الفكر / التراجيديا / تراجيديا الفكر ملاحظات على مصير النظرية على خشبة المسرح (1)

الفكر / التراجيديا / تراجيديا الفكر  ملاحظات على مصير النظرية على خشبة المسرح (1)

العدد 850 صدر بتاريخ 11ديسمبر2023

نبذة مختصرة 
 تتناول هذه المقالة العلاقة الفريدة والمعقدة بين النظرية والمسرح من خلال التركيز على الحالة الخاصة للنظرية كما تقدمها خشبة المسرح. ويعرض الجزء الأول سؤال علم الجمال الكلاسيكي: يُفهم الموضوع الجمالي باعتباره مختلفا عن الفكر، ولكن مطلوب منه في نفس الوقت أن تكون نواته هي الفكر. وتعليقا على مثال النظرية المعبر على خشبة المسرح: «رأس المال» لكارل ماركس، والمجلد الأول من “البروتوكول” تأليف ريميني 2006، يقال إن قوة الأداء قادرة على كشف عما تحت سطح النظرية الذي يبدو معروفا جيدا ومرتبا جيدا والتي تجاوزت غالبا عنصر الجنون. ويعالج الجزء الثاني الإشارة الأرسطية إلى تأمل التراجيديا باعتبارها حقيقة شبه منطقية. وتتجاهل منطقية الموقف الجمالي (أو تنسى) أن الموقف النظري يفقد بالضرورة جديته عندما يظهر على خشبة المسرح. ويختم البحث بتأمل النزعة الأرسطية اللاواعية للخطاب عن المسرح والتراجيديا. واعتمادا على بحث شميدت الذي كشف عن التناقض غير القابل للتوفيق بين مفهومي “العقل nous” و”الخيال fantasia”، مما يؤدي مرارا وتكرارا إلى كراهية مرح المسرح الجامح في التقاليد الكلاسيكية. ويجب الكشف عن إعلاء أرسطو للتراجيديا باعتبارها أكثر فلسفية من التاريخ على أساس أنها “حصان طروادة” الذي يخدم إخضاع المسرحية التراجيدية لسلطة الخطاب الفلسفي. ولمقاومة محاولة النظرية تحويل المسرحية إلى مجرد نسخة مزدوجة من التناقض المفاهيمي يجب على المسرح أن يصر على لحظة الغموض والمادية المطلقة واللامعقولية المتحدية. 
 تحظى الفكرة البديهية التي كثيرا ما نسمعها بأن المسرح يقدم الغذاء للفكر بشعبية كبيرة، مثلما يحظى الجدل العكسي ضد المسرح النظري الذي يفكر أكثر من اللازم. وكانت عبارة “نادرا ما أعتقد ذلك» هي العنوان الذي اختاره الناقد بنيامين هينريش للأمسية الفكرية جدا في المسرح أو التي يفترض أن تكون كذلك. ومع ذلك فإن مدى قرب العلاقة بين المسرح والنظرية، والأداء والفكر، نادرا ما يأخذه الوعي الجمعي في الاعتبار. فالعلاقة بين المسرح والنظرية علاقة معقدة، فهناك دائما ارتباط وثيق بينهما، على الرغم من أنه نادرا ما يكون غير مقيد بين الفن والمفاهيم وبين الدراسة والتجربة الجمالية . ولا توجد صيغة بسيطة لشرح الطبيعة الدقيقة لهذه العلاقة . فالقرابة الاشتقاقية بين كلمتي “theoria” و”theatron” هي نقطة مرجعية عامة , فكلاهما مشتقان من كلمة في اللغة اليونانية القديمة بمعنى “ المشاهدة viewing” . ومع ذلك , قليلون هم من يتساءلون عن الأسس والفوارق العميقة في هذه العلاقة المعقدة . ومن أجل الاستفسار عنها بشكل أدق اخترت لنقطة انطلاقي ظاهرة مدهشة وذات مغزى : مظهر النظرية على خشبة المسرح بعد الدرامي المعاصر . 
