تم استيعابها.
ربما أستطيع تبسيط هذه الملاحظات الأخيرة بتكييف فكرة من نيلسون جودمان. فى كتابه «طرق صنع العالم»، يقترح جودمان أن شيئًا ما قد يكون عملاً فنياً فى مناسبة ما، ولا يكون كذلك فى مناسبة أخرى. يقول إن المسألة ليست فى ماهية الفن، بل فى متى يكون فناً. قد يكون الحجر قطعةً عمليةً فى مدخل منزل، وعملاً فنياً فى متحف حيث يُلفت الانتباه إلى صفاته الرمزية (الشكل، اللون، الملمس).(2) إذن، فإن زيارة المتحف، وليس بالضرورة التقنية، هى ما يجعل الحجر حجرياً (بالعودة إلى شكلوفسكي). ولكن، هل يمكننا القول بسرعة إن «كل ما فى المتحف عمل فني» وننتهى من التصنيف؟ لنأخذ مثالاً أكثر غموضاً، وإن كان مألوفاً لدى رواد المتاحف لدرجة أنه قد يصعب علينا استعادة انتقاله من كونه قطعةً إلى صورة. لنفترض أننا صادفنا كومة من الأنقاض على أرضية المتحف. لا سبيل لنا لمعرفة ما إذا كانت هذه الفوضى من صنع فنان أم من قِبل حارس مُهمل، ولكنها ببساطة تُظهر ذلك. أليست الأنقاض تُشير بصريًا إلى شيء كهذا؟
أنا عمل فنى، وإن لم أكن كذلك. ليس لدى ما أصف به نفسى كفن سوى أننى أُلقيت هنا، حيث تعلمت رؤية الأشياء ببراعة: هنا ترى أنقاضًا أنقاضًا. بخلاف طفاية الحريق المعلقة على الحائط فوقى، فأنا فنٌّ فقط لأننى أُعلن نفسى كفن (وإلا فلماذا أنا هنا؟)، بينما يُعلن عن طفاية الحريق فقط كمتطلب من متطلبات السلامة (مع أن وجودى بالقرب منها ربما يجعلك تُعيد التفكير فى ذلك). فى الواقع، ما أنا عليه ليس مهمًا. المهم هو أننى آتٍ من خارج الفن: أتأرجح بين الواقع والاحتمال؛ أنا مبالغة غير متوقعة فى مسألة الفن.
باختصار، الفن هو وجهة نظر معينة حول الجوهر.
نادرًا ما نجد مثل هذه التضخيم المبالغ فيه فى المسرح. لكن دافع المسرح - أو، لنعترف بأن تعدد وظائفه هى أحد دوافعه - ينبع من مبدأ «البقايا rubbles». اننا فى المسرح، تقنيًا، داخل متحف: كل ما هو على خشبة المسرح فن؛ لكن ما يدخل المسرح ينشأ، إن جاز التعبير، فى الممر الخارجى. أى أننا بين شهوات المسرح المتنوعة، نجد الحاجة إلى نوع من الواقعية الصلبة التى تُغذى باستمرار النسق الايهامى. يمكن وصف المسرح بأنه مؤسسة متسامحة بلا حدود، مؤسسة قادرة على دمج أى شيء تقريبًا فى نظامها الغذائى. ولعلّ ما اعتقدناه دائمًا، وذلك ليس من خلال الاكتشافات الأنثروبولوجية بقدر ما هو من خلال تحركات فيها حنين، هو أن المرحلة المبكرة بدأت فى الجرن الدائرى الذى كان يُغربل فيه طعام المجتمع من الطبيعة. لا يهم إن كان هذا صحيحًا، بل إن صورة الجرن تُثبت شعورنا بوجود صلة بين المسرح، كطقس، ورمزية للطعام. وفوق ذلك، تكمن أهمية الدائرة فى أنها الشكل الأساسى لكل تركيز، ليس فقط فى البصريات، بل فى الطبيعة المادية أيضًا (القوى الطاردة والمركزية، والطبيعة كتآكل للحواف الحادة). لكن الأهمية الخاصة لاستعارة الدائرة تكمن فى أن المسرح هو المكان الوحيد الذى يتجمع فيه المجتمع لينظر إلى نفسه كآخر ثالث. وراء كل التفسيرات الممكنة لفائدة المسرح كصورة للإنسان، يكمن هذا التطابق الجوهرى فى الشكل بين موضوعه وسيرورة عمله. المسرح (مكان الفرجة المشتق من فعل «الرؤية») وسيلة للنظر بموضوعية إلى الحياة الذاتية للجنس البشرى كشيء مُعدّ للمجتمع من جوهر جسده. وهكذا، يتسم المسرح بملامح تضحية دنيوية بالمعنى الضمنى لقول جروتوفسكى إن الممثل ليس موجودًا من أجلنا، بل هو بديل عنا. المسرح هو الوسيلة، بامتياز، التى تستهلك الواقع فى أشكاله الأكثر واقعية: الإنسان، لغته، غرفه ومدنه، أسلحته وأدواته، فنونه الأخرى، الحيوانات، النار، والماء - حتى المسرح نفسه. مشهده الدائم هو استعراض الأشياء والعمليات فى انتقالها من البيئة إلى الصور.
