المسرح والعلاج العلاج والرعاية أم الوهم(2)

المسرح والعلاج   العلاج والرعاية أم الوهم(2)

العدد 858 صدر بتاريخ 5فبراير2024

                             التطهير وتأثير العلم 
     ربما كان التطهير هو أول مفهوم يستدعي حدوث تأثير العلم في الخطاب عن المسرح. وكلمة التطهير catharsis المأخوذة من حرف الجر “Catha” في اللغة اليونانية (الذي يعني «ضد») والفعل airo بمعنى يرفع ويبعد؛ وكلمة cathairo بمعنى ينظف ويطهر. وفي العصور الكلاسيكية كانت كلمة Zeus catharsios تعني تطهير جوبيتر. وكلمة catharsion udor تعني الماء اللامع. واليوم في أثينا فإن كلمة عاملة النظافة تعني catharistria. 
     ومصطلح “التطهير catharsis” – الذي وظفه أرسطو – لأنه قد نسج أيضا روابط معقدة مع طقوس التطهير وطرد الأرواح الشريرة منذ العصور القديمة. وقد استأنف فن الطب الذي نشأ على أساس نظرية الفكاهة المعنى الأصيل للكلمة. وبالنسبة للطبيب، يشير التطهير إلى عملية الإبراء والحقن الشرجية والنزيف وتقنيات الاستئصال الجراحي. إذ يجب إزالة كل ما يرهق الجسد ويلوثه (الروح أو الشوارع أو المدينة أو العالم). وفي الطب، ولاسيما الطب المتخصص في التغذية والنظم الغذائية والهضم وطرد المخلفات العضوية، فإن التطهير معني إلى حد كبير في ماديته النفسية. والمفهوم يستدعي علم تغذية العواطف. إذ يشير إلى المواد العاطفية التي تقاوم الاستيعاب، المناظرة لرواسب المواد الغذائية غير المهضومة التي يتم تناولها والإفرازات المعوية التي تتحد معها لتكوين كتلة البراز. وبعد كل ذلك، نصف الشخص المتصلب نفسيا، المقيد والمتوتر والمكبوت والمصاب بالإمساك. 
     لقد ذُكر التطهير عدة مرات في الكتابات المنسوبة إلى إيبوقراط عدة مرات، بمعنى القيء والحقنة الشرجية والنزيف. وفي الطب المنسوب إلى إيبوقراط، يتكون الفعل التطهيري من تفريع كل شيء يرهق الجسم، بعد تسييل المواد وتحرير الفتحات – مع الحرص على مراعاة البلد والموسم والعمر والمرض الذي يصح فيه الاستنفاد من عدمه. 
     وبعكس نظرية الفكاهة، استمر لتطهير عبر القرون، وأظهر أنه بتمتع بقدرات رائعة على التكيف. وبالنسبة للمسيحيين، فإنه يعني التشديد، وبالنسبة لروسو فإنه سطحي، وتحويلي في نظر ديدرو وليسينج، ومفيد للممثلين وفقا لجوته، علق عليه شيللر ونيتشه، وإنه مندمج في السياسة في رأي البريختيين، وعلاوة على كل ذلك، فإنه فرحة علماء النفس والمعالجين. وقد بدأ إصدار كتاب جيكوب بيرناي عام 1880 حول المفهوم الأرسطي للتطهير عصر انتصاره في الممارسة الإكلينيكية. وجاءت هذه الدراسة التي أجراها عم زوجة فرويد المستقبلية في الوقت الذي تولى فيه بروير مسئولية مريضة محبة للمسرح دخلت التاريخ تحت اسم مستعار هو “ماري”. وحالة هذه المريضة، التي أصبحت خطيرة وغير قابلة للشفاء من إدمان المورفين، وكانت تعد لفترة طويلة النموذج الأولي للشفاء التطهيري. في الواقع ألهبت فكرة التطهير عقول الناس أكثر مما صقلت روح الملاحظة. وفي بعض الأحيان، يلاحظ الينبرجر أن التطهير كان أحد أكثر الموضوعات التي نوقشت بين المتعلمين، وكانت أحد موضوعات النقاش في صالونات فيينا. وقد اشتكى فيلهم فيتس مؤرخ الأدب من أنه بعد كتاب بيرنيز كان هناك حماس كبير لفكرة التطهير لدرجة أن القليل من الناس ظلوا مهتمين بتاريخ الدراما. ووصلت كلمة “التطهير” إلى فرنسا في المعاجم الطبية عام 1865، تحت نموذج “التطهير يعني كل عمليات الإخلاء الطبيعية والاصطناعية، بأي طريقة”. 
