العدد 944 صدر بتاريخ 29سبتمبر2025
تعد الندوات الفكرية المصاحبة لمهرجان القاهرة الدولى للمسرح التجريبى فى دورته الـ32 أحد أبرز روافده المعرفية التى تمنحه خصوصيته بين المهرجانات المسرحية العالمية، فهى لا تكتفى بكونها مساحة للحوار، بل تُشكّل منصّة تفاعلية يتقاطع فيها الإبداع مع البحث الأكاديمى، وتُفتح من خلالها آفاقًا جديدة للتفكير فى قضايا المسرح المعاصر وأسئلته المتجددة.
وعلى مدى دوراته المتعاقبة، نجحت هذه الندوات فى جمع نخبة من المفكرين والنقاد والمسرحيين من مختلف الثقافات، ليثروا النقاش حول التجريب بوصفه روحًا متجددة للفن المسرحى، وأداةً لإعادة صياغة العلاقة بين الخشبة والمتلقى، وبين النص والفضاء، وبين الفكرة وأشكال تجسيدها. إنّها بمثابة مختبر فكرى يسعى إلى تفكيك التجارب، ورصد التحولات، وتقديم قراءات نقدية تسهم فى ترسيخ حضور المسرح التجريبى كأحد أعمدة الحداثة المسرحية، وفضاء للحوار الثقافى العابر للحدود.
المسرح والذكاء الاصطناعى
وشهد اليوم الأول من فعاليات المهرجان، أولى الجلسات محور «المسرح وما بعد العولمة»، والتى أقيمت تحت عنوان «المسرح والذكاء الاصطناعي» وشارك فيها: د. عبدالكريم عبود من (العراق)، د. منتهى طارق من (العراق)، د. سليمان محمد آرتى من (الكويت)، جهاد الدينارى من (مصر)، وأدار الجلسة د. هشام زين الدين من (لبنان).
وفى بداية الجلسة، أكد د. هشام زين الدين، أن المواقف تجاه الذكاء الاصطناعى متباينة؛ فهناك من يهلل له ويرى فيه فتحًا تقنيًا كبيرًا يمكن أن يطور المسرح ويدفعه نحو آفاق جديدة، بينما يقف آخرون على الضفة المقابلة معتبرين أنه تهديد مباشر وخطر وجودى قد يهدد جوهر الفن المسرحى ذاته، وهو ما يجعل الذكاء الاصطناعى إشكالية حقيقية تستدعى النقاش العميق.
وقدّمت الأستاذة الدكتورة منتهى طارق حسين، الأستاذة فى الجامعة المستنصرية/كلية التربية الأساسية، ورقة بحثية بعنوان: نحو مقاربة تحليلية للعلاقة الترابطية بين الذكاء الاصطناعى وإنسانوية النص المسرحي”، وذلك ضمن فعاليات الجلسة النقاشية المسرح والذكاء الاصطناعى.
وخلال عرضها للورقة البحثية، أوضحت الباحثة أن الذكاء الاصطناعى بدأ يفرض حضوره بقوة على العديد من المساحات التى كانت تعتمد فى الأصل على الطاقة الإنسانوية الخالصة، وهو ما أوجد اتجاهين متناقضين: الأول يتبنى المخاوف من إمكانية أن يحل الذكاء الاصطناعى محل الإحساس الإنسانى الذى يُعد أساس العملية الإبداعية، والثانى يرى فى هذا التدخل أداة لتبسيط وتسريع الكثير من الأمور.
من جانبه أكد الدكتور سليمان محمد آرتى، الأستاذ المشارك بقسم النقد والأدب المسرحى فى المعهد العالى للفنون المسرحية بالكويت، أن الذكاء الاصطناعى أصبح يحتل مكانة بارزة فى تطوير الفنون، حيث يسهم فى تحويل عناصرها إلى تشكيلات تقنية جديدة تتوافق مع طبيعة التلقى المتغيرة، مشددًا على أن المسرح والتكنولوجيا يشكلان معًا ثنائية متلازمة فى صياغة صورة معاصرة تتجلى فى الروبوتات والأداء الرقمى (صوت، صورة، إضاءة)، بما يخلق فضاءً سينوغرافيًا متجددًا باستمرار.
فيما أوضح الأستاذ الدكتور عبدالكريم عبود عودة، أستاذ المسرح فى جامعة البصرة - العراق، أن المسرح شهد منذ بدايات القرن العشرين تحولات جوهرية بفعل التطور التقنى والتكنولوجى، وصولًا إلى التحديات الكبرى التى فرضها الذكاء الاصطناعى على المبدع الإنسانى، فلم يعد الذكاء الاصطناعى مجرد أداة لمعالجة البيانات أو تنفيذ المهام الروتينية، بل تحول إلى فاعل رئيسى فى تشكّل العمليات الإبداعية، سواء فى الفنون عامة أو فى فن المسرح على وجه الخصوص.
بينما أشارت الباحثة جهاد الدينارى، إلى أن انتشار فيروس كورونا ساهم فى صعود المسرح الإلكترونى البديل فى أوروبا وأمريكا، حيث أصبح من الممكن متابعة عروض مسرحية كاملة عبر الإنترنت من خلال حجز الكرسى إلكترونيًا، كما فى تجربة المسرحية الأمريكية “Dream”، دون الحاجة إلى الحضور الفعلى، محذرة من خطورة انزلاق الصناعة برمتها إلى سيطرة الآلة على حساب الدور البشرى، موضحة أن استخدام برامج الذكاء الاصطناعى فى كتابة السيناريو، إنتاج الصورة المسرحية الإلكترونية، وأحيانًا الإخراج، يهدد الصناعة التقليدية، بل ويؤثر بشكل كبير على الصحة النفسية والعقلية للأطفال والمراهقين.