 ولبعض الوقت الآن – على الأقل منذ تراجع الدراما كقيمة معيارية في المسرح – مُنح حق اللجوء الى المحاولات , لتقديم النصوص التي ليست ,في المقام الأول , خطابا مبنيا بشكل حواري لشخصيات خيالية على خشبة المسرح , بل هي بالأحرى ذات طبيعة غنائية أو سردية أو وثائقية . وهذا مفاجئ بالنظر الى الموقف العام الذي أشرت إليه توا , حتى في الخطاب النظري الخالص والبسيط . وأصبح للمسرح الآن الإمكانية لتحقيق الخطاب النظري مشهديا على خشبة المسرح , وأن يقتبس المقولات النظرية ويتأملها  أو يقرأها أو يصرخ بها أو يغنيها . وهذه الظاهرة جديدة بقدر ما يكون تقديم النظرية غير وسيط . ان الفلسفة والنظرية والفكر هم بشكل غير مباشر العنصر , بل انهم العنصر المهم والأساسي لما يعبر عنه في المسرح الجاد , وكانت هذه الحقيقة واضحة دائما , لدرجة أن مكتبات بكاملها مكرسة للأفكار الموجودة , مثلا , في مسرحيات سوفوكليس أو شكسبير , أو كلايست , أو بوشنر, أو ابسن . ولكن تقديم ماركس أو نيتشه بشكل مباشر يختلف , مثلا , عن كتابات بريخت لمسرحية “ جان دارك قديسة المسالخ “ أو كتابة ابسن لمسرحية “ عدو الشعب” . اذ تلعب نظريات ماركس ونيتشه دورا مهما في هذه النصوص , فتحليل ماركس للرأسمالية , وفلسفة نيتشه في حق الفرد الاستثنائي , مقتبسان مباشرة – ولكن تم دمج خطاب الفلسفة بدقة على التوالي في الدراماتورجيا الدرامية . ولكننا الآن نلاحظ الحضور المباشر للخطاب النظري , على سبيل المثال لا الحصر , فوكوه , أو بودريلارد , أو فانون , أو أرتو . ومن المثير للدهشة , أن تكيف النظرية مع المسرح ليس نادرا كما كان يبدو سابقا . وفقد جمع مسرح التفكير منذ بريخت , ومجموعة واسعة من المسرح الوثائقي , المسرح والنظرية معا . وفي بداية القرن العشرين , تابع ادوارد جوردون كريج , وهو أحد الشخصيات المؤسسة للمسرح الطليعي التاريخي , بكل جدية الخطة  ( التي لم تتحقق) لتقديم حوارات أفلاطون كعروض مسرحية في الهواء الطلق . ومنذ بضعة أعوام , ابتكر كريستوف نيل مشروعا عن كتاب سيجموند فرويد « النكت وعلاقتها باللاوعي « , وفي العرض الذي قدمه عام 1992 في مسرح am Turm  ظهر جون بريجر على خشبة المسرح بنصوصه النقدية . ويمكننا أن نجد النظرية المسرحية العامة كمسرح :  لقد عرض بيتر بروك أمسية كاملة في مسرح بوفيه دو نور “ من هناك Que est la ? “ و التي قدم فيها المؤدون نصوصا من نظرية التمثيل . ومسرحية «شراء النحاس Messingkauf” هي نظرية في المسرح معدة لخشبة المسرح . وبطرق مختلفة , أدى المسرح بعد الدرامي المعاصر إلى ظهور أشكال شفهية بدا فيها الخطاب النظري في شكل مغترب ومتناقض باعتباره خطاب الشخصيات . وتعمل نصوص رينيه بوليش إلى حد كبير بالطريقة التالية : تتحول النظرية الاجتماعية إلى مقولات تبدو ذاتية . وبهذه الطريقة تفقد النظرية سمتها الاستطرادية, والمسرح – الذي يجعل كل شيء مسرحيا كما قال بريخت – تجر المفاهيم المتباعدة والمتقطعة  , بشكل ملحوظ , إلى لعب الأصوات والكلام غير المضمون للذوات الجماعية التي تملأ خشبة مسرح بوليش . ويمكننا أيضا أن نشير الى المزيد من الأمثلة التي يجد فيها العلم والعلماء معتادين على المسرح بطريقة أو بأخرى : كتاب جان فرانسوا بيريه , وداروين , وكريستوف مارتلر “ذبابة الفاكهة The Fruit fly” أو مشروعات جان جوردوي عن موت علماء الطبيعة . وسوف يتذكر مشاهد المسرح الألماني أولا كل المظاهر المثيرة لاينار شاليف : يرتل نصوص كتاب نيتشه “هذا هو الإنسان Ecce Homo” , ويصرخ بها ويهمس بها ويستحضرها حرفيا – وهو نص فلسفي برغم كل شغفه الأيديولوجي وذاتيته . ويمكننا أن نتذكر حدس فوكوه بأن الفلسفة موجودة باعتبارها رواية (عند هيجل وسارتر ) وباعتبارها تأملات ( عند ديكارت وهيدجر ) , وأن الفلسفة بعد كتاب “ هكذا تكلم زرادشت “ عادت الفلسفة باعتبارها مسرحا . ليس باعتبارها انعكاسا على المسرح , أو باعتبارها مسرحا مليء بالمعاني , ولكن باعتبارها الفلسفة التي انتقلت الى خشبة المسرح بالأشخاص والعلامات : عرض حدث غير متكرر على خشبة المسرح . تطرح هذه الأسئلة وأسئلة أخرى كثيرة سؤال ماهية العلاقة بين المسرح والنظرية . ورغم ذلك , قبل أن أتابع الموضوع رجوعا إلى اللقاء المبكر بين المسرح والفلسفة في العصر القديم ( وهو اللقاء الذي شكل بعمق الفهم الغربي للمسرح وعلم الجمال عموما , ولاسيما التراجيديا ) , أريد أن أركز على مثال تعليمي واحد في العرض الذي قدم عام 2006 بعنوان “ كارل ماركس : رأس المال” لفرقة اريستر باند , تأليف هيلجارد هوج ودانييل ويتسل من ريميني بروتوكول . 
