الجمهور واكتمال الفعل المسرحي.. في مسرح الثقافة الجماهيرية

الجمهور واكتمال الفعل المسرحي..  في مسرح الثقافة الجماهيرية

العدد 844 صدر بتاريخ 30أكتوبر2023

تساؤل ضروري يفرض نفسه حول : هل المسرح الإقليمي هو مسرح المستقبل حقا؟ منذ عام 1956  في ظل النظام الناصري في مصر أي منذ اكثر من حوالي سبعة وستين عاما. وقبل أن نخوض في قضية هذا المسرح  العريض والمتسع  لأنه يضم كل الأنشطة المسرحية التي تنتشر في كل أنحاء مصر سواء في الجامعات أو مراكز الشباب أو فرق الهواة أو فرق هيئة قصور الثقافة  التي تمثل المنبع الرئيس لكل هذه الأنشطة والتي يزيد عدد فرقها علي المائة والعشرين فرقة موزعة ما بين القري والمراكز وعواصم محافظات مصر جميعا، من الغردقة وشمال وجنوب سيناء إلي الوادي الجديد،  من أسوان حتي أبعد من مرسي مطروح ..الإضافة إلي أكثر من هذا العدد لفرق نوادي المسرح  التي تنتشر أيضا في كل أنحاء مصر، وكذا الفرقة المركزية  التي تقدم عروضها في القاهرة والأقاليم، ورغم أن مقياس الكم ليس هو المعيار الحقيقي للنهضة المسرحية : إلا أننا - من خلال تجارب  السنوات السابقة - نستطيع أن نؤكد أنه من بين هذه الفرق العديدة والتابعة لهيئة قصور الثقافة وتتحمل مسئوليتها.. يتبقى لدينا حوالي ثلاثين في  المئة(30%) من العروض المتميزة،  وأفضل بكثير من عروض المحترفين في القاهرة.. رغم إنهم جميعا فرق من الهواة .
ونتساءل مرة أخري : هل يمكن لهذا المسرح أن يحافظ علي الاستمرارية والبقاء والتطور والنضوج في ظل ظروف معادية أبرزها: انتشار منهج مسرح القطاع الخاص أي المسرح التجاري، والغزو التليفزيوني  الكاسح بمسرحيات (الريبرتوار)  التي يملكها هذا الجهاز.. بالإضافة إلي مسلسلاته وسهراته ؟والتعتيم الإعلامي المُتعمد لبعده عن أجهزة الأعلام المؤثرة والتي تنظر إليه علي أنه مسرح من الدرجة الثانية،  وخلوه من النجوم المشاهير وذوي الحظوة وذوي المال ؟ ومن ناحية أخري فإن هذا المسرح يحاربه بعض من لهم علاقة به من إداريين،  فهو بالنسبة لبعض الموظفين فرصة للانتفاع والاستنفاع،  وللبعض الآخر هو مصدر إزعاج وصداع بسبب التجمع الكبير لا الذي يحدثه،  وهو تجمع يختلف عن ذلك التجمع الأخر الذي يتوجه إلي شباك التذاكر ويحجز تذكرته.. فمتفرج هذا المسرح يتفرج بالمجان،  وبعضهم متفرجين عابرين أقرب إلي متفرجي (مسرح الشارع)الذي يصبح علي فنانه أن يشد انتباه هذا المتفرج ويشركه معه في اللعبة المسرحية .. لأنه إذا لم يكن هناك عرض مشوق سينصرف ويولي منه الأدبار .. فهم لا يبيعون تذاكر دخول، ولا يملكون شباك تذاكر .. فهو مسرح يقام ويؤدي غالبا خارج المسارح التقليدية .. لذا يقع العبء كله علي ممثليه ..هؤلاء  الذين يستطيعون بمهاراتهم الاحتفاظ بهؤلاء المتفرجين شبه  العابرين وشد انتباههم.. إذ أنه من المؤكد أن هذا المتفرج الذي ليس لديه عادة الذهاب إلي المسرح،  ويميل للهروب من الفرجة،  ولن يكون بالتأكيد ذلك المتفرج  الذي جاء إلي المسرح واشتري تذكرة دخول إلي دار عرض مزودة بوسائل الراحة والرفاهية، ومعدة إعدادا متطور بالتقنيات الحديثة ... من هنا كان علي من يعملون في هذا المسرح أن يهتموا بالممثل وفن الممثل ورعايته،  واستنبات واستزراع كوادر جديدة من الممثلين،  وأن يحرصوا علي احتضان فناني هذا المسرح ليواصل المسيرة نحو المستقبل...