المسرح والمابعديات
بينما شهدت ثانى جلسات محور “المسرح وما بعد العوالمة”، والتى أقيمت تحت عنوان “المسرح والمابعديات”، بمشاركة كلٍّ من الدكتور أحمد مجدى من (مصر)، والسفير على شيبو من (فرنسا/العراق)، وأدار الندوة خالد الرويعى من (البحرين).
واستهل خالد الرويعى حديثه، قائلًا: محور هذه الجلسة بالغ الأهمية، ويعد مكمّلًا للجلسة الأولى، حيث تناول المشاركون ضرورة إلقاء الضوء على علاقة المسرح بالفلسفة، معتبرين أن هذا الحوار ليس ترفًا فكريًا بل حاجة ملحّة يفرضها الواقع المسرحى العربى، وهذه حقيقة أجدها وكذلك يجدها القائمون على هذه الجلسة، فالمسرح لا يمكن أن يزدهر بعيدًا عن الفلسفة؛ فهى التى تمنحه العمق الفكرى والقدرة على قراءة أسئلة الوجود والواقع، فواحدة من أبرز مشكلات المسرح العربى تكمن فى إهماله للبعد الفلسفى، ومن هنا جاءت هذه الجلسة لتعيد الفلسفة إلى قلب النقاش المسرحى، بوصفها شريكًا أساسيًا فى صياغة الوعى الفنى.
ومن جانبه قال السفير على شيبو، من (فرنسا/العراق)، إن العولمة لم تعد مجرد مصطلح اقتصادى أو سياسى، بل تحولت إلى ظاهرة شاملة مست مختلف جوانب الحياة، بما فى ذلك الفن والمسرح. وأوضح أن جذور العولمة قديمة، تعود إلى الفتوحات والاستكشافات البحرية والقوافل التجارية، غير أن ثورة الاتصالات والإنترنت فى أواخر القرن العشرين جعلت العالم يبدو كقرية صغيرة مترابطة.
وفى حديثه عن مستقبل المسرح، شدد شيبو على أن الاتجاه يسير نحو دمج التكنولوجيا الحديثة مثل الواقع الافتراضى، والواقع المعزز، وتقنيات الهولوجرام، بما يعزز تفاعل الجمهور مع العروض الحية. وأشار إلى أن مسرح ما بعد الدراما وما بعد الحداثة يشكلان فضاءً خصبًا للتجريب والتحرر من السرديات التقليدية، فى حين سيظل المسرح الكلاسيكى محافظًا على جمهوره.
وأوضح الدكتور أحمد مجدى، الناقد والمدرس بقسم الدراما والنقد المسرحى بكلية الآداب – جامعة عين شمس، أن مسرحية “أوديب المعاد تحميله” للمخرج الألمانى كلاوس أوبرماير تمثل رؤية مغايرة للتراجيديا الإغريقية “أوديب ملكًا”، حيث يتجسد أوديب المعاصر بوصفه إنسانًا تائهًا فقد هويته وسط فضاءات رقمية متشعبة، وأصبح مجرد بيانات قابلة لإعادة التحميل فى ظل سيطرة الذكاء الاصطناعى والواقع الافتراضى.
تطبيقات عملية فى الذكاء الاصطناعى
شهدت ثالث جلسات اليوم الأول من فعاليات مهرجان القاهرة الدولى للمسرح التجريبى فى دورته الثانية والثلاثين، برئاسة الدكتور سامح مهران، سيمينارًا تطبيقيًا للمصمم والمخرج المسرحى عزت إسماعيل، بعنوان “تطبيقات عملية فى الذكاء الاصطناعي”، وذلك ضمن محور “المسرح وما بعد العولمة”.
وفى البداية استعرض عزت إسماعيل، فرص دمج تقنيات الذكاء الاصطناعى فى التجارب المسرحية العملية، مقدمًا نموذجًا تطبيقيًا عبر تطبيق “وصلة”، وهو تطبيق متخصص للفنانين فى مجال الأداء الحركى، يهدف إلى ربطهم ببعضهم البعض، بما يتيح خلق أعمال فنية مشتركة وشراكات إبداعية جديدة، ويعمل على تسهيل عملية التواصل بين الفنانين وتنظيم خطوات الإبداع المسرحى، سواء فى مجال التصميم، أو تجهيزات العروض، أو صياغة سيناريوهات الأداء.
ومن جانبه، وصف الفنان البحرينى خالد الرويعى تطبيق “وصلة” بأنه مشروع رائد فى مجاله، معبرًا عن تحفظه على أن يكون التطبيق مجانيًا بالكامل، حيث رأى أن فرض رسوم رمزية لا تتجاوز 5 دولارات قد يعزز من مصداقيته ويزيد من مستوى الأمان والالتزام لدى مستخدميه. وأضاف الرويعى أن التطبيق ينبغى أن يكون ذا طابع خدمى أكبر، يقدم خبرات واستشارات متخصصة للفنانين، بدلًا من الاكتفاء بدور المساعدة فى صياغة الأفكار عبر الذكاء الاصطناعى.
تجارب مسرحية معاصرة
شهد اليوم الثانى من فعاليات مهرجان القاهرة الدولى للمسرح التجريبى، فى دورته الثانية والثلاثين، إقامة جلسة نقاشية بعنوان “تجارب مسرحية معاصرة»، وذلك ضمن المحور الفكرى للمهرجان المنعقد تحت شعار “المسرح وما بعد العولمة”، وشارك فى الجلسة المسرحى والباحث د. صالح زمانان من (السعودية)، والباحثة والفنانة آن مارى سلامة من (لبنان)، فيما أدار الحوار د. حاتم ربيع من (مصر).