     مبدأ ريميني يشتهر بالمسرح مع متخصصين حقيقيين في الحياة اليومية العدية في مقابل متخصصين في أداء الأدوار . يشكل الناس العاديون القوة الدافعة , والوسيلة الأساسية , والجاذبية في أعمال فرقة ريميني بروتوكول . وقد حققت الجماعة منذ عدة سنوات بدائل لأداء التمثيل وعبء الدراما , وظهر مصطلح ما بعد الدراما غالبا على صفحتها الرئيسية . والآن , الكتاب هو الطابع الفخري ! ويا له من كتاب . فقد ولّد , أكثر من أي شيء آخر , حقائق يومية وشكلها , وخلق حقائق عالمية . والآن أصبح لعبة على مسرح ملون نسبيا مع جدار به رفوف وإضاءة حمراء وزرقاء وآلة قمار . وبالنسبة لكتاب “ رأس المال “ , وجدوا مرة أخرى أشخاص غريبي الأطوار – الناس الذين كان لأعمال ماركس أهمية خاصة في حياتهم . فهناك مثلا مهندس الاليكترونات رالف وارنهولز الذي أدمن القمار لسنوات , أو أولف مالوندر الذي شارك في تأليف السيرة الذاتية لمحتال ائتماني شهير , وجوشن نوت , الذي اعتاد أن يكون ناشط ماوي , وساشا فيرنيك وهو شاب مثالي من دوسلدورف يعترض أمام ماكدونالد ضد استغلال الأطفال في العمل؛ وتوماس كوكسينسكي , ابن يورجن كوكسينسكي , مؤلف المجلد الضخم في تاريخ الاقتصاد الذي درسه أغلب أبناء جيلي المهتمين سياسيا . وجاءت أعظم لحظات الأمسية من اللاتفي تاليفالدس مارجيفتش , الذي روى كيف كانت أمه , في فوضى ما بعد الحرب , في أشد درجات اليأس والبؤس , وسط شجار بين الناس في محطة قطار بولندية , وأنها ترددت للحظة إذا ما كان ينبغي لها بالفعل قبول عرض امرأة أخرى لمقايضته مقابل الطعام , مع احتمال انه يمكن أن يحصل على فرصة حياة أفضل . فهل يجب أن تعطي ابنها لسيدة أخرى في مقابل مساعدة مادية ؟ . “وبذلك كنت سلعة ذات يوم . وبالتوازي مع هذه القصة , تمت الإشارة الى مقاطع من كتاب «رأس المال»على خشبة المسرح . 
 وفي إحدى الأمسيات بينما كان الأكاديميون يعلقون على مشكلات في تحرير كتاب رأس المال بدقة فيلولوجية معذبة , أعطي كل فرد من الجمهور في القاعة نسخة من الجزء 23 من المجلد الأزرق من مجموعة الأعمال الكاملة لماركس وانجلز . وكان معنا جميعا نسخة من كتاب رأس المال , وقرأنا الجمل ( المميزة باللون الأحمر . ولكن في الحياة الفعلية – ونلاحظ أن ذلك لا يخلو من خيبة الأمل – فقد كانت الكتب مستعارة . وفي النهاية يجب أن نعيدها . وليست منحة . فنحن نعيش في المجتمع السلعي الذي يصفه كتاب رأس المال . 
....................................................................................
هانس تيز ليمان كان يعمل استاذا في جامعة Goethe Universitat Frankfurt am main . ومن أهم كتبه “ مسرح ما بعد الدراما “ 
نشرت هذه الدراسة في دي جرويتر  في العدد رقم 136 ( المجلد الأول ) في الصفحات 61-74 . 


ترجمة أحمد عبد الفتاح