عائد إلى حيفا.. عبر الدراما

عائد إلى حيفا..  عبر الدراما

العدد 853 صدر بتاريخ 1يناير2024

  تمثل فكرة العودة ركنا أساسيا في الأدب الفلسطيني، من تلك الفكرة التي تقترب من العقيدة جاء عنوان تلك الرواية للأديب الفلسطيني الشهير غسان كنفاني (عائد إلى حيفا)، نشرت في عام 1969، قبل أن يغتال في عام 1972 في بيروت. فالعودة أمل كل فلسطيني يشتاق إلى وطنه وبيته الذي بناه وسكنه قبل أن يهجره غصبا عنه على يد قوات الاحتلال الإنجليزي لتمهيد الطريق لاحتلال الصهاينة للبيت والوطن في عام 1948، ورمز العودة مفتاح الدار الذي يحفظه كل فلسطيني وتتزين به صدور سيدات فلسطين. 
 يقرر بطلا الرواية سعيد وصفية عام 1968 العودة إلى بلدتهما حيفا التي هجرا منها مثل كل أهلها بقسوة وعنف، فنسيا ابنهما الوليد «خلدون” في المنزل أثناء هول التهجير مثلهما مثل أهل غيرهما من المدن الفلسطينية، يداعب قلب الأم صفية أمل العثور على طفلها عند جارة أو أحد من أهل المدينة، ويركب الأب سعيد والأم سيارتهما في طريقهما إلى حيفا وتحديدا منزلهما، في أثناء الرحلة يستدعي الزوجان من الذاكرة مأساة التهجير عن بلدتهما بعنف قوات الاحتلال ويتذكران البيت بكل تفاصيله؛ عدد الغرف والمقاعد، وعدد ريشات المزهرية، وغيرها من تفاصيل صغيرة لكنها ما بقي من بيتهما وبلدهما حيفا. ويسير السرد بين الزمنين الماضي ما بين عام النكبة 1948 وعام الرحلة إلى حيفا 1968 أي عشرين عاما، تارة وصف الطبيعة الخضراء لفلسطين بين أرض الزيتون والبرتقال وبين ساحل البحر المتوسط الساحر، يتذكران الأهل والجيران والأصدقاء بمشاعر الحنين والألم، لكن يحدوهما الأمل في العثور على ابنهما خلدون وقد أضحى شابا يافعا في العشرين من عمره. 
حين يصل سعيد وصفية لمنزلهما يجدان أسرة من القادمين من يهود أوروبا قد سكنت منزلهما القديم فأصبح ملكا لها، حيث أعطتهم إياه قوات الاحتلال كمنزل لهم، ليكون ذلك تطبيقا حرفيا للوصف الذي يوصف به وعد بلفور الشهير (أعطى من لا يملك لمن لا يستحق).
 فقد احتلت أسرة أوروبية منزل سعيد وصفية، بل وأخذت ابنهما «خلدون” ونسبته إليها وأطلقا عليه اسم (دوف) وهو اسم أجنبي، وانتهى اسم خلدون سعيد مع احتلال البيت والوطن حين يحضر (دوف) للمنزل ويقابل سعيد وصفية يستنكر وجودهما ويرفضهما ويؤكد أن أمه وأباه هما اليهود من ربياه وكبر بينهما وتكتمل المأساة أمام أعين سعيد وصفية حين يجدان دوف يرتدي الزي العسكري كمحارب في الجيش يدافع عن وجود إسرائيل في فلسطين.
  في هذا الجزء من الرواية يتحول الحوار إلى حوار درامي أقرب إلى الحوار المسرحي بين الأب سعيد والابن دوف، لكل منهما منطقه في الدفاع  عما يعتقده، مع تثبيت المكان محل الصراع أي بيت سعيد أو أرض فلسطين كلها، بين الألم من الماضي والأمل في المستقبل تنتهي الرواية لكن الأمل راسخ عند الأب والأم في ابنهما الثاني الشاب خالد الذي سينضم للمقاومة مع غيره من الشباب للدفاع عن الوطن واستعادته من المحتل.   
  جسد مروان كنفاني مأساة فلسطين عبر حدث بسيط لكنه عميق الدلالات، لقد اغتصب المحتل كل شيء الحجر والبشر، لكن الأمل باق في المقاومة. لذا لم يكن من المستغرب أن تتحول الرواية إلى مسرحيتين، الأولى مونودراما من إعداد وتمثيل غنام غنام ابن فلسطين الحرة، وإخراج  د. يحي البشتاوي، عرضت في عمان عام 2009، المسرحية الثانية مثل دور (سعيد) أيضا غنام غنام من إعداد وإخراج د. لينا الأبيض، وعرضت في بيروت عام 2010، ومن الجميل الاحتفاظ  بنفس عنوان الرواية (عائد إلى حيفا) الذي يؤصل لعقيدة كل فلسطيني في العودة.