وفى البداية قال الدكتور حاتم ربيع، أستاذ الأدب بجامعة عين شمس: إنّ المسرح ما زال قادرًا على التطور ومواكبة العصر، رغم أننا نعيش اليوم فى عالم متسارع تحكمه التحولات الكبرى، وسط هيمنة الوسائل الرقمية الحديثة التى أصبحت تسيطر على المشهد الثقافى والفنى بسرعة غير مسبوقة، خاصة أن عصر ما بعد العولمة فرض واقعًا جديدًا، تتداخل فيه الحدود بين الفنون وتتقاطع فيه الثقافات، وتتنافس فيه وسائل الاتصال الحديثة على جذب الجمهور، ما جعل المسرح فى مواجهة تحديات معقدة تتعلق بكيفية الحفاظ على حضوره وتأثيره، دون أن يفقد جوهره كفن حى يقوم على التفاعل المباشر مع المتلقى.
قال الكاتب المسرحى والباحث السعودى د. صالح زمانان: «يُجسّد عرض ترحال الذى أطلقته وزارة الثقافة السعوديّة فى مارس 2023، وأعادت عروضه فى أغسطس 2025، تجربة مسرحيّة أدائيّة ضخمة وفريدة من نوعها، تنتمى لما يمكن تسميته بالعرض الغامر Mega Show، حيث صُمم وفقًا لأعلى المعايير العالميّة ليكون تجربة حسيّة غامرة للجمهور، ويحتفى بالثقافة السعوديّة الغنية والمتنوّعة، ويُبرز دور التّراث الأصيل فى تشكيل مستقبل المملكة ورؤيتها الطموحة (رؤية المملكة 2030). وقد بُنى المسرح الخاص لعرض ترحال فى حى الثليما بموقع الدرعية الأثرى، مهد الدولة السعوديّة الأولى قبل 300 عام، ممّا يعزز من رمزيّة العرض وارتباطه الوثيق بتاريخ المملكة وتراثها العريق”.
قدّمت الباحثة آن مارى سلامة، ورقة بحثية بعنوان “تحوّلات المسرح الرحبانى بين المثالية والواقعية وتأثير البيئة الحاضنة”، حيث تناولت بالدراسة والتحليل مسيرة المسرح اللبنانى وتحولاته الكبرى عبر نموذجَى مسرح الأخوين رحبانى ومسرح زياد الرحبانى، قائلة: «المسرح هو انعكاس لقضايا البيئة، وفى لبنان، بلد التعدد الثقافى والطائفى والسياسى والاجتماعى، كان المسرح مرآة لهذه التداخلات المعقدة، وجاءت تجارب المسرحيين فيه لتجسد هذا الواقع المتغيّر. والمثال الأبرز على ذلك هو العلاقة الجدلية بين مسرح الأخوين رحبانى ومسرح زياد الرحبانى”.
المسرح والتنمية المستدامة
كما شهد اليوم الثانى، إقامة جلسة فكرية ضمن المحور المنعقد تحت شعار “المسرح وما بعد العولمة”، بعنوان «المسرح والتنمية المستدامة»، شارك فيها د. يوسف هاشم عباس من (العراق)، ود. زينب لوت من (الجزائر)، ومجدى محفوظ من (مصر)، وأدار الجلسة د. محمد عبد الله البرنس من (مصر).
وفى البداية، استهل د. محمد عبد الله البرنس أستاذ الأدب والنقد الحديث بكلية دار العلوم جامعة المنيا، الجلسة، بالتأكيد على أن المسرح أحد الفنون الرفيعة القادرة على تشكيل الوعى الاجتماعى من خلال اشتباكه بالواقع، موضحًا أنه يسهم فى تنمية الأفراد والمجتمعات عبر دمج العوامل البيئية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
ومن جانبه، بدأ د. يوسف هاشم عباس، رئيس قسم المسرح بكلية الفنون الجميلة بالعراق، حديثه قائلًا: إن المسرح أداة غير تقليدية للتنمية، وهو أداة مجتمعية بالأساس، موضحًا أن المسرح التشاركى يتيح للجمهور المشاركة الفعلية فى صناعة العرض المسرحى، فلا يبقى المتلقى سلبيًا، وأضاف أن هذا النمط من المسرح يسهم فى تمكين المهمشين عبر إعادة تأهيلهم، مستشهدًا بمسرحية «دخان» للمخرج جواد الأسدى، التى جعلت الجمهور جزءًا من العرض فأضفت عليه حيوية وتفاعلية، ولفت إلى أن المسرح التشاركى لا يكتفى بنقد الواقع، بل يساعد الأفراد على إيجاد الحلول عبر التفاعل والعصف الذهنى، مؤكدًا أن هذا المسرح يمثل استراتيجية للتمكين ويسهم فى التنمية المستدامة.
فيما بدأت د. زينب لوت الأستاذة المحاضرة بالمدرسة العليا بمستغانم فى الجزائر مشاركتها، التى حملت عنوان “العوالم المسرحية وإنسنة القيمة المستدامة”، بالتأكيد على أن المسرح فن ديناميكى يقوم على الأساليب والمهارات، كما يحمل جماليات من خلال السينوغرافيا والمتعة البصرية، وأوضحت أن الصوفية فى ثقافتنا تعد ضربًا من الأداء المسرحى التفاعلى، مؤكدة أن المسرح التشاركى لا ينفى وجود المسرح الرقمى أيضًا.
أما الكاتب والناقد مجدى محفوظ من مصر، فقد تناول موضوع “المسرح ما بعد العولمة.. مهرجان الشارقة للمسرح الصحراوى نموذجًا”. وقال إنه حاول رصد ملامح الفن المسرحى فى مرحلة ما بعد العولمة، مشيرًا إلى أن العودة إلى التراث باتت من المفارقات اللافتة فى المشهد المسرحى. وأوضح أن مهرجان الشارقة للمسرح الصحراوى، الذى يقام فى صحراء الكهيف بالإمارات، أعاد إحياء فنون الصحراء العربية التى كادت أن تندثر، بمشاركة جميع الدول العربية من موريتانيا إلى البحرين، وبمواكبة بحثية من عدد من الأكاديميين العرب، منهم د. جمال ياقوت، د. حسن يوسف، والكاتب عبد الكريم بارشيد. وأضاف أن مسرحية «عنترة»، التى كتبها وأخرجها د. جمال ياقوت، مثلت نموذجًا لإعادة تقديم التراث فى صيغة معاصرة.
