مصر .. باريس .. نيويورك!!

مصر .. باريس .. نيويورك!!

العدد 867 صدر بتاريخ 8أبريل2024

في أوائل أبريل 1930 بدأت فرقة الريحاني عرض مسرحيتها الجديدة «مصر باريس نيويورك»، وكتب «أبو المعالي» - الناقد الفني لمجلة «مصر الحديثة المصورة» - مقالة نقدية تحليلية عنها! والحق يُقال إنها مقالة نموذجية تختلف عن أغلب المقالات التي كُتبت عن عروض فرقة الريحاني السابقة! ففيها مقدمة تبين أهمية الفرقة بالنسبة للفرق الأخرى، وبها رؤية حالية ومستقبلية، وفيها تحليلات لم نقرأها من قبل عن عروض الريحاني!!
بدأ الناقد مقالته بمقدمة، قال فيها: تمتاز فرقة الريحاني عن بقية فرقنا المسرحية باختيار مشاكل الحياة المصرية موضوعاً لرواياتها، ومحوراً تدور عليه حوادثها فتراها تبحث علة أو تظهر خطأً أو توضح فضيلة، وتمثل في ذلك الحياة المصرية بأجل معانيها وأوضح صورها، ولطالما قلنا قبل اليوم لرجال النهضة الفنية في مصر وغيرهم ممن يتصلون بالمسرح صلة مباشرة أو غير مباشرة أن الواجب يدعونا أن نحرص على القومية المصرية بكل ما نستطيع من وسائل، فيكوّن من مسرحنا جبهة محلية نستطيع المفاخرة بها يوماً ما – إذا قدر لنا هذا – ولا نجني على المسرح المصري بتلك الروايات الأجنبية التي تمثل أخلاق قوم ليست لأخلاقنا ولا لعاداتنا صلة بها، وأوضحنا لهم أنهم ليسوا إلا ناقلين فقط لا فضل لهم، ومثلهم مثل القرد الذي رأى رجلاً يسير على قدمين اثنين بينما هو يسير على أربع فلما قلده وسار مثله انكشفت عورته أكثر من ذي قبل، ولم يكن يدفعه إلى هذا العمل سوى حب التقليد لا أكثر ولا أقل!
ويستمر الناقد في كشف المستور ويقول ما لم يجرؤ على قوله أحد – في هذه الفترة – ومن أقواله: الرواية المصرية ضعيفة .. الرواية المصرية لا يمكن أن تظهر على المسرح إلا مبتورة ومشوهة .. الرواية المصرية سخيفة لأنه لا يوجد في مصر مؤلف واحد بمعنى الكلمة!! بمثل هذه الأساليب وبمختلف هذه النغمات الغريبة تسمع اعتذارات بعض مديري الفرق بمناسبة وغير مناسبة، كأنهم تعمدوا قتل الروح القومية في المسرح الناشئ بأيديهم!! ولو قلت لهم: ها هي «الذبائح» وها هي «عاصفة في بيت» وها هي «البركان» وها هي «الكوكايين» .. وكلها روايات مصرية أنتجتها قرائح مصرية، وكلها نجحت وكان الإقبال عليها عظيماً لرأيت ابتسامة غريبة فكأنهم أصيبوا بعض الشيء بالصمم فلا جواب هناك ولا حديث بعد ذلك!!
وقبل أن يشعر القارئ بالملل من إطالة هذه المقدمة دون دخول الناقد في الموضوع، برر الناقد – بصورة تشويقية - هذه الإطالة قائلاً: نسوق هذه الكلمة بمناسبة إخراج مسرح الريحاني لروايته الجديدة الأخيرة «مصر باريس نيويورك» وليعرف الجمهور إلى أي حد بلغت هذه الفرقة من النهوض والتقدم بفضل إخراج أمثال هذه الرواية المحلية حتى أصبح اليوم مسرح الريحاني هو المسرح المصري الوحيد الذي يحلل فيه تحليلاً صادقاً كل ما يعوق بيئتنا المصرية عن التقدم. ونوع الريفيو من الوجهة الأخلاقية هو من أحسن الأنواع وأفيدها للشعب المصري لأنه عبارة عن روايات استعراضية بحتة تصور للمتفرج الحياة العامة بأفضل معانيها، وتنقل إليه ما يحس به في المجتمع من نقائص وعيوب فتبدأ الرواية وتنتهي وهي تحمل طائفة من الآراء الطيبة في سبيل الإصلاح بعد أن تكون قد حلت كثيراً من المشاكل الاجتماعية، وكل هذا بالمظهر الوديع الذي يحبه الجمهور ويقبل عليه بشغف وشوق. ورواية اليوم من هذا النوع تماماً تسير في طريقها إلى النجاح بقوة هائلة بعد أن تستعرض مشاكل جمة في صور قصيرة لا ترتبط إلا في المناسبات فقط فتظهر الرواية على المسرح وتنساب حوادثها تباعاً وكأن المتفرج يتصفح كتاباً اجتماعياً جليلاً يجمع بين دفتيه كثيراً من الصور والأبحاث الخلقية والنفسية والعادات والتقاليد، ولكنه يقف عند كل بحث منها وقد راقه نقد المؤلف لعيوبه وسار بأسلوب تمتزج فيه الفكاهة بالجد، ولكنه إذا ما جرد من «الرتوش» وخرج من ثوب الفكاهة الفضفاض فهو أشد إيلاماً وأقسى نقداً من ذلك الجهد العميق الذي يأخذ الشدة بالشدة، وقد جارى عقل المؤلف ذكاء الطبيب الذي يضع دواءه داخل برشامة خلابة المظهر حلوة المذاق!