    يتضمن كل تأثير للعلم نصيبا من الوهم: وما ناقشناه يعد موضوعا للحقيقي وليس موضوعا للتاريخ والثقافة. وهذا الحماس للتطهير أدى بالناس أن تنسى أن تضع في اعتبارها كلية الأساس النظري للنظرية الطبية التي أسسته. والاقتراح الثاني من أقوال إيبقراط المأثورة لا لبس فيه: “الأمراض التي تنشأ من التخمة تُعالج بإفراغ التخمة؛ والأمراض التي تنشأ من التخمة تُعالج بالتخمة، وعموما، الأمراض تُعالج بمضادتها. 
                                  تعالج أم تملأ؟
      لقد أدى تفسير كلمة التطهير عند بريور وفرويد – واستئنافها في فكرة التحرر وتعميمها في كلمة التفريغ النفسي defoulement إلى التركيز على التفريع بدلا من الإشباع. وسواء كان التطهير عفويا أو مستحثا، فإنه يشير في الممارسة الإكلينيكية إلى رد فعل عاطفي تتحرر من خلاله الذات، إما بالكلمات أو بالإيماءات، أو من ميول مكبوتة في فيما دون الوعي أو هوس ناتج عن صدمة عاطفية قديمة. 
     وذلك لكي ننسى أن الخيالي والعاطفة وعلم الجمال لا غنى عنهم لتغذية التحفيز والإبداع. ومسرحنا البرجوازي المتمدين والمتحضر والمثقف والمتطهر بعيد جدا عن موقف الجمهور في اليونان القديمة. فالتراجيديا التي نتخيلها متحضرة. وننسى الصارخونوالمضيقون الذين يقاطعون الممثلين والأشخاص العاديين الذين يصفقون بصوت عال لممثليهم المفضلين ويطردون الممثلين الذين لا يحبونهم، والأشقياء المتذمرون الذين يُسمح لهم بالمشاركة في أكثر الكوميديات فحشا، والسواعد القوية العدوانية التي تطرد أي شخص يحل محلها. ولا بد أن نسمعهم وهم يصفرون ويضحكون ويدقون بأقدامهم. ومع أن أي عنف أثناء مهرجان ديونيسيوس يعد تدنيسا للمقدسات. فقد كان العنف موجودا بالطبع، ولاسيما في الأحداث الهامشية، للإشارة إلى أنه كان يجب عقد اجتماع في المسرح بعد المهرجان للفصل في المخالفات. وفي نواح معينة يذكرنا العنف في المسارح اليونانية بالعنف في ملاعبنا اليوم. فالناس ذهبت للمسرح للحصول على جرعة من العاطفة – مثلما يخرج الناس اليوم في المظاهرات، لكي يشاركوا بلا شك في أعمال معينة خطرة. ويمكن أن توجد مكونات مماثلة: الحشد الذي لا يمكن السيطرة عليه، والطعام والشراب الذي يجلبونه معهم، والأداء، ومدته، والإضاءة، والنجوم، والروح الحزبية، والمنافسة، وأشياء يمكن استخدامها كمقذوفات. ويشير أحد النصوص إلى أن شاعرا محرضا في أواخر القرن الخامس، يدعى هيجيمون Hegemon، وصل إلى المنافسة بمعطفه المليء بالحجارة فقال: «من يريد أن يرميني بها فليفعل”. لقد كان هذا المسرح أكثر شبها بشارع الجريمة في باريس والجولات الشعبية التي رواها كاميه بوف في مذكراته، أكثر من كونه يشبه مسابقة على شرف التراجيديا التي صاغها جيدا لويس بوليتي الفائز بجائزة روما لبلاط قصر شايو. 