واختتم محفوظ كلامه بالإشارة إلى أن الفعل المسرحى متجذر منذ القدم فى الصحراء العربية الممتدة من المحيط إلى الخليج، وأن الجمهور الوافد من مختلف دول العالم يتفاعل مع هذه العروض فى أجواء مفتوحة تشجع على التخييم والاحتفاء الجماعى بالفن، مضيفًا أن المسرح، فى كل أشكاله وتجلياته، يظل فعلًا إنسانيًا قادرًا على التفاعل مع قضايا الحاضر وصياغة رؤى للمستقبل.
المسرح والذكاء الاصطناعى
وشهد اليوم الثالث، إقامة جلسة بعنوان “المسرح والذكاء الاصطناعي”، والتى أقيمت ضمن محور “المسرح وما بعد العوالمة”، شارك فيها كل من د. ألبرت لانج (من ألمانيا)؟وتوماس ايرمر من (ألمانيا) تروستن جوست من (ألمانيا)، وأدار الجلسة د. خالد أمين.
وفى البداية، استهل د. خالد أمين حديثه، قائلًا: لقد شهد السجال الفكرى الراهن حول الذكاء الاصطناعى تحولًا مفصليًا جراء صرخة التحذير المدوّية التى أطلقها أحد آبائه المؤسسين، جيفرى هينتون، ففى خطابه الذى ألقاه عند تسلمه جائزة نوبل لعام 2024، لم يقتصر تحذيره على إشكالية الخوارزميات المعيبة والبيانات المتحيزة، بل تجاوزه إلى التنبيه من خطر وجودى يتمخض عن استحداث «كائنات رقمية تفوقنا ذكاء»، تقود مسار تطورها حساباتُ الربح التجارية لا مقتضياتُ الأمان الحضارى.
واستهل الحديث تروستن جوست، الأستاذ بجامعة برلين الحرة، ورقة بحثية بعنوان «المشاهدة الخوارزمية: التنظير، التحليل، وتجسيد شروط التجربة الخوارزمية» قائلا: شهدت دراسات الخوارزميات النقدية (CAS) فى السنوات الأخيرة تحولا واضحا من التركيز على مقاربات ساكنة وجوهرية للخوارزميات، إلى تحليلات عملية وحساسة للسياق لطريقة عملها وظهورها. أحد أهم أهداف هذا التحول هو نقد استعارة «الصندوق الأسود»، التى لا تعبّر فقط عن حدود معرفية، بل تضع الخوارزميات ككيانات مغلقة ومستقلة وثابتة، ما يوجه البحث دائمًا نحو الداخل المخفى ويعيق المقاربات التى تدرس كيف تظهر الخوارزميات فى الممارسة عبر أبعاد اجتماعية ومادية وزمنية. ورغم أن هذا الإطار أثمر نقاشات مهمة حول الشفافية والمساءلة، إلا أنه فى الوقت نفسه يضيق زاوية النظر ويعزل الخوارزمية عن سياقاتها الاجتماعى والتقنية.
فيما قال الكاتب توماس ايرمر حول الذكاء الاصطناعى والمسرح فى ألمانيا قائلا: إنه رغم وجود بعض التجارب السابقة التى استخدمت الذكاء الاصطناعى فى كتابة النصوص المسرحية - بعد جائحة كورونا التى شكّلت فرصة للبحث فى هذا المجال - إلا أن النقاش الجاد حول تطبيقات الذكاء الاصطناعى فى المسرح لم يبدأ إلا مؤخرًا. وقد أصبح واضحا الآن أن الذكاء الاصطناعى لن يقتصر على الجانب الإبداعى فقط، بل سيمتد ليشمل تنظيم العمل المسرحى، إدارته، وتسويقه أيضًا.
وأضاف ايرمر، وعلى الرغم من أن المسرح الألمانى معروف بانفتاحه التقليدى على التقنيات الحديثة (كما حدث مع إدخال الفيديو إلى العروض المسرحية)، فإن الذكاء الاصطناعى قد يُواجه قدرًا أكبر من الشك والتحفظ، خصوصًا عندما يُستخدم فى الجوانب الفنية التى تتعلق بالإبداع الأصيل والملكية الفكرية.
وشارك ألبرت لانج أستاذ الأنظمة التكنولوجية فى التصميم، ورئيس البرنامج البحثى النموذجى المشترك بين جامعتى UdK وTUبرلين، والمتخصص فى التصميم والحوسبة، بالورقة البحثية: “الحدثية، والتجسيد، والجماعية: ما الذى يمكن أن يتعلمه البحث التكنولوجى من الأداء؟”.
ينطلق البحث من حقيقة أن المسرح كان دائما مختبرًا ومساحة للتفكير فى التطورات الاجتماعية والتكنولوجية. ويرى أن الأداء المسرحى قادر على تقديم رؤى ونماذج ومقاربات عملية مفيدة للبحث التكنولوجى المعاصر، فمن خلال تبنى النظرة الأدائية، يمكن فهم التقنيات مثل الذكاء الاصطناعى ليس كأدوات محايدة أو أجهزة جامدة، بل كممارسات حدثية، متجسدة، وجماعية، حيث تصبح بنيتها الداخلية، وبُناها التحتية المخفية، وأبعادها الاجتماعية والسياسية واضحة وقابلة للنقاش.