بعد ذلك لخّص الناقد موضوع المسرحية قائلاً: اعتاد عمدة كفر البلاص كشكش بك أن يترك مقر عمديته دائماً ليلهو ويعبث في مصر، فيرتاد أماكن اللهو ويغشى مجامع الأنس والطرب بجرأة وإقدام مادام يعرف أن المال هو الذى يسخر كل شيء في الحياة! ولم يكن عبثه هذا قاصراً على التمتع بالنظريات وحدها بل شاء أن يكون في لهوه عملياً بكل ما في هذه الكلمة من معنى!! فكل همه من الحياة امرأة جميلة وليلة طرب وسرور ينسى فيها نفسه وكيانه، لأنه كان يدرك أن مصير الإنسان بعد الحياة الموت، لذلك يود أن يدخل السرور على نفسه ويمتعها بجميع مشتهياتها قبل أن يدركه داعي الموت ونذير الفناء. وقد شاء عبث هذا العمدة أن يقذف به إلى جمرك الإسكندرية حيث كان يعرف أحد التراجمة ويدعى «حميدة». ولمناسبة ما، تعرّف بزوجة رجل أرناؤطي وسلبها منه، فجدّ هذا في سبيل القبض عليه لقتله ولكنه حينما يعثر عليه في الجمرك يريبه منظره الغريب فقد خلع جبته وقفطانه وعمامته وارتدى بدلة أفرنكية وقبعة جميلة متخذاً لنفسه لقباً جديداً هو المستر «جونسون» أحد السياح الأمريكان، وكلما غالط الرجل نفسه وهمّ بالقبض عليه شاهراً سلاحه بيده منعه الترجمان محتجاً بأنه سائح أجنبي! وظل الرجل متردداً في شخصية هذا الأجنبي إلى أن خدع نفسه أخيراً بالبراهين القوية .. فقد أتت فتاة أجنبية تحمل طفلاً صغيراً - وهي إحدى أفراد عصابة أجنبية لتهريب المخدرات - فرأى الترجمان صديق كشكش أن هذه فرصة سانحة لينقذ صديقه من الموت فعمل على تقديم هذه الفتاة للرجل الأرناؤطي زاعماً أنها زوجة المستر جونسون، وهنا لا يجد كشكش بداً من التسليم والموافقة، وفي الوقت الذي يتم فيه التعارف بين هذه الفتاة وزوجها المزعوم تقدم إليه ابنته الصغيرة راجية منه مداعبتها وتنصرف، وبعد وقت قصير يتضح له أن الطفلة التي يحملها ما هي إلا دمية لا حراك بها، وقد مُلئت من الداخل بالحشيش - الذي كانوا يأملون تهريبه ولم يستطيعوا - فيهرع مستغيثاً وقد ألقى بحمله إلى البحر وفرّ هارباً. 
فإذا ما كنا في الفصل الثاني فنحن الآن في «خان الخليلي» وقد ظهرت تلك الحوانيت الأثرية بمجموعة تجارتها العظيمة ومبانيها العجيبة، وفي قهوة بلدية صغيرة ظهر جماعة «الفتوات» يدخنون التمباك ويلعبون الورق وقد جلسوا يتآمرون على تحطيم «زفة» عُرس فتاة كانت فيما مضى زوجة واحد منهم، وأخذوا يعدون العدة للانقضاض على العريس الذي لم يكن سوى «كشكش بك» فقد خدعه صديقه الترجمان وقدم إليه فتاة من الطبقة الدنيا على زعم أنها ابنة أحد الأعيان، وفي الوقت الذي يتضح لكشكش حقيقة المسألة ويحاول أن يتنحى عن هذا الزواج بعد أن أتفق مع أهل الفتاة على ذلك يأتي إليه صهره وينهال عليه ضرباً ليرغمه على الذهاب إلى الزفة فيضطر هذا مرغماً، وما تكاد الزفة تظهر على المسرح وأمامها الطبول والمزامير البلدية حتى تنشب معركة حامية بين الفريقين فتنهال العصي على ظهر كشكش ولكنه لا يستطيع الاستغاثة ويداري ألمه بالرقص، لأن صهره كان قد أفهمه بأنه إذا استغاث يجلب العار على عائلة زوجته، وهدده بالقتل لو هو فعل ذلك! 
