يد الخلق.. على حافة الخطيئة (الإنسانية المصنوعة)

يد الخلق.. على حافة الخطيئة (الإنسانية المصنوعة)

العدد 944 صدر بتاريخ 29سبتمبر2025

من الممكن أن تتبدل الهوية بالتزامن مع تبدل الأفكار الطبيعية للخارقة والمستحيلة، ومن الممكن تحقيقها كما المطلوب لكن النتائج لا تأتى أبدًا داخل إطار المنطق.. وإنما تكون على حافة المألوف تستعد لتهوى فى ظلال الوهم.. وللواقع مظالم أخرى قادرة على خلق الجنة التى تلهينا ناسيين أنه لا يخلق الجنة سوى الخالق.. وأن أى جنة أخرى فهى من عبث الشيطان.
عرض على مسرح المعهد العالى للفنون المسرحية عرض (الوحش) دراماتورج وإخراج (محمد عادل النجار) ضمن فعاليات مهرجان المسرح العالمى بالمعهد، العرض دراماتورج عن الرواية الشهيرة فرانكنشتاين لمارى شيلى.
تدور أحداث العرض عن عالم يدعى فيكتور فرانكنشتاين (مينا نبيل).. لديه طموح قاتل فى إعادة والدته المتوفاه للحياة مجددًا.. فيقوم باختراع آلة تعيد الموتى للحياة وتكون أولى تجاربه مخلوق أعاد بناءه من الجثث البشرية، والذى يجسد دوره (سعيد سالمان).. تتوالى الأحداث باستيقاظ المخلوق الذى يواجه العالم بكينونته جديدة وبضعف ممزوج بالمشاعر تمامًا كما يولد الإنسان طفلًا.. ثم يتحول بدوافع الرفض التى قابلها لمخلوق شرير يسعى للانتقام.
يناقش العرض العديد من الأفكار التى أنخرط فى جدالها العديد من العلماء والفلاسفة.. مثل فكرة حدود العلم والمسئولية الأخلاقية التى نرى فيكتور يوجهها.. ففيكتور كان مسئولًا امام الجميع فى محاكمة رسمية يبدأ بها العرض بالأفعال التى أقترفها الوحش من قتل وتدمير ويدير المحكمة المدعى العام (أحمد الرمادى).. نرى فيكتور يحاول الدفاع عن أفكاره وتجربته راميًا باللوم على الوحش الذى خلقه.. ومن هنا نستنبط فرار العالم من الكارثة التى اقترفها وهى تجسيد الموتى وخلقهم ليواجهوا العالم من جديد، فى تلك المسألة نتلامس بالتوازى مع فكرة الحدود العلمية التى حطمها والأخلاق التى لم يعرها أى اهتمام فبرغم أن ظهور هذا الوحش مسئوليته فإنه يتملص منها رافضًا أن يكون السبب فى كل الجرائم التى حدثت، وهو حتى لم يحاول أن يساعد هذا الوحش ليتأقلم مع هذا العالم وإنما كان عنيفًا فى إقناعه أنه مجرد غلطه وعليه ان يختفى، كما أن المسئولية العلمية التى واجهها العالم لا تقتصر على هذا فقط.. بل هى مسئولية التلاعب بالحياة والخلق ولعب دور الإله بدلًا من أن يساير الحياة بكينونته الأصلية، وهى الهيئة البشرية.
نرى معظم أحداث المسرحية من خلال وجهة نظر المخلوق الذى يتعرض للعنف والظلم ويُقابل بالرفض التام من الجميع.. وهى إستراتيجية إنسانية تقحم الجمهور عنوة فى مشاعر المخلوق عوضًا عن أنخراطهم فى الأحداث نفسها.. فنرى أبجدية الإنسانيات من خلال اختلاط المخلوق بأسرة صغيرة فقيرة تتكون من الأب الأعمى (عبدالفتاح الدبركى) وابنته (نيللى شرقاوى) والابن (مصطفى منير)، فالوحش أول من قابله وعامله بلطف فى تلك الحياة كانت ابنة الأعمى التى كانت تعمل عاهرة لتجمع المال لأسرتها دون علم الأب، وهى من تمثل فى حياته رمزية الحب، حيث أحبها المخلوق بشكل جنونى لدرجة أنه تسبب فى قتلها وهدد فيكتور بأنه سيقضى على الجميع لو لم يعدها إلى الحياة.