ندوة تكريمية للمخرج والأكاديمى العراقى الكبير الراحل سامى عبدالحميد
شهد اليوم الرابع، أولى فعاليات محور «رد الجميل» بإقامة ندوة تكريمية للمخرج والأكاديمى العراقى الكبير الراحل سامى عبدالحميد، وشارك فيها الفنان ميمون الخالدى من (العراق)، والدكتور عبد الكريم عبود من (العراق)، د. بشار عليوى من (العراق)، وأدار الندوة د. عادل حربى من (السودان).
فى البداية استهل الناقد السودانى عادل حربى، كلمته، قائلًا: إن الراحل يُعد عميدًا للمسرح العراقى، موضحًا أن الفنان الكبير سامى عبد الحميد يعد مؤلفًا ومبدعًا وناقدًا ونقيبًا من طراز خاص، مشيرًا إلى أن لديه نزعة تجريبية واضحة انعكست فى معظم أعماله، وأضاف أن حياة سامى عبدالحميد فى لندن شهدت تمرده على القوالب التقليدية، بينما كانت فترة إقامته فى أمريكا مليئة بالتحولات الفكرية والفنية.
من جانبه قال الفنان العراقى ميمون الخالدى إن سامى عبد الحميد كان أول من كتب عن فن الإلقاء فى العراق، مثلما فعل عبدالوارث عسر فى مصر، موضحًا أنه كان مجربًا ودارسًا ومتمكنًا من كل علوم المسرح، وهو أول من ترجم كتابًا عن أسس التمثيل المسرحى، وقد عملت معه فى أغلب عروضه كمخرج، وكان يمنح الممثل الحرية الكاملة للتعبير، لأنه كان يؤمن بأن الممثل ليس أداة مستلبة، بل عنصر فاعل فى العملية الإبداعية، وكان هو الموجه الجمالى الذى يمنح العمل المسرحى روحه».
وأوضح أن عرض “بشر الحافي” الذى قدمه سامى عبد الحميد فى مهرجان بغداد المسرحى عام 1990 صبغ الفضاء المسرحى بصبغة صوفية عميقة جعلت البعض يظن أنه يمتلك نزعة صوفية، رغم أنه لم يكن كذلك، وحتى آخر أيامه ظل متمسكًا بالنزعة التجريبية، وكان فى الدراسات العليا يؤكد على ضرورة أن يكون الطالب موسوعة معرفية متكاملة، كما كان يحرص على الجدية والانضباط الأكاديمي».
فيما قال د. عبد الكريم عبود، إن سامى عبد الحميد كان رائدًا لفن الصورة المسرحية فى العراق والوطن العربى، مشيرًا إلى أنه عندما قدم شخصية “الملك لير” أدهش الجميع بقدرته على الاندماج الكامل فى الدور، ووضع فريق العمل فى دائرة من الإبداع الحسى والبصرى المتكامل، وأضاف: “فى مسرح الصورة قد تموت الكلمة أحيانًا، لكن سامى عبد الحميد أعاد الاعتبار للصوت كعنصر أساسى فى بنية العرض المسرحى، حتى إن الناقد المصرى عز الدين إسماعيل أكد أنه شاهد تطابقًا مدهشًا بين قدراته التمثيلية وإمكانات الممثل الذى يجسد العمل».
وأشار عبود إلى أنه عندما طلب تكريم سامى عبد الحميد فى البصرة، أصر الأخير على الحضور بعرض مسرحى حى، وقدّم مونودراما بعنوان “غربة” لمدة ساعة كاملة رغم تجاوزه سن الثمانين، ليؤكد أن المسرح بالنسبة له حياة وعطاء متجدد، لافتًا إلى أن جامعة البصرة كرّمته تقديرًا لعطائه الكبير وتأثيره العميق فى الأجيال المسرحية المتعاقبة.
وأكد د. بشار عليوى، أن الراحل د. سامى عبد الحميد انخرط مبكرًا فى “فرقة المسرح الفنى الحديث”، مقدّمًا أعمالًا بارزة كممثل ومخرج وإدارى، ومعززًا تقاليد العمل الجماعى وتكييف النصوص العالمية للبيئة العراقية.
وأشار عليوى إلى أن الراحل ترك إرثًا أكاديميًا ومسرحيًا ثريًا، وحضر اسمه فى المحافل العربية والدولية، ونال تكريمات مرموقة بينها وسام الثقافة التونسى وتكريم مهرجان القاهرة الدولى للمسرح التجريبى عام 2018.
تكريم المفكر والناقد المسرحى المغربى الكبير الراحل د. حسن المنيعي
شهد اليوم الرابع، ثانى جلسات محور “رد الجميل”، المخصّصة لتكريم المفكر والناقد المسرحى المغربى الكبير الراحل د. حسن المنيعى، فى لفتة وفاء واعتراف بمسيرة فكرية وثقافية امتدت لعقود، الذى يُعدّ أحد أبرز مؤسسى النقد المسرحى العربى والمغربى، وأستاذ الأجيال وصاحب المشروع الفكرى والنقدى المتكامل، أدار الجلسة د. يوسف أمفزع من المغرب، وشارك فيها المسرحى المغربى حسن النفالى، د. سعيد الكريمى، ود. خالد أمين، الذين استعادوا فى كلماتهم سيرة المنيعى الفكرية والإنسانية، وأبرزوا إسهاماته فى إثراء المسرح والنقد العربى، معتبرين أن مسيرته تمثل علامة مضيئة فى الثقافة العربية المعاصرة.