هناك حكايةٌ رمزية رائعةٌ لكافكا، لفتت انتباهى قبل بضع سنواتٍ فى مقالٌ لجيفرى هارتمان، تُعبّر عن هذه الفكرة بشكلٍ أقلّ صرامةً. علاوةً على ذلك، تُمثّل هذه الحكاية نموذجًا ممتازًا لتحول صورة المسرح الجديدة إلى الصيغة التقليدية.
تقتحم الفهود المعبد ويشربون كؤوس القرابين حتى تجف؛ ويحدث هذا مراراً وتكراراً: وأخيراً يمكن الاعتماد عليه مسبقاً وتصبح جزءاً من الاحتفال. (3)
بالطبع المعبد هو المسرح والفهود هى الواقع الخارجى، أو ما لم يُعبَّر عنه بعد فى الصور المسرحية، ولكنه، إن صح التعبير، يتجول باحثًا عن طريق للدخول. وكمثال على ذلك، يمكننا استخلاص نمط قياسى يتكرر مرارًا وتكرارًا، دعونا نأخذ صورة أساسية ذات بداية درامية إلى حد ما - وهى، علاوة على ذلك، إحدى اللحظات الرئيسية لتحول هائل فى الإمكانيات التمثيلية للمسرح الحديث.
فى المسرح الفرنسى فى أوائل القرن التاسع عشر، كما هو الحال فى أماكن أخرى فى أوروبا، لم يكن من المعتاد تجهيز أماكن عرض للمسرحيات الجادة - أما الكوميديا، فهى أيضًا مسألة مختلفة نوعًا ما - بل كان من المعتاد طلاء الكراسى والطاولات على الأجنحة والمنخفضات. أولًا، كانت هناك مشكلة الإضاءة الكافية لإضاءة منطقة ما وراء الكواليس؛ لكن الأثاث كان عديم الفائدة أساسًا على أى حال، باستثناء بعض القطع الأساسية، لأن «خط ما وراء الكواليس» سيئ السمعة فى العصر الكلاسيكى الحديث كان قد حصر الممثلين بإحكام فى نصف دائرة حول صندوق الإملاء. لكن الواقعية كانت قد برزت بالفعل (أو عادت) فى الأجواء، وبدأ مخرجون مثل بارون تايلور و(لاحقًا) مونتينيى يُصرّون على أن يكون المسرح أقرب إلى العالم. على سبيل المثال، أحدث مونتينيى ثورةً فيما نسميه الآن الحجب (فى أوائل خمسينيات القرن التاسع عشر) بوضع طاولة وكراسى مباشرةً أمام صندوق التحفيز، كوسيلة لإجبار الممثلين على الخروج من نصف الدائرة إلى أوضاع أكثر واقعية.(4) وتشير جميع التقارير إلى أن هذا قد خلق حالةً من الهياج المؤقت بين الممثلين، لأن فن التمثيل - أو التمثيل الكبير على الأقل - لم يتطلب مهارةً فى تجاوز العوائق المنزلية. (ربما لا يدرك خطورة هذه المشكلة إلا الممثل). ولا يسع المرء إلا أن يتخيل كيف تفاعل الجمهور الأول مع هذا الابتكار. لكن يُمكن للمرء أن يُخمّن أن هذا الكمّ الهائل من الأثاث، المُتطفّل بوقاحة على هذه المساحة المُقدّسة المُخصّصة، بحكم التقاليد العريقة، للخطب الدرامية المُحدّدة، لم يكن ليُستقبل كمجرّد صورٍ وعلاماتٍ لكراسى وطاولات تنتمى إلى عالم المسرحية الخيالى، بل كأشياءٍ مُستوردة من عالم الواقع، غير مُتوقّعة على خشبة المسرح، كما هو الحال مع العُرى فى لوحة «غداء على العشب» لمانيه. وغنى عن القول إن الأثاث العملى سرعان ما فقد (بين عامى 1850 و1870) أيّ قيمةٍ صادمةٍ قد يكون لها (على عكس عُرى مانيه!)، واندمج فى الايهام لأنه، مثل نمور كافكا، ظلّ يعود: فقد استمرّ كُتّاب المسرحيات والمخرجون فى إنتاج مسرحياتٍ تتطلّب طاولاتٍ وكراسى كجزءٍ من محتواها «الواقعي». باختصار، كان الأثاث -الذى ربما كان فى عصرنا الأكثر براءة بين جميع الممتلكات المسرحية- كما يقول هارتمان، أحد تلك «التدنيسات الضرورية والمسموح بها» التى يوازن بها المسرح بشكل دورى بين التوتر بين العالم الحقيقى الضاغط وطقوسه الخاصة.