 اكتفى غنام غنام في المونودراما أي مسرحية الممثل الواحد؛ بتجسيد شخصية الأب سعيد المواطن الفلسطيني الفاقد لبيته وابنه، إلى جانب أداء بعض الشخصيات الأخرى مثل الأم صفية والشاب دوف (الابن خلدون سابقا). احتفظ إعداد المونودراما نفس زمن الرواية أي نهاية الستينيات حيث يحكي سعيد رحلته لإيجاد خلدون. تشكل مكان العرض في المسرح الدائري بقاعة (محمود أبوغريب) بالمركز الثقافي الملكي، فأحاط  المخرج يحيي البشتاوي الدائرة بالأسلاك الشائكة مثل السجن ووظف الحركة المسرحية (الميزانسين) في القاعة الدائرية كدلالة على حيرة المواطن الفلسطيني وعدم استقراره، بل وعدم وجود ما يرتكن إليه أو يعتمد عليه. فالدائرة كتكوين هندسي بلا أركان أو زوايا، بلا بداية أو نهاية، فقط مركز في وسطها يدور أو يتيه حوله من يدخلها فلو كان مركز الدائرة هو الوطن فإن من يبحث عنه أو يحاول استعادته، يتيه في فضاء الدائرة لا سند له ولا معين خارجي بل إرادته وإيمانه فقط، لذا يؤكد النص على فكرة أن حل القضية يحتاج لحرب. اعتمد غنام على بعض الاكسسسوار مثل نظارة سوداء وكاب لأداء شخصية دوف كعسكري في جيش الاحتلال وركز على صلفه وغروره تجاه المواطن الفلسطيني حتى لو كان أباه، أيضا وظف الشال الفلسطيني الحاضر دوما في مسرح غنام، تارة يتلفح به كما كل فلسطيني وأخرى يستخدمه ككفن يحمل فيه ابنه الميت، وتارة ثالثة غطاء للرأس حين يجسد صفية الأم الحزينة ككل أم فلسطينية. 
ولأن المسرحية قدمت بعد نشر الرواية بحوالي أربعين عاما فكان لا بد للمعد من تحديث قراءته الدرامية على النص الروائي، تبدأ المسرحية بعد نهاية الرواية بحزن الأب على موت خالد الابن الثاني الذي رزق به بعد فقد الأول خلدون في حيفا، إذن فقد انضم خالد للمقاومة ضد المحتل مثله مثل شباب فلسطين الحر، ثم قبض عليه ثم استشهد في السجن ليأخذه الأب ويعيده للأرض بذرة تنبت بطلا آخر، في مشهد حزين مؤلم غلفه صوت غنام المشروخ بالحزن والبكاء، فيعيد الأب المكلوم حكايته من لحظة الآن وهنا إلى لحظة اغتصاب البيت والوطن.  
المسرحية الثانية (عائد إلى حيفا ) التي قدمت في بيروت عام 2010 من إنتاج مؤسسة (غسان كنفاني) قدمت على خشبة مسرح العلبة الإيطالي وجسدت كل الشخصيات، أسرة سعيد وصفية والأسرة اليهودية الأم والأب ودوف. جاء المنظر المسرحي منقسما بنسبة الثلث حيث وقفت سيارة سعيد خارج المنزل في الشارع، في حين سكن الأغراب – اليهود - المنزل، في تجسيد مرئي دال على الحدث المسرحي، أصحاب البيت في الشارع والمحتل داخله. ومن جماليات المنظر أيضا فقر البيت جماليا، ألوان باهتة، أثاث غيرمنظم، إضاءة خافتة، وكأنه بيت بلا روح تسكنه أشباح، خربوا الدار وألحقوا به الدمار. من جماليات العرض الثاني تحدث شخصيات المحتل باللغة الإنجليزية والعبرية لتأكيد هوية المحتل وغرابة وجوده بين أصحاب الدار ممن يتحدثون اللهجة الفلسطينية. 
ومن الجدير بالذكر أن تم تقديم «عائد إلى حيفا” في كل الوسائط المرئية إلى جانب المسرح حيث قدمت فى فيلمين للسينما، الأول بنفس العنوان من إخراج العراقي قاسم حول عام 1981، والثاني حمل عنوان (المتبقي) عام 1994، إخراج الإيراني سيف الدين داد، وبالفيلمين كثير من المشاهد القاسية من عنف وقتل وتهجير تشابه ما نراه الآن في غزة. 
كما تحولت الرواية إلى مسلسل تليفزيوني بديع قدمه التليفزيون السوري عام 2004 من إخراج باسل الخطيب، وكتابة سيناريو وحوار غسان نزال بمقدرة على صياغة الحوار بتحويل السرد البديع في الرواية إلى صورة مرئية جسدت مأساة الشعب الفلسطيني.
دائما حظيت روايات الراحل غسان كنفاني باهتمام نقدي وجماهيري على مدى أكثر من خمسين عاما مثل (رجال تحت الشمس – أرض البرتقال الحزين – ما تبقى لكم – أطفال فلسطين) كما دام الاهتمام في المجالات الفنية مثل السينما والتلفزيون والمسرح.  


سامية حبيب