المسرح النسوي بين النظرية والتطبيق(2)

المسرح النسوي   بين النظرية والتطبيق(2)

العدد 928 صدر بتاريخ 9يونيو2025

اعادة تصور الجسم: النظرية الثقافية النسوية والممارسة
   بحلول أواخر الثمانينيات، كان هناك مجموعة من الدراسات المسرحية النسوية مكرسة لإعادة النظر في تاريخ المسرح ونظريته وممارسته. وقد بدأ المنهج الدرامي في التغير حيث اعترضت صاحبات النزعة النسوية على النصوص “المعيارية”، التي كتبها الرجال في الغالب، بسبب طريقة تمثيلها للنساء (انظر الفصل الخامس)، وبحثن أيضًا عن أعمال “مفقودة” لنساء مدفونات تحت التقليد الذكوري للأدب “العظيم” (انظر الفصل السادس). وكما تزعم جايل أوستن في مقدمة كتابها “نظريات نسوية للنقد الدرامي Feminist Theories for Dramatic Criticism، إذا بدأنا في ملاحظة متى تظهر النساء كشخصيات ومتى لا تظهر، فإن هذا “يعني جعل بعض الآليات “غير المرئية” مرئية والإشارة، عند الضرورة، إلى أنه في حين أن الإمبراطور ليس لديه ملابس، فإن الإمبراطورة ليس لديها جسد”. لقد لفتت دراسات المسرح النسوي انتباهنا إلى تلك “المراحل” في تاريخ المسرح عندما لم يكن للنساء أجساد على الإطلاق: عندما كان الممثل الذكر يقلد “الأنثى”. وبالتالى، فليس من المستغرب أن نجد أن الشاغل الرئيسي للعديد من الممارسات النسويات كان إعادة تخصيص أجسادهن.
   تميز العودة إلى الجسد “الأنثوي” أو إلى الثقافة “الأنثوية” الموقف النسوي الذي كان يُطلق عليه في الأصل “النسوية الراديكالية radical feminism”، والذي يُطلق عليه الآن بشكل أكثر شيوعًا “النسوية الثقافية cultural feminism”. ويرى هذا الموقف أن النظام الأبوي هو جوهر عدم المساواة بين الرجال والنساء، ويعالج القمع من خلال إعطاء الأولوية للتجارب الخاصة بالنساء: الولادة، والأمومة، والحيض، وما إلى ذلك. وقد سلطت العروض الراديكالية النسوية الضوء على استعادة الجسد “الأنثوي” من الضحية الأبوية. ووصفت سو-الين كيس كيف بدأت الفرقة مسرحية “ لا بأس أن أكون امرأة It Is Alright to be a Woman الأمريكية في سبعينيات القرن العشرين عروضها بامرأة تلمس أجزاء مختلفة من جسدها، وتستعيدها من الاستعمار الأبوى. وكانت الفرقة والجمهور يهتفون “وجوهنا تنتمي إلى أجسادنا، وأجسادنا تنتمي إلى حياتنا”.
   ولكن بعد ذلك، أصبحت الفرضية الجوهرية للأداء النسوي الراديكالي موضوعًا لكثير من الانتقادات النسوية. وكما تلخص جيل دولان، الممارسة والباحثة النسوية المثلية، يفترض نقاد الثقافة النسوية والفنانات أن تقويض ممارسة المسرح الذي يهيمن عليه الذكور من خلال نموذج يتم تحديده بأنه أنثى سوف يسمح للنساء بالنظر إلى المسرح للحصول على انعكاسات دقيقة لتجربتهن”. ومن بين الصعوبات الخاصة التي يواجهها “النموذج الذي يتم تحديده كأنثى” كيفية تشجيع المتفرج على “الرؤية” بشكل مختلف. على سبيل المثال، حين ظهرت العديد من فنانات الأداء في السبعينيات عاريات في محاولة استعادة لأجسادهن، ولأنفسهن، وللنساء الأخريات، لم يكن هناك ما يضمن أن الجسد العاري في هذا “النموذج الذي يتم تحديده كأنثى” من شأنه أن يقوض علامة “الأنثوية” في الأنساق المهيمنة لتمثيل النوع الاجتماعى. وكما أوضحت مؤرخة الفن جريسيلدا بولوك: “إن محاولة إزالة الاستعمار من جسد الأنثى، هي اتجاه يسير على حبل مشدود بين التخريب وإعادة الاستيلاء، وغالبًا ما يعمل على تعزيز قوة الدلالة بدلًا من تمزيقها فعليًا”.