     وفي إيران، فإن الحشد الذي يندفع إلى أداء التعازي الشيعية يأتي لكي ينغذى على عواطف قوية، إحياء لذكرى استشهاد الإمام الحسين، ويتم أداء الدراما الموسيقية أثناء شهر المحرم في يوم عاشوراء. واسمه له أصل عربي يعني التعبير عن التعاطف، والحداد والمواساة. والتعاطف يعني المعاناة مع الآخر. فالجمهور يبكي وينتحب ويعاني مع متعة مذهلة تمنحها سعادة العواطف الجماعية. وطقوس ليلة كناوة في المغرب لها نفس القوة لنقل الناس عاطفيا الذين يستدعون الموسيقيين للحضور طوال الليل. وبينما يستمر الأداء، والمضيفون الذين يشعرون بالحاجة إلى الدخول في الدائرة يقعون في نشوة مقننة تماما. وفي هذه الحالة لن يكون الأداء هو سبب العرض العاطفي. بل إنه مجرد ذريعة. 
     وفي وقت مبكر جدا في الأدبيات العلمية الحديثة سلط علماء النفس الضوء على حقيقة أن البشر ربما كانوا أكثر أنواع الحيوانات عاطفية. وبالنسبة لدونالد هيب فإن تنظيم العواطف هو أساس التنظيم الاجتماعي. وقد تبنى هذه الفكرة بشكل خاص عالم الاجتماع الألماني ن . إلياس الذي أكد لنا أن تاريخ الحضارة الإنسانية يمكن أن يُفهم باعتباره تاريخا للسيطرة على العواطف. ولهذه الأسباب ابتكرت المجتمعات الإنسانية مجموعة متنوعة من الممارسات التي تؤكد: 
(أ ) إنتاج العواطف والاستمتاع بها. 
(ب) السيطرة على تلك العواطف. 
(ج) دمجها. 
 لقد كان اليونانيون على دراية باضطرابات المزاج التي يتم التعبير عنها بالإحباط والقلق واللامبلاة العاطفية وفقدان الحافز. وقد تحدث زينون عن الاكتئاب Athumia، وهي كلمة مأخوذة من كلمة thumos بمعنى الغضب، وتعني القوة الحيوية، عندما تكون مسبوقة بالحرف a الذي يعطينا كلمة athymia (بمعنى الاكتئاب). ويُلاحظ التثبيط العاطفي أحيانا في حالات عصاب ما بعد الصدمة عند ضحايا العنف والإرهاب والاغتصاب والحرب والحوادث وما إلى ذلك. ومن المثير أن نلاحظ أن الطريقة التي اقترحتها عالمة النفس الفيسيولوجي سوزانا بلوخ لتدريب الممثلين، بطريقة ألبا ايموتنج Alba Emoting، إذ اكتشف أنه مؤثر في إعادة تأهيل النشاط العاطفي عند الذين يعانون الاكتئاب. وبخلاف التدريبات التي تأسست على الذاكرة العاطفية، استخدمت بلوخ نماذج النغمة العضلية والوضعية التنفسية للعواطف  الأساسية (نماذج المستجيب العاطفي Emotinal Effector Patterns). إذ يشجع أداء العواطف – بدون قصد مسبق – يشجع على ظهور الحالة الذاتية. ويولد الفعل البدني العاطفة، وليس العكس. ولعل كتاب عالم الأعصاب أنطونيو داماسيو “خطأ ديكارت: العواطف والمنطق والعقل البشري Descate›s Error : Emotion, Reason, and the Human Brain “ قد نشر نظرية العواطف التي لم تعد تجعلها اضطرابا في الوعي. في الواقع، أظهرت البحوث منذ عدة سنوات الدور الرئيسي في كل من الفرد والحياة الجماعية. ومن جانبهم، تم إثراء علم النفس العرقي وأنثروبولوجيا العواطف من خلال الأبحاث المتعلقة بمرونة المخ ودينامية الشبكات بين المتشابكة: إذا جدد المفهوم المعاصر فكرة القوة الحيوية القديمة والطاقة النفسية، فإن الأقل وضوحا هو أن يُفهم نشاط الدماغي  كنظام معقد يرتكز على طبيعة كثافة خبرات التعلم. فالمجتمعات تنغمس بطريقة ما في الثقافات العاطفية بالمعنى النفسي والبيولوجي للمصطلح، والتي تتميز بالتقلب بين قطبين متعارضين، هما الإفراط والافتقار. وفي ثقافاتنا ذات الطابع الفكري، ومع تقسيم الفعاليات إلى عناصر، مع خيالات ضيقة، تم فصل الاستمتاع بجماليات الفن ولعب الخيال إلى أمثلة اجتماعية جادة للحياة اليومية. ففي الماضي، وفرت الممارسة الدينية إجمالا – في السراء والضراء – ما يعاش الآن كحدث متميز، منفصل عن المسار العادي للحياة. فنحن نذهب إلى الحفل الموسيقي لكي نسمع أنشودة الكانتاتا لباخ التي كانت في الأصل مخصصة لخدمة الكنيسة. 