واستهل د. يوسف أمفزع الجلسة، قائلًا: “اليوم نلتقى لتكريم ناقد فذ ومبدع كرّس حياته للدرس الجامعى والمسرحى، وكان أول من أدخل المناهج المسرحية إلى جامعة عبد الله بفاس، وأول مغربى ينجز أطروحة فى الفن المسرحى بفرنسا بإشراف الناقد شارل بيلا، موضحًا أن المنيعى لم يكن مجرد أكاديمى، بل كان مؤسسًا حقيقيًا للفكر المسرحى الجامعى بالمغرب، إذ رسّخ مفاهيم نقدية أصبحت ركائز أساسية فى الدراسات المسرحية، من بينها مفهوم «أشكال ما قبل المسرح»، إلى جانب إسهامه الكبير فى تأسيس المهرجان الوطنى للمسرح بمكناس، وحرصه الدائم على مدّ جسور الحوار بين المسرحيين والنقاد فى مختلف أنحاء الوطن العربى. وأضاف: “لقد مثّل المنيعى واسطة عقد بين المغرب وبقية الدول العربية فى مجال النقد المسرحى، وكان أستاذًا للأجيال بحق، وها نحن اليوم نقف لنردّ له بعضًا من الجميل.
من جانبه قال د. حسن النفالي: “أتقدم بالشكر لمهرجان القاهرة الدولى للمسرح التجريبى على هذه اللفتة الكريمة، فحسن المنيعى لم يكن مجرد اسم فى النقد المسرحى، بل هو أحد ركائز الحركة المسرحية المغربية بعد الاستقلال، مشيرًا إلى أن اسمه برز منذ مطلع السبعينيات بصدور كتابه المرجعى “أبحاث فى المسرح المغربي” عام 1974، لكن مسيرته بدأت قبل ذلك بسنوات عبر مقالات ودراسات نقدية نشرتها مجلة “أقلام” المغربية فى ستينيات القرن الماضى، مثل مقاله “أخطاء ترتكب فى حق بريخت”.
وأكد النفالى أن المنيعى ترك إرثًا نقديًا وفكريًا ممتدًا، ولم يكن مجرد أكاديمى أو ناقد، بل كان أبًا ومعلمًا وصوتًا ثقافيًا ملتزمًا بقضايا مجتمعه، مؤمنًا بأن المسرح ليس ترفًا بل فعلًا إنسانيًا وحضاريًا.
بدوره استعاد د. سعيد كريمى تجربته الشخصية مع المنيعى قائلًا: “كنت واحدًا من طلابه وأعتبر نفسى ابنًا أكاديميًا له؛ فقد علّمنا أن المسرح ليس مجرد فن، بل رؤية للحياة وأداة لفهم المجتمع وتغييره، موضحًا أن المنيعى خاض معركة فكرية حقيقية لإدخال المسرح إلى الجامعة المغربية فى وقت كان فيه تدريس المسرح أمرًا مثيرًا للجدل، لكنّه أصرّ على أن يجد المسرح مكانًا داخل المقررات الجامعية، ليؤسس لجيل جديد من الباحثين والأكاديميين. وأضاف: “تميّز المنيعى باهتمامه بما أسماه أشكال ما قبل المسرح، ورأى فى التراث الفرجوى المغربى مكوّنًا أساسيًا للهوية الثقافية ينبغى الاحتفاء به أكاديميًا وفنيًا، كما كان حداثيًا يؤمن بقيم الحرية والانفتاح والحوار، ويعتبر العالم العربى فضاءً ثقافيًا واحدًا بلا حدود.
أما أ.د خالد أمين، فوصف المنيعى بأنه “الأب الروحى للنقد المسرحى العربى والمغربي”، مشيرًا إلى أنه نأى بنفسه عن المناصب والمطامح المادية، وكرّس حياته للمعرفة والفكر والإبداع. وقال: “مشروعه النقدى تجاوز حدود المسرح إلى الأدب والفنون التشكيلية والترجمة، وكان يؤمن بوحدة الفنون وتكاملها، ويرى أن الترجمة فعل ثقافى أصيل يعيد إنتاج النص فى سياق عربى جديد.”
وأضاف أن كتابه “أبحاث فى المسرح المغربي” منح المسرح المغربى شرعية أكاديمية ومعرفية، وأسس لحوار متواصل بين التراث والحداثة، مؤكدًا أن المنيعى ترك إرثًا فكريًا متينًا وقلقًا معرفيًا يدفع الأجيال إلى طرح الأسئلة ومواصلة البحث والإبداع.
تكريم المسرحى والأكاديمى الراحل د. هناء عبد الفتاح
شهد اليوم الخامس من فعاليات مهرجان القاهرة الدولى للمسرح التجريبى، ندوة لتكريم المسرحى والأكاديمى المصرى الكبير الراحل د. هناء عبد الفتاح، وذلك ضمن محور «رد الجميل»، شارك فيها: د. مدحت الكاشف، د. عبير فوزى وحفيدته أمينة، وأدارت الجلسة الدكتورة إنجى البستاوى.
أعربت الدكتورة إنجى البستاوى، مدير مهرجان شرم الشيخ الدولى للمسرح الشبابى، عن سعادتها البالغة بوجودها ضمن فعاليات المهرجان التجريبى هذا العام، مؤكدة أن التجربة تحمل لها طابعًا خاصًا وذكريات عزيزة، وقالت: من مفارقات القدر أن أول مرة حضرت فيها المهرجان التجريبى كانت من خلال عرض « دون كيشوت» الذى قدّمه أستاذى الدكتور هناء عبد الفتاح، وكانت تلك هى البداية الحقيقية لعلاقتى بالدكتور هناء وبالحركةالمسرحية العالمية التى كان يفتح لنا أبوابها.
وأضافت: «المهرجان التجريبى يمثّل لنا كجيل مسرحى شاب منبعًا أساسيًا للتكوين والوعى، فقد أتاح لنا الاطّلاع على ترجمات وإصدارات مهمة، كما فتح أمامنا آفاقًا واسعة من خلال العروض المسرحية التى استضافها، وهو ما ساهم فى تكوين شخصيتى الفنية والأكاديمية. واليوم، وأنا أتولّى إدارة مهرجان شرم الشيخ الدولى للمسرح الشبابى، أشعر بفضل هذه التجارب التى شكّلت مسارى ومنحتنى الكثير”.