  ومع ذلك، فإن العودة إلى جسد المرأة كوسيلة لإعطاء “صوت” للتجارب التي قمعها مركزية منطق الثقافة الأبوية، كانت “مرحلة” مهمة في تطور الأفكار والممارسة النسوية. فالنموذج النظري الذي يتم تحديده بشكل شائع على أنه نسوية ثقافية هو “الجسد” الأوروبي للنظرية النسوية الفرنسية، ممثلة في هيلين سيكسو، ولوسي إيريجارارى، وجوليا كريستيفا. وعلى الرغم من اختلاف عمل هؤلاء النساء عن بعضهن البعض في نواحٍ عديدة، فإن عمل هؤلاء النساء يتم تحديده عمومًا على أنه استكشاف نفسي للنساء منسوب الى لاكان باعتبارهن “الآخر” فيما يتعلق بالترتيب الرمزي للتمثيل والتواصل الاجتماعي والثقافى. في هذا النموذج، يتم الاعتراف بالذاتية باعتبارها مشكلة بالنسبة للنساء، اللاتي يُطلب منهن المشاركة لغويًا واجتماعيًا وثقافيًا وما إلى ذلك، في نظام يبنيهن على أنهن مهمشات وغريبات. “بما أننا لم نعد نرغب في الاستبعاد أو لم نعد راضين عن الوظيفة التي كانت مطلوبة منا دائمًا (الحفاظ على هذا العقد الاجتماعي الرمزي وتنظيمه وإدامته كأمهات وزوجات وممرضات وأطباء ومعلمات...)،” إذن، كما أوضحت كريستيفا، فإن السؤال الذي يطرح نفسه هو “كيف يمكننا الكشف عن مكاننا، أولًا كما ورثناه من التقاليد، ثم كما نريد تحويله؟”.
   كان اقتراح سيكسو لكيفية مقاومة النساء وتحويل “مكانهن” باعتبارهن “آخريات” مهمشات بمثابة دعوة للمرأة إلى “كتابة ذاتها”. فكان كتاب سيكسو “الكتابة الأنثوية ecriture Feminine” دعوة إلى كتابة “متمردة جديدة” تتألف من جزأين لا ينفصلان:
(أ ) فرديًا. من خلال الكتابة عن نفسها، ستعود المرأة إلى الجسد الذي تمت مصادرته منها، والذي تم تحويله إلى الغريب المعروض - الشكل المريض أو الميت، والذي غالبًا ما يتبين أنه الرفيق البغيض، والسبب وموقع الموانع. إن رقابة الجسد تعني رقابة التنفس والكلام في نفس الوقت.
(ب) وهو فعل سوف يميز أيضًا النساء اللواتي يغتنمن الفرصة للتحدث، ومن ثم دخولهن المحطم إلى التاريخ، والذي كان دائمًا قائمًا على قمعهن. فكونها تكتب يعني بالتالي أن تصنع لنفسها سلاحًا مضادًا للعقل. لتصبح حسب إرادتها الآخذة والبادئة، بحقها الخاص، في كل نسق رمزى، وفي كل عملية سياسية.
كان هذا النداء إلى الجسد باعتباره موقعًا وممارسة للكتابة الأنثوية هو ما جعلها تبدو جذابة بشكل خاص لممارسة المسرح النسائي. في الواقع، في لحظة ما في الثمانينيات (مهما بدا هذا جوهريًا في الماضي)، بدا الأمر وكأن مستقبل ممارستنا قد يكمن في إمكانية تقديم لغة “أنثوية” “تتحدث” بشكل مختلف إلينا كنساء. في الكتابة عن المسرح على وجه التحديد، اقترحت سيكسو تحويل المسرح “بحيث يمكن سماع صوت المرأة للمرة الأولى”، وذكرت أيضًا أنه “إذا كان المسرح امرأة، فإن هذا يعني تخليص هذا الفضاء من المسرحية. فالمرأة سوف ترغب في أن تكون حضورًا جسديًا؛ وبالتالي سيكون من الضروري العمل على تفجير كل ما يؤدي إلى “المسرحية”.