ويرتفع الستار عن الفصل الثالث فإذا نحن في «أوتيل شبرد» وقد ظهرت غانية أجنبية تنصب مع حمودة الترجمان الشباك لرجل عجوز غني تنفق عليه خليلته السورية العجوز بسعة وتملكه مالها. فنفهم من صيغة الحديث بينهما أنها ترجوه أن يوافق للحصول على رجل تتخذه زوجاً مستعاراً لها أو خليلاً لتظهر معه أمام ذلك الرجل العجوز حتى تستميل قلبه أكثر من ذي قبل إليها، عندما يعلم بأنها متزوجة فيوفق الترجمان إلى صديقه كشكش الذي يقبل بعد إلحاح القيام بهذه المهمة، وبينما كان كشكش وزوجته المزعومة جالسين في بهو الفندق يتحدثان، نجد الرجل العجوز وخليلته يجلسان بجوارهما فيحصل بينهما تعارف ويقدم كل منهما زوجته إلى الآخر، وتعد كل واحدة منهما زوج الأخرى إلى مقابلتها على انفراد في ساعة معينة!! وفي الموعد المحدد يتقابل الرجل العجوز بزوجة كشكش المزعومة وبينما هما كذلك يقبل كشكش فتخفي زوجته عشيقها الجديد تحت المائدة وتنصرف فيبصره كشكش ولكنه لا يتكلم ويقسم على الانتقام منه. وبعد برهة تقبل خليلة ذلك الرجل فتعرض قلبها على كشكش بك وترجوه أن يقبلها عشيقة له ذاكرة له كثرة أموالها قائلة بأنها تطوف معه بلدان العالم لتنعمه بلذة الحياة فتنتقل به من مصر إلى باريس فنيويورك وغيرها .. وفي هذا الوقت تأتي زوجته المزعومة فيضطر إلى إخفاء خليلته تحت مائدة أخرى وعندما تسأله زوجته عن السر في وجوده يحاول أن يخفي الأمر ولكنها تذهب فترفع غطاء المائدة فتظهر تحتها المرأة السورية وفي الوقت الذي توجه إليه نظرها لتسأله عنها يذهب هو الآخر بدوره فيرفع الغطاء عن المائدة الأخرى فيظهر الرجل العجوز جالساً القرفصاء تحتها!! وهنا يعتذر كل منهما لزميله بأن ينسى ما حدث!!
ثم يقوم الناقد بتبرير بعض الأحداث مادحاً العرض من وجهة نظره، قائلاً: الرواية قوية بموضوعها سامية به، وهي فوق ذلك تستعرض أنظمة الجمارك وحيل المهربين - ويشكر مؤلفها جهود حكمدار العاصمة على التضييق على تجار المخدرات - وحب النساء للمال حينما يتخذن من جمالهن تجارة يغزون بها قلوب الرجال، وكيف أن التقاليد البلدية الغريبة تحط من قيمة الكرامة المصرية في نظر الأجانب، وتنتهي الرواية بحكمة جلية وهي أن المرء كما يدين يدان! وقد يلاحظ البعض أن حوادث الرواية لا تسير على وتيرة واحدة وأن كل فصل منها يكاد يكون قائماً بذاته لولا تلك الصلة الطفيفة بين بعض شخصياتها في معرض الحوادث، ولكن هكذا يقضي نوع الروايات الاستعراضية وهو نوع حديث في مصر. وأما عن التمثيل وقوته فحدث ولا حرج ويكفي أن نعلم أن فرقة الريحاني في مجموعها هي أقدر الفرق المصرية على إخراج مثل هذه الأنواع بمهارة غريبة واختصاص نادر، ولكن لي ملاحظة جديرة بالاهتمام في الفصل الثاني وهي إننا نشاهد حوانيت في خان الخليلي ولكننا لا نجد لها أصحاباً كأنما هو مكان مقفر لا يوجد به أحد مع أن هذا الحي أكثر حركة ونشاطاً من أي حي آخر فقد كان من الواجب أن نرى به بعض السياح والباعة وغيرهم يمرون أمامنا على الأقل، كما لاحظنا مثل هذا في بهو فندق شبرد وهذا خطأ واضح لأن الواجب أن تساير الحوادث في كل قصة حقيقية واقعية الحياة على المسرح. وقد كانت المناظر [أي الديكور] آية من آيات فن الرسم اليدوي تجلت فيها مقدرة الصانع. ولا أود أن أختم حديثي عن هذه الرواية دون أن أهنئ صديقي الأستاذ الريحاني بنجاحه الباهر في دوره، كما أهنئ المدموازيل «كيكي» في دورها – الذي أرجو أن لا تعتمد السرعة في نطق كلماتها فيه – والقصري وسيد إبراهيم وعبد النبي وجبران وكمال المصري وشفيقة جبران وغيرهم من أفراد تلك المجموعة الفذة، والراقصات لهن كل إعجابي وثنائي!!