واختتمت البستاوى حديثها قائلة: “اليوم، ونحن نتحدّث عن الأستاذ الدكتور هناء عبد الفتاح، أحد كبار أساتذة التمثيل والإخراج بالمعهد العالى للفنون المسرحية، أشعر بالفخر لأننى أنتمى لهيئة التدريس بالمعهد نفسه، وأحمل بعضًا من إرثه وقيمه الفنية والإنسانية التى لا تزال تلهمنا جميعًا”.
ومن جانبه، قال الدكتور مدحت الكاشف، العميد الأسبق للمعهد العالى للفنون المسرحية: “من دواعى سرورى أن أُدعى للحديث عن أستاذنا الراحل هناء عبد الفتاح، والذى ربطتنى به علاقة وطيدة، وعندما أعود بذاكرتى إلى الوراء، أكتشف ملامح لم أكن ألتفت إليها فى حياته، لكن بعد رحيله بدأنا ندرك حقًا معنى أن يكون المرء رجل مسرح، وهى صفة لا تُمنح إلا لقلّة من المسرحيين فى العالم، ممن يجمعون فى شخصهم بين الفكر والفلسفة والإبداع والإخراج والتمثيل، وهذا ما تفرد به هناء عبدالفتاح”.
وأضاف: “فى المسرح العربى كان يوسف وهبى وسعد أردش من أبرز من جسّدوا هذا المعنى، ثم أصبحنا أكثر تحفظًا فى إطلاق هذا الوصف على الأجيال التالية، غير أن الدكتور هناء عبد الفتاح ينتمى بحق إلى جيل الرواد، ويستحق أن يوسم بوسام المسرح، لما تركه من فكر وفلسفة وعطاء إبداعى، وعندما اقتربت منه، وجدت إنسانًا شديد التواضع، وهى سمة العلماء الكبار. فقد بدأ التمثيل منذ طفولته، إذ شارك فى الفيلم الشهير الفتوة مع الفنان فريد شوقى، فنشأ نشأة فنية استثنائية، وكان ابنًا لأحد أهم نجوم الإذاعة المصرية فى عصرها الذهبى، وهو ما منح مسيرته جذورًا راسخة وتجربة فنية متفردة”.
وأكدت الدكتورة عبير فوزى، رئيس قسم التمثيل والإخراج بالمعهد العالى للفنون المسرحية، أن المهرجان يمثّل بالنسبة لجيلها قيمة كبيرة، وقالت: “فقد نشأنا وتربّينا من خلاله، وكنت قد شاركت فى أولى دوراته ممثلة فى مسرحية الطوق والإسورة، واليوم أشعر بسعادة خاصة لكونى أشارك فى ندوة عن أستاذى الدكتور هناء عبد الفتاح، تلك القامة العلمية والإنسانية التى أدين لها بالكثير، وكانت علاقتى بالدكتور هناء عبد الفتاح علاقة علمية وإنسانية عميقة؛ فقد كنت طالبة وهو أستاذ كبير بالمعهد، وتخرّجت على يديه، وتعلمت منه كيف يوجّه الطالب ويحتويه، وكان دائمًا فى عروضه الفنية يبحث عن الدوافع الإنسانية العميقة وراء الأداء، كما تشرفت بأن يناقشنى فى رسالة الماجستير، وهناك بدأت مرحلة جديدة من علاقتنا البحثية”.
وتابعت: “أدركت حينها كم كان الدكتور هناء حريصًا على طلابه، إذ فوجئت بأن لديه مجموعة من الخطط البحثية، وكان يطلب من كل من يرغب فى إشرافه أن يعرض خطته على أولًا ليستمع إلى رأيى، وهو ما منحنى خبرة مضاعفة، وتعلمت منه أضعاف ما تعلمته خلال سنوات الدراسة. وعندما شرعت فى اختيار موضوع الدكتوراه، اقترح على أن أتناول أثر المالتيميديا على الممثل، لكن للأسف لم يسعفه العمر ليستكمل معى رحلة الإشراف، غير أنه حتى آخر لحظة كان يستقبلنى فى منزله لنراجع معًا الخطة ويدققها معى، وقد عمل معى على مدار عامين كاملين بكل حب وإخلاص”.
وقالت أمينة، حفيدة الدكتور هناء عبد الفتاح: “رغم أننى لا أنتمى إلى خلفية مسرحية، فإننى كمصممة جرافيك، قررت أن يكون مشروع البكالوريوس الخاص بى عن جدى، لأكشف جانبًا ربما لا يعرفه كثيرون؛ فهو لم يكن مجرد ممثل بارع، بل موسوعة كبيرة وملهمًا فى عالم المسرح، ومن خلال البحث اكتشفت أيضًا بُعده الإنسانى، فقد كان إنسانًا ملهمًا بكل ما تحمله الكلمة من معنى.”
وأضافت: “توفى جدى وأنا فى التاسعة من عمرى، لكنه ترك فى نفسى أثرًا كبيرًا ظل ملازمنى حتى قررت أن أخصّص مشروع تخرّجى للحديث عنه وكان هدفى من الكتاب أن أقول للناس: انظروا ماذا قدّم هذا الرجل للمسرح. فقد بدأ جدى مسيرته من الإذاعة، ثم انطلق إلى المسرح، وقد ترك فى حبًا عميقًا لهذا الفن وشعورًا بالانتماء إليه، حتى وإن لم أكن جزءًا مباشرًا من مجاله، إلا أن أثره الإنسانى والفنى سيبقى محفورًا فى وجدانى إلى الأبد.