****
لقد اخترتُ الظهورَ البريءَ نسبيًا للأثاث على خشبة المسرح كعرضٍ لظاهرةٍ يُمكننا تسميتها صدمةً ما قبلَ التقليدية preconventional shock : تغييرُ «الطقوس» بتدخُّل شيءٍ ذى تاريخٍ جماليٍّ ضئيلٍ أو معدومٍ (سأُؤَكِّدُ هذا بعد قليل). لا أقصدُ بالصدمةِ شيئًا دراماتيكيًا كالصدمةِ التى أحدثتها الدراما العظيمةُ المُحطِّمةُ للأصنام (هرنانى لهوجو، وأشباح إبسن): ليست صدمةً كغضبٍ، بل صدمةً بمعنى أن الولادةَ، أو الانكشافَ، أو الاكتشافَ، كلها صادمة؛ صدمةٌ ليس فقط للجمهور، بل للوسيطِ نفسه الذى، كما هو الحال، عثرَ على شيءٍ ذى إمكاناتٍ مجهولة. ولا يُمكننا وضعُ حدودٍ زمنيةٍ دقيقةٍ لها؛ لأن صدمة من هذا النوع تتطور أحيانًا فى مراحل غير محسوسة نتيجة «أزمة» ناشئة تدريجيًا فى الفن، على حد تعبير توماس كون، تتطلب «إعادة بناء المجال من أسس جديدة، إعادة بناء تُغير بعضًا من أبسط التعميمات النظرية فى المجال، بالإضافة إلى العديد من أساليبه وتطبيقاته النموذجية».(5) على الأرجح، لم يكن مونتينى يفكر فى إحداث ثورة فى المسرح. بل يمكننا الافتراض أنه، كمعظم المخرجين الذين لديهم غريزة للوصول إلى طريق مسدود، كان يريد ببساطة القيام بأشياء أكثر إثارة للاهتمام باستخدام مواده. لكن ما إن تبدأ صورة - ولاسيما صورة أساسية كالأثاث - حياتها فى ظل ظروف جديدة ومفتوحة، حتى تبدأ بتحويل إمكانيات الفن: إنها «تُحوّل رؤيتنا»، كما يقول كون، وتحولها رؤيتنا، ولو فى صراعها للهروب من الانحطاط إلى علامة فارغة. الأشياء مثيرة للاهتمام أولًا لأنها جديدة؛ ثم (إن لم تكن مجرد صيحات عابرة) لأنها تندرج ضمن نسق أو تُسهم فى نسق نظام جديد؛ وأخيرًا، تختفى فى النسق كإحدى اللبنات الخفية التى تُبنى منها صور جديدة، وفى النهاية نماذج جديدة. وفوق كل شيء، فى المسرح، كما فى أى فن، ثمة حاجة دائمة إلى إزالة المألوف من كل ما هو مألوف.
كان بإمكاننا مقاربة النموذج الواقعى من أى عدد من الاتجاهات أو النقاط فى التاريخ؛ ولكن فى الأثاث، ربما نجد أكثر مظاهره ملموسة، إذ يمكن استخلاص ظاهراتية التمثيل الواقعى برمتها - وخاصةً كرد فعل على التمثيل الكلاسيكى - منه. إذا اختزلنا المسرح الواقعى إلى أهم خصائصه، فإننا نصل، فى الواقع، إلى الكرسى. ربما كانت الكراسى، بشكل ما، خاصية أساسية فى المسرح منذ أريستوفانيس؛ ولكن يجب علينا التمييز بين الكرسى كضرورة عرضية للفعل المسرحى (الملك على عرشه، هاملت جالسًا فى البلاط) والكرسى كمتعاون فى علاقة جديدة بين الشخصية والوسط. يعرف الممثل المعاصر الكرسى كإحدى الأدوات الدائمة لفنه، ويرجع ذلك أساسًا إلى أنه الخاصية التى تُشرك جسده بشكل مباشر فى عالم المسرح. ولهذا السبب كان الكرسى عرضيًا بالنسبة لعالم المأساة الكلاسيكية الذى لا مكان له ولا زمان، كما كان لا غنى عنه فى صالونات وغرف الكوميديا (على سبيل المثال، مشهد «الطاولة» فى طرطوف).
