خفيف الظل لكاتب ومخرج مسرحى واعد هو “محمد الدرة» أحد نشطاء المسرح بالراهن المسرحى لمحافظة الشرقية والذى استطاع فى هذا الإصدار خفيف الظل عميق المعنى اللطيف المتنوع أن يدون أفكاره ورؤاه الفكرية من خلال ثلاثة نصوص مسرحية تدور حول عدد من أهم وأعمق وأشهر الموضوعات الإنسانية التى تعالج أمورا مختلفة تمزج بين الماضى والحاضر والتاريخى بالمعاصر ويتصل فيها التمثيل بالواقع وفى مسرحيته الأولى التى يضمها هذا الكتاب مسرحية تبدو تداعب مأساة “هاملت” المعروفة للشاعر الإنجليزى “وليم شكسبير” الذى اختاره الدرة ليكون حاضرا فى مستهل مجموعته المسرحية الصادرة بعنوان رئيسى جامع هو (ثالوث الحكاية) وفيها من خلال شخصية “هاملت” التى تعد أحد أهم وأشهر شخصيات شكسبير والذى فيما يبدو وكأنه تدريب يتصدر الممثل القائم بدور هاملت المشهد موبخا نفسه على فرط تردده وحيرته وعدم قدرته على فعل أى شىء، قائلا: “إنى لفأر عفن، حتى يقتل أبى وأنا أعلم قاتله.. ولم أتحرك حتى هذه اللحظة، تبا لى.. إننى حشرة حقيرة” وفجأة وفى غمرة التراجيديا أو الميلودراما وعلى ذكر الحشرة يعرج بنا الدرة نحو المنهج الذى انتهجه لمعالجته إذ يقاطع الممثل البطل أحد الكومبارسات الصامتة فى العرض أولئك الذين يكلفون بإمساك الحراب ويقفون فى العروض مثل الديكور فى خلفية المشهد ولكنه هنا يستفزه أداء ممثل دور هاملت وأداؤه العنيف لكلمة حشرة فيتحرك وكأنه يقتل تلك الحشرة ويصدر صوت وكأنه يرش مبيد حشرى على تلك الحشرة التى هى بطل المسرحية التى لا دور له فيها يذكر ولا أهمية لوجوده وبالإضافة إلى الكوميديا الصارخة التى فجرها الكاتب بهذا الافتتاح المرح نراه بعد ذلك ينتصر للنكرات المسرحية ويساند المهمشين ويجعل من هؤلاء البسطاء والضعفاء أبطال مشهده المسرحى فيقوم الكومبارس ببطولة هذا النص المسرحى عندما تسبب فى إلغاء البروفة ومغادرة الجميع إذ بقى وحده منفردا بالمسرح فقرر أن يقوم بكل الأدوار التى يتمناها ويعهد له الكاتب بهذه المهمة الكبيرة ليتحول من كومبارس ونكرة مسرحية أكدها عليها الكاتب بأن جعله معاقا كنوع من الربط بين التهميش والإعاقة لأن خصوصية الحالة لم يكن له أى أهمية بالمسرحية وفى هذا الجزء من ثالوث الحكاية الذى أسماه الكاتب “بروفة الحكاية» تتم مناقشة عدد من المواقف الخيالية بطريقة خفيفة الظل وكوميدية وقد أضفى عليها الدرة مزيدا من السحر عندما أطلق لخياله العنان فجعل البحر والساحل والهدوء والموت وغيره من مستلزمات المشاهد ومكونات الحياة المسرحية تتواجد مع الكومبارس جنبا إلى جنب فى مشاهد المسرحية التى يرتجلها الكومبارس الحالم بالبطولة من بين صفحات أوراق النصوص المسرحية المخزنة فى كواليس المسرح والتى تحمل أسماء وعبق وتاريخ شقاء ومعاناة كثير من الفنانين الراحلين فى رحاب أبوالفنون. هكذا أخرج الدرة فى معالجته المرحة خفيفة الظل مهارة نادرة وغائبة عن كتابات تلك الأيام حيث يعرف أنه من الصعوبة بمكان أن يكتب (الإفيه) وهو مصطلح دارج يعرفه كل المسرحيين بأنه الكلمة أو الحركة التى يعجب بها المشاهدين ولكن هذا الكاتب المخرج فاجأ الجميع وفعلها من المشهد الأول الذى طالعنا فيه بحس الكاتب والمخرج الكوميدى من خلال صياغة موقف بديع من خلال شخصية هاملت الذى تحول عند الدرة من بطل تراجيدى شهير إلى نكرة مسرحية بينما أصبح الكومبارس بطلا فى مسرحية مرحة خفيفة الظل وذات حس كوميدي.