أما «ح.م.د» المندوب المسرحي لجريدة «المنبه»، فقد كتب كلمة موجزة مباشرة عن العرض بها تجديد في رؤية الجمهور لعروض الريحاني، قال فيها: هذه الرواية تتناول بالنقد بعض العلل التي يشكو منها مجتمعنا، فتصوغ هذا النقد في صورة فكهة تتقبلها النفوس، فأنت حين تشهدها تتلقى الموعظة لينة لا تصدمك خشونتها وتنفر منها لفظاظتها. فقد تناول العرض التعريفة الجمركية بنقد لاذع فهمنا منه أن ثمن السلعة يتضاعف عدة مرات بالرسوم التي تؤخذ عليها. ويلوح لنا أن المؤلف كان يتكلم في ذلك بلسان المستوردين ونخشى أن يكون في الأمر دعاية خاصة لغرض خاص! ومهما يكن الأمر فقد كنا نحب من الأستاذ الريحاني ألا يعطي نقده صبغة الحملة البحتة، بل يذكر ولو تلميحاً بعض فضائل هذه التعريفة! وفي الرواية مشهد ظريف صور به المؤلف ما عليه بعض الموظفين من جمود العقل وعدم التصرف وحرصهم على تنفيذ التعليمات حرفياً كما هي دون تقدير للظروف والبيئات .. فهذا شاويش الجمرك المكلف بتفتيش المسافرين منعاً لحوادث التهريب، دخل عليه المسافر فمزق بطانة جاكتته ليرى إن كان يخفي فيها شيئاً من المهربات، وشق نعل حذائه الجديد! وهذا مثمن الجمارك أمامه طرد من سيارات لعب الأطفال، فينظر في جدول التعريفة فيقدر لها ثمن السيارات الحقيقية، لأن التعريفة الجمركية حددت الرسم على السيارة دون تحديد إنها سيارة حقيقية أم لعبة!! نحن لا نقول إن هذا يحدث أو ذاك وإنما نقول إن ما صوره الريحاني في روايته بأسلوبه الفكاهي الذي ينزع إلى المبالغة إنما هو تعريض صريح ببعض ما يجري في مصالحنا الحكومية من تصرفات جامدة كأنما هي تصدر عن آلة صماء لا قدرة لها على وزن الأمور أو تقديرها. والنقطة الثالثة التي أشار إليها الريحاني هي أنه على الرغم من جمود البوليس والتزامه تنفيذ التعليمات بدقة تحمله حتى على تمزيق الثياب فإن المهربات تفوت بين سمعه وبصره فيؤخذ بحيل بسيطة أو يتساهل في التفتيش تأثراً بعظمة المسافر «المهرب» أو جمالها إن كانت فتاة. وقد أحسن الريحاني كثيراً حين جعل الأشخاص الذين يرتكز عليهم التهريب في الرواية من الأجانب فقد آن لهؤلاء الأوغاد أن يذكروا أنهم بعملهم الدنيء إنما يقتلون أبناء مصر التي تؤويهم وتهيء لهم مائدة شهية زاخرة بألوان الطعام الفاخر. وثمة مشهد آخر يحلل فيه الريحاني نفسية أولاد البلد المعروفين باسم الفتوات. فرأينا كيف يتعاركون ويسيلون الدماء دون سبب على الإطلاق إلا أنهم فتوات ولا بد للفتوة كل يوم من مشاجرة تلين لها أعصابه! وراقني في الريحاني المشهد الظريف الذي عرض به لفكرة البوليس النسائي. أما الراقصة ذات المروحة التي ظهرت في الفصل الأخير هي الوحيدة التي ذكرتنا بأن الرواية استعراضية نظراً لفخامة ملابسها وابتداء رقصها! ومع ذلك فراقصة «واحدة» بمفردها لا يمكن أن تصنع مشهداً استعراضياً لا بد فيه من عدة راقصات مجتمعات! وثمة ملحوظة أخرى هي أن الرقصات كلها تقريباً بدون استثناء قديمة سبق أن شهدناها مراراً وتكراراً على مسرح الريحاني، وقد كنا ننتظر أن نلمس آثار الابتكار والتجديد.


سيد علي إسماعيل