ونلاحظ أن غالبية مخرجي هذا المسرح من الشبان الهواة الطموحين وإن كانت تنقص بعضهم الثقافة والتمرس والخبرة . حيث يتم اعتمادهم وإعدادهم - عادة - كمخرجين علي أساس الحد الأدنى من الخبرة والمعرفة بتقنيات المسرح وتوظيف أدواته والإلمام بعناصره،  من هنا تظهر بعض نتاجات عروضهم غير مكتملة وغير ناضجة، وتبدوا أحيانا متعثرة ومضطربة .. نتيجة سوء اختيار النصوص أو عدم فهمها والإساءة إليها، أو الدخول إليها من منظور خاطئ ..كما يعاني هذا لمسرح - في كثير من الأحايين - نقص الإمكانيات المادية في الميزانيات الإنتاجية وضعفها ... إما بسبب سوء التصرف في بنود هذه الميزانية أو بسبب عدم توفر بنودها المالية التي تستطيع أن تلبي احتياجات العرض المادية من ديكور وموسيقي واستعراضات وأكسسوار، وأجهزة إضاءة وصوت،  فغالبية المواقع  التي تقدم فيها عروض هيئة قصور الثقافة تعاني من نقص حاد في أجهزة الإضاءة وأجهزة الصوت الجيدة أو حتي غير الجيدة، ورغم دعم الميزانيات إلا أنها لم تستطع أن تفي بمتطلبات العروض نظرا لتسرب بعض بنودها في أيد تتلاعب بها .. أو التعثر في صرفها بسبب تعقيدات مكاتب البيروقراطية القبيحة التي تعطل صرف أي بنود مالية بحجة الدقة والأمانة والحفاظ علي المال العام ... بالإضافة إلي عدم فهم هؤلاء البيروقراطيين لوظيفة المسرح، وعدم استيعابهم لمتطلبات هذا الفن وظروفه ...
ورغم كل هذا ففي تصوري أن المسرح سينجو من أمراض المسرح المحترف والمسرح التجاري ... فالفنان فيه متحرر من مساندة أي سلطة، وليس مطلوبا منه أن يكون متربعا علي كرسي البيروقراطية،  أو منتميا لمؤسسة، أو منضما لجماعة تربطها المصالح المشتركة ولعبة تبادل المنافع .. كما لا تحاصره بشكل حاد ممنوعات الرفض أو الأبواب المغلقة ودهاليز المسارح التقليدية، ومؤامرات المرتزقة، وتواطأت الباحثين عن الصفقات، ولا تؤثر فيه حجج المنع والرقابة ولا يتسلط عليه مخرجون او ممثلون نجوم أو أصحاب فرق أو مديرو مسارح .. فهو ليس مضطرا لأن يكون من حاشية السلاطين مديري المسارح أو رؤساء الهيئات الذين يتباكون ليل نهار علي أزمة النص المسرحي مثلا أو عدم قدرتهم علي تجميع فريق ممثلين من النجوم ليقدم عرضا من العروض تتوفر فيه الشروط التجارية لجذب الجمهور، وحرصهم علي الأسماء اللامعة في (الأفيش) كمطلب أساسي وضروري لا يمكن تقديم  العرض المسرحي إلا به،  والجميع هنا في هذا المسرح الإقليمي متساوون ... الكاتب والمخرج والممثل ومصمم الديكور والإضاءة والفنيون .. كل يحسب حسابه، وله دوره الفعال في العرض، وليس كممثل (المسرح الآخر) الذي يصبح - مثلا - دور الكاتب فيه هزيلا إلي جوار النجم الممثل أو  المخرج الذي يعد بعضهم التأليف جزءا من عمله، وأن المؤلف يعد عاله علي العرض ... فالمؤلف هنا ليس مضطرا لأن يصبح (ترزيا) يفصل الأدوار علي مقاس النجوم، وليس مهما الموضوع والبناء الدرامي وما إلي ذلك من العناصر الدرامية التي لا تعني الكثير في مسرح القطاع الخاص .. ففي هذا المسرح الأبواب مفتوحة أمام الفنانين الشبان، وليس موقوفا علي ذوي المناصب والواصلين والمسنودين من أصحاب المصالح ومن السير في ركابهم ... وصانعوا هذا المسرح ليسوا مضطرين لعقد الصفقات أو إقامة السهرات أو تبادل المنافع،  وليسوا مضطرين للتعامل مع مخرجين لا يريدون كاتبا يقاسمهم الأضواء ومقالات المديح والإطراء،  أو مخرجين لديهم (عقدة الخواجة)، وعقدة البحث عن نص أجنبي أو موضوع أجنبي لاقتباسه وتجاهل اسم مؤلفه الأصلي، أو مخرج يبحث عن مؤلف راحل قرر أن يقيم له (مولد) ليصبح هو خليفة هذا المولد (وحده) وقد توهم أنه يمتلك الساحة وطرد الجميع وعلي رأسهم الكاتب الراحل صاحب الضريح .. كما أن صانعي هذا المسرح متحررون تماما من حصار النجاح التجاري الرخيص بكل مقاييسه ومعاييره، وبكل أدواته وأساليبه، وليسوا مضطرين للتعامل مع مخرج أو مدير مسرح يضرب عرض الحائط بلجان القراءة , يتجاهل الرقابة، ويُخضع كل شيء لأهوائه الخاصة كهواية التأليف للمؤلفين، أو اللهو والارتجال النرجسي لدي بعض الممثلين النجوم الذين يؤلفون لأنفسهم أدوارهم الخاصة،  أو يؤجرون آخرين ليعملوا ذلك .