   ولقد قامت سيكسو بتجربة أعمال مسرحية. ففي “صورة دورا portrait of Dora” (1979)، أعادت سيكسو النظر في اللقاء بين فرويد ومريضته دورا من أجل مقاومة السرد الذكوري للأب والوضع السادي للمريضة (المرأة) كضحية، وذلك من أجل أن نسمَع صوت دورا بشكل مختلف. ولكن ما يتم تجاهله غالبًا هو أن “صورة دورا”، على الرغم من أنها تُنسَب إلى سيكسو، تدين بالكثير لتعديلها وإخراجها من قبل المخرجة النسوية الفرنسية سيمون بنموسا التي توضح أن
«النص.. لم يُكن مكتوبا في الأصل للمسرح بل للإذاعة. ولم يكن بحاجة إلى عناء التعامل مع المشاكل التقنية أو العملية.. ثم جاءت فكرة تأسيس ورشة عمل للممثلين في
مسرح أورسيه. وفكرت أنه سيكون من المثير للاهتمام أن نبدأ بنص غير مسرحى، لأنه سيمكننا من تجنب الاستعباد المسرحي المعتاد، الاستعباد الذي يقيد حرية الممثلين ويرغمهم على الاستمرار في السير على درب «اللغة» المسرحية. لقد جاء النص من «مكان آخر».
إن ما يتجسد في العرض المسرحي لـ»صورة دورا» هو التعاون بين النظرية (سيكسو) والنظرية والممارسة (بنموسا). فالكتابة الأنثوية التي تبنتها سيكسو، والتي تجسدت في نصها من “مكان آخر”، توفر الإطار الذي يساعدنا على “الرؤية” من خلال أداة التمثيل الاجتماعي الرمزي، ولكن تحقيق ذلك من خلال النظرية والممارسة يتطلب مهارات “التأليف” لدى المخرج/المقتبس ومهارات كتابة الجسد لدى الممارسين. إذ تحتاج الأفكار النظرية حول (إعادة) اكتشاف الجسد إلى مقترحات أو أدوات أو سجلات ملموسة لتمثيلها. ومع ذلك، فإن مثال سيكسو-بنموسا يوضح إمكانية ممارسة مسرحية نظرية أصبحت في وقت لاحق نموذجًا مهمًا في ممارسة المسرح النسوي في الأكاديمية؛ لقد أصبح العمل على النصوص النظرية من “مكان آخر” وسيلة لتوجيه الممارسة/الممارسات النسوية.
رؤية مزدوجة : ممارسة نسوية مادية
   بالنسبة للنسويات الأخريات، لم تكن إعادة النظر في تجارب النساء المتجذرة/الموجهة للجسد ومن خلاله كافية، نظرا لأن هذا لم ينتبه إلى الظروف المادية التي تنتج نوع الجنس أو الطبقة أو العرق أو الفعالية الجنسية. وعلى النقيض من الأهداف التنقيحية للثقافة القائمة على الجسد - الممارسة النسوية، المادية - فإن الممارسة النسوية هي ممارسة تسعى إلى إحداث تدخل إضافى، يمكن القول إنه أكثر تطرفًا، في أداة التمثيل، من خلال اغتراب نسق علامات نوع الجنس. وكما يوضح دولان: “تصبح القضية الملحة للنسويات هي كيفية إنشاء مساحة تمثيلية للنساء من شأنها أن تشير إلى التثاقف الجنسي الذي يتم الترويج له من خلال الإطار التمثيلي والذي من شأنه أن يخفي اضطهاد الأيديولوجية السائدة التي يديمها”. إن المجال المسرحي للنسوية المادية هو بلا شك الأهم، ليس فقط من حيث الأهداف السياسية، بل لأنه المجال الذي تعاونت فيه الممارسة النسوية على نطاق واسع مع النظرية. وفي هذا النموذج، تتحد نظرية التمثيل المادي النسوية مع إعادة نظر النسوية في الممارسة المادية القائمة على فلسفة بريخت.
   لقد كتبت تيريزا دي لوريتيس على نطاق واسع عن أنظمة التمثيل والقيود والقمع الذي تفرضه هذه الأنساق على النساء. وفي كتابها “أليس لا تفعل Alice Doesn›t” (1984)، استخدمت دي لوريتيس منهجية معقدة متجذرة في النسوية، وعلم العلامات، والتحليل النفسى، والسينما، لإثبات الفجوة بين “المرأة”، التي تُعرَّف بأنها “بناء خيالى، ومقطر من خطابات متنوعة ولكنها متطابقة مهيمنة في الثقافات الغربية” و”النساء”، اللائي فُسِّرن باعتبارهن “الكائنات التاريخية الحقيقية التي لا يمكن تعريفها حتى الآن خارج تلك التشكيلات الخطابية، لكن وجودها المادي مؤكد مع ذلك”. وقد زعمت دي لوريتيس أن العلاقة بين الاثنين “مثل جميع العلاقات الأخرى المعبر عنها باللغة.. علاقة تعسفية ورمزية، أي أنها مُبنية ثقافيًا”. وفي مقدمة دراستها المؤثرة اللاحقة “تقنيات النوع الاجتماعي Technologies of Gender” (1987)، لخصت دي لوريتيس “الموضوع الذي أراه ناشئًا من الكتابات والمناقشات الحالية داخل الحركة النسوية هو موضوع يقع في نفس الوقت داخل وخارج أيديولوجية النوع الاجتماعى، وهو واعٍ لكونه كذلك، واعي لتلك الجاذبية المزدوجة، وذلك الانقسام، وتلك الرؤية المزدوجة”. وأظهرت دي لوريتيس الصعوبة المستمرة التي تواجهها النساء في أنه يتم تمثيلهن كنساء في نفس الوقت الذي يُعرفن فيه “أننا لسنا كذلك”.
