خواطر عامة حول فن التمثيل (2)

خواطر عامة حول فن التمثيل (2)

العدد 866 صدر بتاريخ 1أبريل2024

والآن تعالوا نعد إلى تلك التدريبات التي وصفتها بالأساسية. وهي تدريبات بسيطة للغاية شرطها الأساسي أن تقوم بها يوميا. 
التدريب الأول: هو ما أطلق عليه (تدريب المشاهدة اليومية) أو التأمل. وهو ببساطة أن تكون حريصا على تأمل المواقف والشخصيات التي تصادفك في الشارع ووسط عائلتك. والتأمل هنا مقصود به تأمل التفاصيل من حركة الشخصية وطريقة حديثها وكيفية تطور الموقف الذي كانت فاعلة فيه و.. و...وحين تعود إلى بيتك أو حين تخلو بنفسك حاول أن تدون ملاحظاتك تلك على ورقة احتفظ بها. واحرص أن تفعل ذلك (أقصد الملاحظة) وكأنك لا تفعل شيئا حتى لا توقع نفسك في حرج مع من تلاحظهم. وثق أنك بعد قليل من الممارسة ستجد نفسك تفعلها بتلقائية ودون تعمد. وثق أيضا أن هذا التدريب هو أحد أهم خانات مخزنك أو حصالتك أو جهازك الذي سيسهل عليك فهم الشخصية الدرامية التي سيطلب منك تأديتها. ستخرج تقنيات أدائك سهلة ويسيرة. وستكتشف بعد وقت كاف أنك تمتلك مخزنا عامرا بالشخصيات والمواقف. 
أما التدريب الثاني: الذي أراه مهما في إعلاء قدرة تركيزك فهو كالآتي.
 احرص في وقت محدد من اليوم أن تجلس وحيدا في حجرتك المليئة بالتفاصيل عادة، واختر أي تفصيلة منهم (فنجان موضوع على رف أمامك أو أباجورة على منضدة في ركن أو فازة ورد أو .. أو .. وتأملها جيدا لمدة دقيقتين أو أكثر قليلا. ثم أغمض عينيك أو أعطها ظهرك وحاول أن تتذكر تفاصيل هذه الوحدة التي تأملتها. ويا حبذا لو سجلت على هاتفك ما تقول عن تفاصيلها. ثم افتح عينيك واسمع ما سجلته وأنت تنظر إليها واكتشف ما الذي غاب عنك من تفاصيلها ثم أعد الكرة.. وهكذا حتى تقتنع أنك لم تترك تفصيلة فيها إلا وذكرتها. 
هذا التدريب (اليومي بل والمحدد بوقت تستقطعه من يومك) سيعلي من قدرتك على التركيز ومن ثم من قدرتك على التخيل. 
أما التدريب الثالث: الذي أراه أيضا مهما فيخص آلة نطقك.
 ممثل يعاني من خلل ما في آلة نطقه هو ممثل ناقص ضعيف بل فاشل. وإذا أردت أن تكتشف عيوب آلة نطقك ومخارج حروفك عبرها افعل الآتي. ضع ألفاَ مكسورة قبل كل حرف من حروف الأبجدية العربية (إ) وانطق الحرف بها مثل (إب، إت، إث، إر... وهكذا) ربما تكتشف أنك تنطق الراء ياء مثلا حتى وإن لم تكن صريحة. أو السين مغلفة بثاء أو شين.. وهكذا.  حينها ستدخل على التدريب التالي وهو بسيط للغاية لكنه ناجع للغاية. وهو أن تضع قلما بالعرض في فمك (يا حبذا لو كان قلما من الرصاص لأنه عادة ما يكون مستقيما) واضغط عليه بأسنانك وانطق الحرف مراراً وتكراراَ. بعد قليل أو كثير من وقت ستكتشف أنك عالجت هذا الخلل. هذا إذ لم يكن عيباً خلقياً يحتاج لإجراء جراحة بسيطة في تكوين عضلات الفم أو ترتيب الأسنان.. هذا إذا كنت تريد أن تكون ممثلا كاملا.
إلى جانب هذا التدريب البسيط المهم عليك أن تحرص على تدريبات الصوت أو ما يعرف باسم ال (صولفيج). 

وأخيرا الإلقاء 
الإلقاء هو فن وعلم.. علم له قواعده التي لا بد لكل ممثل أن يعرفها ويتقنها. وهي قواعد تخص كيفية نطق كل حرف من حروف اللغة العربية. فلكل حرف طريقة في استخدام آلة النطق التي تتكون من الحنجرة والفم (بمكوناته) والأنف والقفص الصدري. فالممثل الذي لا يعرف قواعد الإلقاء ويتدرب عليها هو ممثل ناقص. فكم من الموهوبين تضيع موهبتهم في نطق غير صحيح وصوت يخرج من أماكن غير صحيحة. 

