فى الهامش حياة أخرى.. قراءة إنسانية فى «يمين فى أول شمال»

فى الهامش حياة أخرى.. قراءة إنسانية فى «يمين فى أول شمال»

العدد 936 صدر بتاريخ 4أغسطس2025

فى قاعة يوسف إدريس، ذات الطابع الحميمى، حيث تُلغى المسافة الفيزيائية بين الخشبة والجمهور، حتى يكاد الجمهور يلمس الممثلين، تجسدت هذه الحياة الهامشية بكامل صدقها وبساطتها فى العرض المسرحى “يمين فى أول شمال”. ذلك العرض الذى أنتجته فرقة المسرح الحديث، تأليف محمود جمال حدينى، وإخراج عبدالله صابر، وبطولة إيهاب محفوظ وأمنية حسن وعبدالله صابر نفسه. إنها النسخة الثانية من العرض بعد مشاركته اللافتة ضمن مهرجان نقابة المهن التمثيلية على مسرح نهاد صليحة، فى العام الماضى 2024، لكنها - فى هذا التقديم الجديد - اكتسبت طابعًا أكثر حميمية، وتحوّلت إلى تجربة مسرحية حيّة تنبض بالمشاركة الوجدانية بين الخشبة والمقاعد. 
هنا، تتحوّل جدران القاعة الصغيرة بفعل سينوغرافيا باسم وديع والتمثيل إلى شقّة شعبية دافئة، يعيش فيها الجمهور مع الشخصيات لا أمامها. ومع كل لحظة تمر، تتقلص المسافة بين الخشبة والمقاعد، ليصبح المسرح بيتًا مؤقتًا لا تتصدّر الشخصيات المبهرة المشهد فيه، بل الناس العاديون. أولئك الذين يعبرون يوميًا فى خلفية الصور، يعملون فى شبابيك التذاكر، يتحدثون إلى أنفسهم، ويصمتون حين يرغبون فى الصراخ. العرض لم يطلب منا أن ننبهر، بل أن ننصت. أن نرى ما لا يُرى عادةً، ونشعر بما لا يُقال.
فى هذا الفضاء المسرحى الحميمى، تحوّلت الإضاءة الخافتة، والموسيقى الخجولة، ونبرة الأصوات إلى عناصر تؤكد على فكرة واحدة: أن فى الهامش حكايات لا تقل عمقًا عن البطولات، بل قد تكون أصدق منها. 
لم يكن عبدالقادر، بطل العرض، نجمًا على الخشبة.. لكنه كان “نجم الشباك” فى أكثر لحظات المسرح صدقًا، حين صار كل مشاهد فى القاعة مرآة له، يشعر بعجزه عن التعبير، ويتذكّر كم مرة مرّ فى الحياة دون أن يراه أحد.
العرض لا يراهن على حبكة معقدة، ولا على استعراض تقنى مبهر، بل على شىء أصدق وأعمق: الإنسان. عبدالقادر، موظف شباك المترو الصامت الذى لا يعرف كيف يعبّر عن مشاعره، يحاول أن يسعد زوجته نورا فى عيد ميلادها، لكنه لا يملك حتى ثمن التورتة. يدخل شريف، الممثل المغمور، إلى حياتهما بدعوة من عبدالقادر، فيتحوّل هذا اللقاء إلى سلسلة من المواقف التى تكشف هشاشة البشر، وعمق احتياجهم لأن يُحبّوا ويُرى وجودهم.
ما يميز العرض فى قاعة يوسف إدريس هو شعور المشاهد بأنه داخل الشقة لا أمامها. الإضاءة البسيطة – أزرار الكهرباء، ضوء التلفاز المتخيل، الإنارة القادمة من خلف النافذة – تضعنا داخل حياة هذه الأسرة لا خارجها. نسمع تنفسهم، نرى أعينهم تلمع تحت ضوء خافت، نشعر بحرارة القهوة على الموقد، بل ربما نشم عبقها كأننا فى بيت أحد أقاربنا. هذا التقارب الجسدى خلق تقاربًا وجدانيًا نادرًا، جعل العرض أكثر تأثيرًا من نسخته الأولى، رغم أن بعض لحظات نهاد صليحة احتفظت بطزاجتها الخاصة. 
لكنّ العمق الحقيقى للعرض لا يكمن فقط فى ما نراه، بل فى ما نشعر به. لحظة عبدالقادر التى يسأل فيها شريف، “كل يوم بتركب السيده زينب؟ مبتشوفنيش؟”، كانت لحظة مسرحية خالصة، مشحونة بالصمت الثقيل، لا تقول فقط إن عبدالقادر غير مرئى، بل تجسّد شعور ملايين البشر ممن يمرون بالحياة دون أن يراهم أحد. الجملة البسيطة - “أنا نجم الشباك” - كانت مفارقة موجعة. من يقف خلف الشباك لا يراه أحد، لكنه يرى الجميع. ومن يقف أمام الكاميرا، يحلم بأن يراه أحد، لكنه يظل مجهولًا. مفارقة تكشف بذكاء قسوة الإهمال، ووجع التهميش. 