لقاء مفتوح مع البروفيسور الفرنسى باتريس بافيز
فى إطار فعاليات الدورة الـ32 من المهرجان، عقد لقاء مفتوح مع البروفيسور باتريس بافيز (فرنسا)، وأدار الحوار الناقد والأكاديمى المغربى أ.د خالد أمين، بحضور نخبة من الباحثين والفنانين والجمهور، وقامت بالترجمة الدكتورة حنان حسن الديب.
استهل أ.د خالد أمين الجلسة بالترحيب بالحضور والتعريف بمكانة الضيف الفرنسى الكبير، مؤكدًا أن البروفيسور باتريس بافيز يعد من أبرز المفكرين فى المسرح المعاصر، حيث شغل منصب أستاذ فخرى بجامعة كنت البريطانية، وشكّل كتابه معجم المصطلحات المسرحية مرجعًا أساسيًا لعقود طويلة لدى الباحثين، كما قدم معجم الأداء المسرحى الذى امتد إلى دراسة المسرح الرقمى.
وإلى جانب هذين المرجعين، طرح نظريات بارزة مثل الساعة الرملية والمسرح فى مختلف الثقافات فى تسعينيات القرن الماضى، وامتدت أبحاثه إلى دراسة المسرح ما بعد الدرامى. ويؤكد مساره النقدى أنه رافض للجمود، إذ يرى أن الخشبة ليست ثابتة بل تكشف دائمًا عن اتجاهات تطورها.
بدأ بافيز حديثه بتوجيه الشكر لإدارة مهرجان القاهرة الدولى للمسرح التجريبى، على الاستضافة والتكريم، مشيرًا إلى سعادته بالتواجد فى مصر، والتكريم من أكبر مهرجان مسرحى فيها، حيث ركز على قضية إعداد النصوص المسرحية من أصول أدبية أو ثقافية مختلفة، معتبرًا أن الانطلاق لا بد أن يبدأ من أسئلة جوهرية: لماذا أُعد هذا النص؟ ولمن أقدمه؟ وما الذى أريد الحفاظ عليه أو التخلى عنه؟
وأكد أن بعض النصوص متجذرة فى ثقافتها الأصلية بحيث لا يمكن اقتلاعها دون الإضرار ببنيتها الدرامية أو معناها، والحل يكمن فى استنبات النص أى تقريب مضمونه من ثقافة الجمهور المتلقى، مشددًا على أن الاقتباس ليس ترجمة؛ ففى الاقتباس يمكن للمبدع أن يغير ويعارض النص الأصلى أو يشتبك معه، أما المترجم فعليه الالتزام بقدر أكبر من الأمانة. أما المخرج، فله حرية الاختيار بين هذا وذاك.
من النقاط المثيرة التى طرحها بافيز مسألة استخدام الفيديو أو السينما داخل العمل المسرحى، مشيرًا إلى أن هذا المزج يجب أن يكون بنيويًا وعضويًا داخل النص وليس مجرد إضافة سطحية، مع مراعاة الفوارق الجوهرية بين أدوات السينما الفنية وإمكانيات المسرح، موضحًا الفرق بين الإعداد المسرحى والدراماتورجيا، موضحًا أنه يتبنى المفهوم الألمانى للدراماتورجيا بوصفها دورًا أشبه بالمستشار الفنى للمخرج، حيث تتيح مساحة واسعة لتدخل أدوات الإخراج، وتعتمد غالبًا على ما يُنفذ على خشبة المسرح. أما الإعداد، فيرتبط ارتباطًا أوثق بما هو مكتوب على الورق.
وتحدث بافيز عن الأعمال التى تُطوَّر مع الممثلين على الخشبة، معتبرًا أنها تختلف عن الاقتباس أو الإعداد، إذ تحتاج إلى «مطوِّر» يتابع بدقة الأطروحات المتفق عليها، ثم يتيح حرية الإبداع للممثلين قبل أن يقوم بالحذف والإضافة والتطوير. وأكد أن المطور يجب أن يتمتع بسلطة واضحة تضمن وحدة الرؤية، أما عن إطلاق اسم «تأليف» على النص المقتبس، فأوضح أن ذلك لا يجوز إلا إذا كان النص الجديد يمشى فى مسار مغاير تمامًا أو معارض للأصل، أما غير ذلك فيُعد سرقة أدبية.
وحول استخدام التكنولوجيا والذكاء الاصطناعى، رأى بافيز أنها أدوات وُجدت لتساعد المبدع لا لتحل محله، مؤكدًا أن المسرح سيظل بحاجة إلى المخرج لتحريك هذه الوسائط واستغلالها فنيًا، وأضاف أن الأهم ليس العرض فى حد ذاته، بل العملية الفنية التى تسبق العرض من تدريب وممارسة وتجريب، فهى التى تصقل المبدع وتطور العمل المسرحى.
لفت بافيز إلى أن الإخراج بات جماعيًا فى كثير من التجارب الحديثة، والنصوص تدخل إلى التدريبات كمسودات ثم تتحول بجهود الفريق إلى نصوص أخرى جديدة، أما عن تداخل الثقافات، فأوضح أنه غالبًا ما يتم بين ثقافتين إحداهما تهيمن على الأخرى، بينما فى المجتمعات المتعددة الثقافات يحدث تنافس وصراع قبل أن تستقر الهيمنة لإحدى الثقافات وتستوعب البقية، وهو نمط يمكن أن ينطبق أيضًا على العملية الفنية.
أكد بافيز أن السيميولوجيا لها تطبيقات على مستوى المخرج كما على مستوى المتلقى والناقد المسرحى، ما يجعلها أداة تحليلية متعددة الأبعاد، واختتم البروفيسور باتريس بافيز اللقاء بالتأكيد على أن القضايا المطروحة لا يكفيها لقاء واحد، بل تحتاج إلى محاضرات وكتب متخصصة، مؤكدًا أن المسرح سيظل فنًا حيًا يتطور بالممارسة والتجريب والتفاعل بين المبدع والجمهور.