أما دور الأعمى فتمثل فى أنه كانت النظارات التى ارتداها الوحش ليتعرف ويتعلم كل شىء فى تلك الحياة لكنه عاجز لا يقدر على فعل أى شىء، وهو توصيف للبشرية الحديثة مع تطور الزمن.. فقد علمه الحركة السليمة والمشى والكلام والقراءة والتفكير.. وهو ما جعله يتساوى بالتوازى مع العالم فيكتور.. فكلاهما فاقد للهوية.. بأختلاف الأسباب.. ففيكتور مهزوز وغير ثابت.. وكأنه دمية فى يد زوجته (نادين حسام الدين) التى تعمدت تحريضه على كل تلك الأفعال بداية من ابتكار الآلة وحتى ظهور المخلوق.. وكأنها رمزية للشيطان فى قصة آدم وحواء.. وكانت فكرة إعادة الموتى للحياة هى التفاحة التى أخرجت آدم وحواء من الجنة.. وهو ما فعلته الزوجة تمامًا فأفعال فيكتور منافية للمنطق والأخلاق بل جعلته يصعد للسماء ويتبادل الأدوار مع الإله، ويرسم لنفسه صفة الخلق، وفى النهاية لم يكن جديرًا حتى بالتصرف السليم.. فقد خلق ورمى مسئولية خلقه للحياة دون الإعتراف بما هو خاطئ.. مما جعله فاقد للهوية تمامًا كما الوحش.. فيكتور كان السبب فى ماهية الوحش؛ حيث خلقه لا يفقه شيئًا شديد القبح والجميع يكرهه دون فهمه، وهو ما جعل الوحش يتخبط ويكتشف الحياة بمنظوره البرئ حتى زينته الحياة بالطمع والانتقام والقتل.. وهو انعكاس ضارب لرمزية الحياة التى ما إن نسقط فى رحمها لا نخرج منها سوى ملوثين بسيئاتها وحتى حسناتها.
البحث عن الهوية والانتماء هى صفة يتبادلها فيكتور والوحش معنويًا على خشبة المسرح.. ففيكتور يبحث عن إنتمائه فى الحياة كعالم يسعى لإثبات أفكاره والوحش يسعى للإنتماء فقط كإنسان، وهو ما نستطيع تجسيده فى فكرة اليد.. يد الطبيب فى البداية يحاول منعها لتستكمل فكرة آلته ويخلق الموتى.. على عكس الوحش الذى كان قبل أن يتعلم أى شىء بفطرته يمنع يده من الأذية أو عرض نفس الرواية.. برغم أنه كان من الممكن تناولها بشكل مختلف ومعاصر دون اللجؤ لأجواء الماضى.. وتكرار الصورة مرارًا وتكرارًا.. لكن أسلوب الإخراج كان مختلفًا أشبه بالعوالم الخيالية فعندما كان يظهر مشهد للوحش تبقى الشخصيات فى الخلفية لا يسلط عليها الضوء لكن تنشغل فى أدوارها صامتة.. وهو ما خلط مستويات الوهم بالواقع.. لكنها تفصيلة مميزة للانتقالات بين المشاهد وكأن المشاهد تسلم بعضها البعض بسلاسة فى حلم حى أمام الجمهور.
كان لعناصر العرض مسرحى دور فى إبراز العرض برغم تشابه الفكرة.. فكانت الإضاءة لـ(أحمد الرمادى) دور فى إبراز فكرة مستويات الوهم ونقلات المشاهد.. كانت تسلط البؤرة على الشخصيات بهدف يبرز مشاعرهم أكثر من الحركات.. كما أن الإضاءة فى المشاهد الصامتة للشخصيات خافتة ومختلفة موزونة بأماكنهم وحركاتهم التى كانت تتأرجح بين السرعة والبطء، أما الديكور لـ(ياسمين هانى) الذى جاء بسيطًا ومجردًا ليعبر عن أكثر من معنى فقد جسد بشكله الأبيض المحكمة ومنزل الأعمى والطريق الملىء بالسكارى الذى جسد دورهم (محمود عبد الرازق) ومعمل فيكتور وحتى المقابر.. وهو عبارة عن طاولة وهى مركز الأحداث من الولادة للموت.. وبعض الكراسى وباب قديم.. وفى الخلفية على مستوى أعلى سلالم مدرجة فى نهايتها من الأعلى باب وكأنه يشبه لعبة السلم والثعبان فهذا الباب إشارة لماهو بعد الموت تارة وتارة أخرى هو الحياة ومرة أخرى هو الخلاص وهو السماء والثعبان هم الشخصيات الذين يتأرجحون من الأعلى للأسفل والعكس بحسب أفعالهم تمامًا كما النرد الذى يحركهم.
كان للماكياج دور مهم فى إبراز الشخصيات ل( نادين أشرف) وهو ما كان واضحًا بإتقان فى شخصية المخلوق بتفاصيله وكأنه بشرى مُعادٍ صنعه وتجميعه؛ حيث ظهرت تفاصيله القبيحة وكأن نادين هى خالقته وليس فيكتور، جاءت الملابس لـ(أميرة صابر) ملائمة لأحداث الرواية من الماضى تشبه ملابس الريجنسى التى كانت قبل كتابة الرواية الأصلية بسنوات، وكانت مُتقنة جدًا، وكانت معبرة عن كل شخصية كما طباعها.
الوحش: دراماتورج وإخراج محمد عادل النجار، مخرج منفذ غالية الحسن، تصوير أحمد فرحات.


سارة عمرو