وبين هذه اللحظات المؤثرة، تتخلل العرض مجموعة من الأغانى والاقتباسات الفنية التى لا تُقدَّم باعتبارها استعراضًا، بل كاستدعاء لذاكرة جمعية تشكّلت على مدى عقود. “عينى بترف”، “حديث الصباح والمساء”، مونولوجات إسماعيل ياسين، ومحمود المليجى فى الارض، والسيد أحمد عبدالجواد وأمينة فى ثلاثية نجيب محفوظ، وغيرها كلها ليست زينة فوق المشاهد، بل لبنة من لبنات الوجدان الشعبى، استُدعيت فى لحظات دقيقة لتحرّك شيئًا دفينًا فى المتلقى. 
هذه النوستالجيا المضمّنة فى العرض كانت أداة درامية فاعلة، عبّرت عن الحنين إلى زمن أكثر بساطة، وأكثر صدقًا. ما فعله فريق العمل ببراعة هو إعادة توجيه ذاكرة الجمهور نحو ذاته، دون افتعال. فحين تغنى نورا “حديث الصباح والمساء”، لا تُطرب آذاننا فقط، بل توقظ فينا دفاتر من الطفولة والدفء العائلى، من ليالٍ كنا نظنها عادية لكنها كانت الأجمل. 
إيهاب محفوظ فى دور عبدالقادر قدّم واحدًا من أكثر الأداءات صدقًا على المسرح المصرى مؤخرًا. لم يكن أداؤه مسرحيًا بالمعنى التقليدى، بل أقرب إلى التمثيل القائم على الإنصات الداخلى العميق. عبدالقادر شخصية مليئة بالسكوت، وملأها إيهاب بإيماءات صامتة، بنظرات تتكلم، وبتنهيدة فى نهاية الجملة كأنها تكمّل ما لم يُقل. لحظة انفجاره الصغير، لحظة رجائه الصامت ألا يغادر شريف، لحظة سؤاله الموجع “معقول ما شفتنيش؟”، كانت كلّها لحظات تمثيل لا تُدرَّس، بل تُحس. 
أمنية حسن، فى المقابل، كانت كمن يقطف الضحك من تحت طبقات الدموع. كانت شقية من دون مبالغة، حزينة من دون تصنّع، بارعة فى خلط الكوميديا بالشفقة، والتفاؤل بالتعب. بدت وكأنها تمثل باسم آلاف الزوجات اللواتى يتلقين حبًّا لا يُعبَّر عنه، ويعشن بداخل شاشة التلفاز أكثر مما يعشن فى الواقع. شخصيتها كانت مرآة لأحلام مؤجّلة، ولأنوثة تنتظر لمسة دفء. 
أما عبدالله صابر، فكان المايسترو الصامت. لم يكتفِ بإخراج العرض بحساسية عالية للزمن المسرحى والإيقاع الداخلى، بل جسّد شخصية “شريف” بحضور ساخر – حنون، مثقل بالخذلان لكنه لا يزال يوزّع الأمل. هو جسد تلك الشخصية الوسيطة التى تربط الفن بالحياة، والتى تأتى فى توقيت غير متوقع لتُحدث أثرًا غير متوقع. تصرّفه النبيل بشراء التورتة من ماله الخاص، دون إعلان، كان ذروة المعنى: أن البطولة الحقيقية فى المسرح كما فى الحياة، تكمن فى الأفعال الصغيرة التى لا تراها الكاميرا. 
سينوغرافيا العرض ظلّت وفية لواقعية بسيطة، لكنها بالغة الذكاء. استخدام الضوء كمكمل نفسى – لا فقط إنارة وظيفية – أضفى عمقًا على اللحظات: النور الخافت عند التوتر، ضوء التلفاز كمعادل للوهم أو للهروب، إطفاء المصابيح عند إطفاء الشموع، كلها عناصر خدمت الحالة الشعورية وأكملت النص من دون أن تنطق بكلمة. 
فى النهاية، “يمين فى أول شمال” هو استعارة ذكية للحياة ذاتها: هذا الطريق الذى نظن أننا نعرفه جيدًا، فنكتشف أنه ملىء بالتحوّلات المفاجئة والانحناءات الخفية. العرض لا يقدّم حلولًا كبرى، بل يهمس فى أذننا أن الحياة، بكل عيوبها، تستحق أن تُعاش. وأننا، رغم بساطتنا، نملك القدرة على إسعاد من نحب بكلمة، بنظرة، أو حتى بتورتة تأخرت كثيرًا. 
عرض مثل هو تجربة شعورية كاملة. وربما هذا هو الجمال الحقيقى الذى يقدمه المسرح حين يكون صادقًا: أن يغمرنا دون أن يغرقنا، أن يُضحكنا ونحن نكاد نبكى، أن يعرّينا من الخارج ليكشف أجمل ما فينا فى الداخل. 

بطاقة العرض:
اسم العرض: يمين فى أول شمال
اسم المؤلف: محمود جمال حديني
جهة الإنتاج: فرقة المسرح الحديث
اسم المخرج: عبدالله صابر
مكان العرض: قاعة يوسف إدريس
الممثلون: إيهاب محفوظ- أمنية حسن - عبدالله صابر- طارق راغب
ديكور: باسم وديع
موسيقى: مروان خاطر
استعراضات: على جيمى
أزياء: أميرة صابر
إضاءة: أحمد طارق
تصميم الدعاية: أحمد مجدى


عماد علواني