     المهارة العاطفية في الحياة – ما يمكن أن نسميه بشكل تافه التمكن العاطفي، أو في تعبير همجي “الإدارة العاطفية – إن السيطرة على العواطف ضرورة بقدر ما هي ضرورة للحياة الفردية والحياة الجماعية. ومن التنوع الشديد للتقنيات الثقافية التي تهدف إلى تحقيق ذلك سأذكر ثلاث مجموعات رئيسية. وأصر على أن التقنيات الرمزية والمادية والعلمية والتقنية والأدائية التي تتعلق بها لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يتم فرضها في مصفوفة واحدة. وتتطابق هذه المجموعات الثلاثة مع الطرق المختلفة التي يعمل بها الجهار العصبي، والتي هي موضوع الخبرات التعليمية المنتشرة أو المحددة . وسوف  أميز: 
(أ ) تقنيات التكامل، التي تميل إلى الحصول على استرخاء نفسي جسمي مسيطر عليه (الهاثا يوجا، ونظام العلاج بالكاياكالابا، والاسترخاء والتأمل). 
(ب) تقنيات التنشيط، التي تعمل على حالات الوعي بإثارة بنيات ما تحت القشرة المخية، وتثبط تحكم القشرة المخية (النشوة وتجربة التنفس القلوي أو إعادة الولادة) 
(ج) أسلوب التبرير والتشيؤ والتفصيل، الذي يهدف، على عكس ما سبق، إلى تحويل الأحداث العاطفية إلى أشياء مفهومة (التعبير اللفظي أو الكتابي والممارسات الفنية والاعترافات الخاصة والعامة والمجلات الخاصة والحوار). 
     وتقدم النصوص من العصور القديمة المتأخرة الانطباع بوجود نظرية طبية للتحفيز، حيث تولد العواطف التي تشكل جو المسرحية حالات عاطفية مماثلة عند الجمهور عن طريق التعاطف. وتبرز العاطفة المدركة أو تخفف حماس العواطف، وتؤدي إما إلى النشوة أو الاكتئاب. ويدافع الطبيب الفيلسوف كاليوس أورليانوس (متفق عليه بين علماء فقه اللغة أن تاريخه يرجع إلى القرن الخامس الميلادي) عن هذه الفكرة: 
 وبالتالي، بعد القراءة يجب أن تكون هناك مسرحية أو تمثيل 
 إذا كان الحمقى يعانون من الحزن، أو على العكس مسرحية
 تتضمن الحزن والرهبة التراجيدية إذا تأثروا بابتهاج طفولي لأنه من الصـواب أن نصحـح خاصية الانعزال بضـده، لكي  تشفي حالة الروح الحالة الصحية. 
 ولا تُستمد فعالية المشهد من حركة الطرد المركزي العاطفية التي تولدها. بل إنها تنبعث من تركيز الطاقة البدنية والنفسية في الفعل الدرامي. وبالتالي الخطر الذي تمثله للفضيلة. والمسرح كمكان للتحريض الجنسي من خلال الإثارة الحسية والشبقية كان موضوعا لعدة قرون، ووصل إلى عصرنا في أطروحات النظريات الأخلاقية والتربوية والطبية.  والشاعر اللاتيني أوفيد استدعى القوة الشبقية للمسرح في قصيدته “معالجات الحب Remedies of Love”: 
 ولكن هناك أسباب لماذا تمنعك من التردد على المسرح حتى يتركه فارغــا تماما الحــب المطرود من قلبـك. فالقلـب يرق بالتطهير، والمزمار والقيثارة والغناء والذراعين بحركتهما المتناغمة. 
............................................................................
 • جان ماري برادير  كاتب وباحث فرنسي في مجال المسرح 
 • هذه المقالة هي الفصل الثاني عشر من كتاب «المسرح وعلم الإدراك  والأعصاب»  إعداد كليا فاليتي  - جابريل صوفيا  - فيكتور يا كونو


ترجمة أحمد عبد الفتاح