هناك ملاحظة مناسبة فى «ضحك» برجسون توضح الفكرة: «ما إن يتجلى القلق بشأن الجسد حتى يُخشى من تسلل عنصر كوميدى. ولذلك، لا يأكل البطل فى المأساة ولا يشرب ولا يدفئ نفسه. بل لا يجلس حتى أكثر مما يمكن مساعدته.»(6) وتأخذنا ملاحظة برجسون مباشرةً إلى التناقض الكامل بين «العالي» و»المنخفض»، بين الميتافيزيقى والاجتماعى، والذى ظلّ فيه النوعان الرئيسيان للدراما منفصلين إلى حد كبير منذ العصور القديمة. لماذا لا يجلس بطل المأساة «أكثر مما يمكن مساعدته»؟ بصرف النظر عن صعوبة أن يصبح تراجيدى فى وضعية الجلوس، هناك عامل القلق بشأن الجسد؛ هناك دائمًا خطرٌ فكاهيٌّ من التقاء المجالين المادى والميتافيزيقى وجهًا لوجه، كما لو انهار كرسى هاملت وهو يفكر فى مصيره. هنا، سأتعامل مع القلق بشأن الجسد ليس كمخاطرةٍ فكاهية، بل كأساسٍ سلوكيٍّ تنبع منه الواقعية: فالجلوس هو الوجود، الوجود المفاجئ والوافر فى العالم المادى («أجلس، إذًا أنا هنا»)؛ وبهذا المعنى، تكون الشخصيات الكلاسيكية بلا أجساد: إنها توجد فى تقاطعٍ غامضٍ بين أماكن أخرى أنشأها الشعر. ولكن عندما تبدأ الشخصيات بالجلوس بشكل طبيعى كما تقف، يصبح الجسد فى كامل اتزانه كمركز لاهتمام مكانى جديد، وهذا هو المعنى الذى تُعتبر فيه الواقعية والكوميديا وجهين لعملة واحدة. لم يكن انتشار الأثاث على مسرح القرن التاسع عشر مجرد تنازل عن المصداقية، بل كان إغلاقًا لعالم الكوميديا الاجتماعى على دراما الفردية العالية. قد نذهب إلى أبعد من ذلك ونضيف أنه مع الكرسى نرى الضمور التدريجى للمشهد اللفظي: لم تعد صورة المسرح مجرد بناء لغوى، أى مكان بين أماكن أخرى، بل أصبحت الآن مرتبطة بالحاضر حيث تكمن حتمية الشخصية والمصير. فما جعله الكرسى ممكنًا، باختصار، هو المحادثة: حديث عابر أو استكشافى يؤدى إلى التوتر والأزمة؛ نحت الذات الحقيقية من اللقاء الذى يبدو مُبالغًا فيه («حسنًا، هيا بنا نتبادل تلك الدردشة اللطيفة، سيدتى تسمان»). فى المجمل، الكلام يتسارع بسرعة البيئة: الطاولات، وأكواب الشاى، والمدافئ، ومناظر النوافذ، القوة الجماعية للعالم المادى المُصوَّرة كمجال للمكانة، والموضوع الأعظم للدراما الحديثة. ولكن قبل كل شيء، الكرسى، موضع عمل الدردشة، المركز الذى لا غنى عنه والذى بدونه يكون الباقى مجرد زينة. وفى المسرح الحديث، يصبح الكرسى (أو مشتقاته مثل مقعد حديقة إدوارد ألبى وجرار بيكيت) محميةً إقليمية، وسلاحًا ودرعًا (إبسن وبينتر)؛ ولعنة العالم المادى (يونسكو)؛ ومقر القلق، والزمان والمكان كعدو، والطبيعة الإشكالية للوجود بين «الأشياء» (تشيخوف وبيكيت). باختصار، فى الاقتصاد التخطيطى لرمزية المسرح، يجب على الغرف، مثل جميع الصور، أن تبرر وجودها فى نهاية المطاف: يجب أن تسكن الأشخاص الذين يسكنونها.