وفى مسرحيته الثانية بهذا الإصدار الممتع والتى جاءت تحت عنوان “حكاية الحكاية» يعود بنا إلى التاريخ الذى يبتكر لدخوله موقفا بديعا بغية الوصول إلى ما يصبو إليه من خلال ذلك الراوى أو الحكاء الكفيف الذى يبحث عن أمه وقد أفنى العمر فى رحلة البحث كما لو كان عالما يطارد علومه بأرجاء الواقع الذى يرجع به إلى التاريخ فيطرق أبوابا عديدة طلبا للوصول إلى حضن الأم الذى حن إليه كما يحن كافة المبدعين فيجد فى البحث وكأنه يبحث عن الأرض التى ينتمى إليها كى ينهى رحلته التى يلتقى فيها بعدد من النماذج الذائفة والحقيقية والطيبة والشريرة والصادقة والمدعية ويطالع بطلنا عوالم خفية وشخصيات أسطورية فى دراما أقرب إلى السرد الروائى منها إلى النص المسرحى الذى يشمله منوعات شديدة الجاذبية والإثارة وشخصيات أسطورية شعبية متكافئة القوى متباينة المعانى تفضى إلى صراع درامى وتقدم وتطور مسرحى يطوع السرد لتكوين مسرحية ملحمية.وفى مسرحيته الثالثة والأخيرة بهذا الإصدار الجديد الطازج إنتاج اليوم بما ينطوى عليه من مواقف لا حصر لها ومشاهد وأفكار مختلفة يناقش الكاتب قضية أخرى من أهم قضايا ومشكلات الزمان وهى المشكلة الخاصة بصراع الأجيال والذى يتجاوز فيه عامدا دور الأب الذى فى الغالب ينشغل عن الإسهام فى البناء الفكرى لأبنائه بتوفير الاحتياجات المادية والإنسانية اللازمة للحياة فى ظل سطوة الماديات وفى حالة وجود الجد الذى يطمئن الأباء لوجودهم ويتركونهم يشكلون أفكار وآراء الأبناء وهنا يأتى الصراع الذى يختصره الدره فى هذه المسرحية التى اختار لها عنوان “آخر حكايات الدنيا» أن يكون صراعا شائكا جبارا بين الجد والحفيد الذى يكافح أن يكبر لكى يصبح له صوت وإرادة بينما يناضل الجد بكل سلطاته وقدراته لأن يوقفه عند درجة الحفيد لا يغادرها لكى يبقى على حاله يردد أفكاره من دون أن يكون له مواقف أو طموح بدعوى أنه لا يملك القدرة على التعبير عن نفسه وعن حياته فهو صغير وإن ظل الوضع على هذا الحال لما كبر الصغير ولما كان عندنا تداول للأجيال واستمرار للحياة التى لا ينبغى لها أن تتوقف وهذا ما يحاول الحفيد أن يفهمه لجده أنه لا ينبغى له أن يتمسك بالسيطرة إلى هذا الحد لأنه لا بد راحل وأن المستقبل أقرب إلى الأحفاد منه إلى الأجداد وقد عالج كاتبنا هذه المشكلة الشائكة بطريقة كوميدية رائعة أعلن فيها تمرده على ثوابت الموروث ومنها قصة قيس وليلى التى فعل بها ما فعل بهاملت شكسبير من نقد وتمرد وسخرية لم يتوقف هذه المرة عند الممثل ولكنه هنا يتمرد على الحكاية مؤكدا رفض وصف هذا الحب بأنه عذرى وأنه يعتقد أن الأمر لم يتوقف عند الحدود المدونة فى كتاب الأصفهانى وإنما للشخصيات الحقيقة والعلاقات العاطفية جوانب أخرى خفية لا تدون بالكتب إذ يرى أن قيس أحب فكرة أن تسلب منه ليلى التى جعلها الكاتب تخاطبه بجرأة ووقاحة كى يبرر زهده بها ونفوره منها ويفترض الكاتب أن حياة الصحراء هيأت لقيس فرصة أن يأخذ من ليلى ما يريده الرجل من المرأة ولذلك نرى قيس يدعى الجنون لكى يكتب لأشعاره الخلود، ونحن سواء أعجبنا هذا الطرح أو لم يعجبنا كما لم يعجب طه حسين بمعالجة توفيق الحكيم لحكاية شهر زاد لن نختلف مع الكاتب ولن نصادر على رأيه لأن المسرح علمنا أن نقدر جميع الآراء ونحترمها خصوصا عندما تحقق تلك المتعة السمعية والبصرية.