أوهام يجب تحطيمها 
والآن دعونا ننفض عن أذهاننا بعض الأوهام التي أراها للأسف منتشرة بين من يمتهنون هذه المهنة (مهنة التمثيل) بل ومن يشاهدونها. 
الوهم الأول أو دعوني أسميه كما أحب (الخطأ الذي يقترب من الخطيئة) هو تعبير أسمعه كثيرا ويثير غضبي كثيرا وهو تعبير (التمثيل هو ألا تمثل)!
كيف؟ كيف يستقيم أن يكون الفعل هو نفيه؟ أعرف أن من يطلقون هذا التعبير - وخاصة من المتخصصين للأسف -  يقصدون به: (أن تبدو وكأنك لا تمثل) فـ(وكأنك) تلك هي مربط الفرس. فلكي تصل إلى درجة عالية من الـ (وكأنك) عليك أن تمثل وتمثل وتمثل. وبالتالي عليك أن تتدرب وتتدرب وتتدرب. وحينها ستجد أنك بعد فهمك للشخصية والتدريب على ملامحها الخارجية والداخلية والبحث في تاريخها، بل وصناعة تاريخ لها متسق مع ملامحها الأساسية التى خطها الكاتب، ستقترب كثيرا من معنى (وكأنك) وكأنك هو.. ذلك الشخص الآخر الذي تؤدي دوره. أي وكأنك لا تمثله. 
أما الوهم الثاني وهو منتشر للغاية. يتمثل في تعبير ال (تقمص) والمقصود به أن ينجح الممثل في أن يكون هو الشخصية تماما. وهنا أعرف أنني سأصدمكم بنفيي لوجود هذا ال(تقمص التام) فأنت كممثل (أقصد بشخصيتك الواقعية) موجود بدرجة أو أخرى مهما حاولت إخفاءها. فالفارق بين ممثل وممثل يكمن فقط في  (إلى أي مدى نجح في إخفاء جزء كبير من ملامحه هو وأظهر الكثير من ملامح الشخصية). 
عليك أن تعلم صديقي الممثل أنك إذا أصبحت الشخصية تماما (وهو مستحيل) فذلك سيلقي بك إلى خانة المريض النفسي وربما العقلي. وإذا أردت أن تتأكد من هذه الحقيقة اختر عددا من الشخصيات التي أداها أبرع الممثلين. ضع هذه الشخصيات (مشاهد منها) بجوار بعضها وشاهدها بالترتيب. ستلاحظ أن ممثلك المفضل (أحمد زكي مثلا أو نور الشريف أو محمود مرسي) أو حتى من الأجانب: ( روبرت دينيرو أو آل باتشينو أو مارلون براندو..) أو غيرهم من البارعين الموهوبين موجود بقدر أو آخر في الشخصية التي يؤديها (على الأقل بالملامح أو في تفصيلة حركة دقيقة كارتجاف رمش أو حاجب أو .. أو ...) 
وعلى النقيض ستجد الممثل (الفاشل) حتى ولو كان نجما – فالنجومية لها أسباب أخرى – موجود بكامله في كل شخصية (ضابط، فلاح، عاطل، رجل أعمال.... إلخ ). وإذا أردتم أمثلة ومن دون حرج، شاهدوا مشاهد متتالية لأعمال أي من (أحمد عز أو أحمد السقا أو أي من تختارون مما يشبهونهم).

إذن ما الذي يحدث بالضبط وماذا نسميه؟
لكي نتخيل ما الذي يحدث حين يتناول ممثل ما شخصية ما ويحاول الابتعاد عن ذاته ليكون (بقدر كاف) الشخصية، تعالوا نتخيل تقنية سينمائية اسمها الـ (مزج) أو (الظهور والاختفاء التدريجي) وهي التقنية التي تتمثل في أخذ لقطات لشجرة مثلا أو شخص أو بيت وهو في وضع معين (شاب أو يانع أو مزهرة) ثم أخذ لقطات للنوع نفسه في أوضاع أخرى (كهل، متهدم، جرداء). ولنتخيل أن الصورة الأولى هي ال (الممثل) والثانية هي ال (الشخصية). في السينما وبفعل المونتاج تقترب الصورة الحديثة ببطء من الأصل ويمتزجان ثم تنسحب الصورة الأصل ببطء لتبقى الأحدث. فيصل للمشاهد السينمائي معنى ما. في فعل التمثيل يتم الأمر نفسه. فالممثل يبذل جهدا ليسحب شخصيته الواقعية من أمام عين وأحاسيس المشاهد ليظهرملامح (شكلا وأحاسيس) الشخصية التي يؤديها. وإذا كان في الصورة السينمائية تنسحب الصورة الأولى تماما، فإنه من الصعب بل من المستحيل في التمثيل أن تنسحب تماماً شخصية الممثل الحقيقية. فأنت ترى الممثل وكأن لحظة المزج السينمائي ثبتت، فتظهر ملامح الشخصية مغموسة بملامح باقية من الممثل. ويكمن الفارق فقط بين ممثل وممثل في كيف نجح أحدهما في تغييم الصورة الواقعية (شخصيته) وإبراز الصورة الممثلة (الشخصية الدرامية). ونقول تغييم لا نفي، لأن النفي التام صعب بل مستحيل. وإذا حدث هذا المستحيل فالممثل قد أصابه خلل نفسي وربما عقلي.
لماذا أقول هذا وأؤكد عليه؟ ذلك لأن البعض وخاصة في بداية الطريق يجلد نفسه لأنه (لم يكن الشخصية تماماً) والبعض يجلد الآخرين لأنهم لم يكونوا الشخصيات تماماً. كل ما عليك هو – مرة أخرى – التدريب المستند على تحليلك للشخصية بمساعدة المخرج وعلى قدرتك على صنع تاريخ لها. كل ذلك معا يجعلك أقرب للشخصية. وأقول أقرب ولا أقول أنك هي. 


محمد الروبي