بالطبع، لا يُقرّبنا النموذج الواقعى من القاعدة الفينومينولوجية الحقيقية للمسرح أكثر من أى نموذج أسلوبى. وكما هو الحال فى جميع الفنون، يرتكز هذا الأساس فى نهاية المطاف على مُباشرة لقاء الإدراك بالعالم. يقول ميرلوبونتي: «الرؤية ليست أسلوبًا مُحددًا للتفكير أو حضورًا للذات؛ إنها الوسيلة المُتاحة لى لأكون غائبًا عن ذاتى، لأكون حاضرًا عند انشطار الوجود من الداخل - ذلك الانشطار الذى أعود إليه عند نهايته، وليس قبله.»(7) يتحدث ميرلوبونتى هنا عن فن الرسم. ولكن أليس هذا وصفًا دقيقًا لذلك الضياع فى عالم المسرحية الذى نُشير إليه بشكلٍ مُحددٍ نوعًا ما بالتعليق الطوعى لعدم التصديق؟ يأخذنا الممثل إلى عالمٍ داخل العالم نفسه. والأمر فى جوهره ليس متعلقًا بالوهم، أو المحاكاة، أو التمثيل، بل بنوع معين من الواقع، أى بامتلاك شيء ما أمام رؤيتنا - وفى المسرح أمام مسامعنا - ننضم إليه بكياننا. يُمكّننا الممثل من إدراك الإنسان «من الداخل»: يُثير أوليفييه تلك البادرة الخاصة فى داخلي؛ فأنا أشاهد أوليفييه موجودًا فى صورة ماكبث، ومن خلال هذا الارتباك الوجودى الفريد، أجد نفسى موجودًا فى بُعد جديد. كل هذا له علاقة وثيقة بالدلالة، ويمكن دراسته على هذا النحو. لكن الانخراط الحقيقى هو تعزيز للوجود. وما يحدث، عندما يحدث، فى المسرح هو فن، كما قد يقول بوليكسينيس فى مسرحية شكسبير، لكن الفن نفسه هو الطبيعة.
الهوامش
1- أنطونين أرتو، المسرح ونظيره، ترجمة مارى كارولين ريتشاردز (نيويورك: مطبعة غروف، 1958)، ص 63.
2- Nelson Goodman, Ways of Worldmaking (Indianapolis, Ind.: Hackett Publishing Company, 1978), p. 67.
3- . جيفرى هارتمان، «البنيوية: المغامرة الأنجلو أمريكية»، دراسات ييل الفرنسية، المجلد 36-37 (1966): 167.
4- مارفن كارلسون، «التأليف المسرحى الفرنسى من هوغو إلى زولا»، مجلة المسرح التربوى، العدد 23 (ديسمبر 1971): 368. أتقدم بالشكر الجزيل للأستاذ كارلسون على أبحاثه ونصيحته فى هذه الفترة.
5- Thomas S. Kuhn, The Structure of Scientific Revolutions (Chicago: University of Chicago Press, 1970), p. 85.
6- هنرى برجسون، الضحك: مقال فى معنى الكوميديا، ترجمة كلاوديسلى بريتون وفريد روثويل (نيويورك: ماكميلان، 1928)، ص 52. فى الفصل الأول من مسرحية راسين «فيدري»، على سبيل المثال، هناك توجيه مسرحى نادر، «إلى ساسيت»، يتبع عبارة فيدري: «عيناى تذهلان لرؤية الضوء مجددًا، / وركبتاى ترتعشان وتنهاران تحتى. / يا للأسف!». هذا ليس تناقضًا مع ما يطرحه برغسون. بل أزعم أنه يحمل قيمة صدمة كبيرة نابعة من وضوحه. من المؤكد أن فكرة استلقاء شخصيات راسين على الكراسى عادةً ما تتناقض بشكل كوميدى مع الشكلية المفرطة لمسرحه.
7- Merleau-Ponty, The Primacy of Perception, p. 186.
بيرت أو. ستيتس: ناقد وكاتب وأستاذ للفن الدرامى فى جامعة كاليفورنيا. وله العديد من الكتب أهما مواجهات عظيمة فى غرف صغيرة 1985, شكل المفارقة 1978 , متعة المسرحية 1993. ولد عام 1929 وتوفى عام 2003.
نشرت هذه المقالة فى كتابه مواجهات عظيمة فى غرف صغيرة : حل فينومينوبوجيا المسرح.