   في سعيها إلى إبراز “الفجوة” بين “الواقعي” والتمثيلي في أسلوب لعب مقاوم “لسنا كذلك”، وجدت المؤدية النسوية حليفًا مفيدًا في نموذج المسرح السياسي لبرتولد بريخت. كان اهتمام بريخت الخاص قائم على الطبقة وليس على نوع الجنس. فسعى مسرحه إلى إحداث ثورة في البروليتاريا المضطهدة، لكنه فشل في رؤية الاختلاف بين الجنسين كقضية في نضال الطبقات العاملة. وبالتالى، فإن إمكانات النموذج البريختي لممارسة مادية نسوية لا تأتي مباشرة من بريخت، ولكن من عمل العلماء والممارسين النسويين الذين سخروا نظرية بريخت وممارستها للمشروع النسوى.
  عند إعادة النظر في جوانب نظرية السينما النسوية من موقف المسرح النسوى، لفتت مقالة إلين دايموند عام 1988 حول “النظرية البريختية/ النظرية النسوية Brechtian theory/Feminist Theory” (وهي نقطة مرجعية أساسية لنقد المسرح النسوى، تمامًا كما كانت مقالة مولفي عام 1975 في دراسات السينما) انتباهنا إلى الطرق العملية والتي فعلت أكثر من جعلنا ندرك النظرة والطريقة التي يُنظر بها إلى النساء، فقد قدمت الفرصة للتدخل النقدي في بنيات النظر: “لقد أعطانا منظرات السينما النسوية، اللواتي ينطلقن من التحليل النفسي وعلم العلامات، الكثير لنفكر فيه، ولكننا، من خلال النظرية البريختية، لدينا شيء لنقدمه لهن: جسد أنثوي في تمثيل يقاوم التشيئ وموقف قابل للتطبيق أمام المتفرج الأنثى. إن نظرية بريخت في الاغتراب واقتراحاته العملية للمؤدين حول كيفية إظهار أنساق القمع الاجتماعي من خلال وسيلة الأداء (على النقيض من “طريقة” “الدخول في الشخصية”)، يمكن أن تُستخدَم في سياق المسرح النسوي لغرض محدد يتمثل في اغتراب نوع الجنس كنسق إشارات. ويمكن استخدام تأثير الاغتراب لإظهار نوع الجنس. وكما توضح دايموند:
إن الممارسة النسوية التي تسعى إلى فضح القيود المفروضة على الجنس والسخرية منها، والكشف عن الجنس باعتباره مظهرًا، وباعتباره النتيجة وليس الشرط المسبق للممارسات التنظيمية، تستخدم عادةً نسخة من تأثير بريخت. أي أنه من خلال إبعاد (وليس رفض) الأيقونة، ومن خلال إبراز توقع التشابه، يتم الكشف عن أيديولوجية نوع الجنس وإعادتها إلى المتفرج،
إن الممارسة القائمة على نظرية بريخت، جنبًا إلى جنب مع النظريات النسوية حول الجنس، قد وفرت وسيلة للتدخل المادي في تأطير «الأنثوي».

الهوامش
 • إيلين أستون : محاضرة أولى في دراسات المسرح بجامعة لوبورو. ألفت كتاب «مقدمة في النسوية والمسرح» (دار روتليدج للنشر، 1995)، وشاركت في تأليف كتاب «المسرح كنظام إشارات» (دار روتليدج للنشر، 1991).
 • هذه المقالة هي الفصل الأول من كتاب « Feminist Theater Practice» الصادر عن مطبوعات روتليدج عام 1999


ترجمة أحمد عبد الفتاح