فيصبح هؤلاء من رجال المسرح - بالصدفة - أو بوضع اليد أو يحكم وظائفهم .. وهؤلاء يطلق عليهم مسرحيون، وهم من جميع الألوان ويسير خلفهم بعض المسرحين الشباب الذين يتشربون منهم سلوكياتهم وأساليبهم في الوصولية والتأمر حيث  يكتشفون الحياة المسرحية.. هذه الحياة المسرحية التي لا تنمو ولا تتطور دون فنانين جادين وموهوبين تتضافر جهودهم لإقامة حركة مسرحية حقيقية كفريق عمل جماعي ... يفكرون معا،  ويتخيلون معا، ويكمل بعضهم الآخر...وهم في المسرح الإقليمي فنانون متحررون من النقاد المأجورين لأن هؤلاء النقاد يتجاهلونهم أصلا والحمد لله .. لذا فهم متحررون من سطوة أصحاب الصفحات والأبواب الثابتة في الصحف والمجلات، وهم بعيدون عن أباطرة الهيمنة الإعلامية وسيطرتها ... فهم ليسوا مضطرين لخطب ودهم وكسب رضاهم . لأنه يعلم أن هؤلاء يستطيعون أن يصنعوا من الأكاذيب نجوما،  ومن الجهلاء - مثلهم - فلاسفة وعباقرة،  ومن عديمي الموهبة نوابغ وشوامخ وجهابذة .. إما بدافع الجهل أو التأمر وسوء النية أو التواطؤ .. حيث يمجدون كل رخيص،  ويشيدون بكل تافه....
وفنانو مسرح الأقاليم متحررون من أمراض بعض النقاد الذين لا يحبون الكتابة إلا عن المشاهير اللامعين علهم يكتسبون بعض بريقهم وشهرتهم لأنفسهم، وهم أيضا متحررون من الجمهور الذي جاء ليدفع ثمن التسلية التي يبحث عنها، ومن الجمهور الغائب الوعي  الباحث عن الضحكة الرخيصة أو المتصيد لإيحاء مبتذل، ومن  البحث عن الأعمال المسرحية السطحية والتافهة، ومطالبون في نفس الوقت بأن يبحثوا عن كل ما هو جاد،  وممتع للعقل والقلب، ويدعوا للجدل والتأمل ... فالفنان المسرحي هنا ليس مطالبا ًبأن يقدم الأسهل والعادي والتقليدي والمأمون العواقب، والذي يدعوا إلي الاسترخاء والتسلية والترفيه فقط والذي قد يرضي بعض الأذواق السقيمة . فهم ليسوا مضطرين لمخاطبة غرائز الجمهور أو استرضاءه أو مغازلة رغباته الدنيا، أو التعامل مع جمهور لا يدرك الفرق بين المسرح والكبارية،  وبين الغث والثمين...
إذن ففنانو المسرح الإقليمي وعلي رأسهم فنانو فرق هيئة قصور الثقافة ليسوا مضطرين للتعامل مع مسئولين يجمعون حولهم شلل المنتفعين من أبناء مهنة الصحافة والأعلام،  وغيرها من ذوي السلطات البيروقراطية والفساد والتفنن في إهدار  المال العام .. ممن لا يرون ولا يسمعون ولكن - دائما يتكلمون،  ودائما يكذبون، ويمنحون الجمهور أرقاما وأوهاما،  ويتفننون في المراوغة والخداع والتمثيل البارع في كل مكان - ماعدا خشبة المسرح - رغم أن خشباتهم عديدة ومديدة، وضائعة أيضا ومبددة.. ورغم أن أصغر موقع يملكه هذا البيت المسرحي المنكوب أو ذاك يساوي الملايين والملايين ..لكن هؤلاء يمسخون هذه المواقع ويحولونها إلي أماكن مهجورة ومعتمة أو مقابر لدفن العروض، وتكون مرتعا للشجار والصراع من أجل عظمة . وفنانو المسرح في قصور الثقافة ليسوا مضطرين للتعامل مع مسئولين يقدمون العروض لأغراض شخصية .. ليس من بينها سبب فني واحد،  ولأغراض نفعية بحته تدخل فيها كل أنواع المساومة والشللية (والبرتيته) والتعاملات المربية في جلسات الشراب والكيف وأحيانا القوادة المقنعة، والتسهيلات وحمل الحقائب، ودهاليز أخري ومنحنيات والتواءات وثالثة الإثافي - أن تقدم العروض بسبب الغباء والحماقة وإعجاب كل ذي هوي بهواه في زمن الهرج والابتذال والسقوط والبراعة في تبريز الزيف والغش، وسيدة (الحداقة والفهلوة) وتوهم كل منهم أنه أتي بما لم يأت به الأوائل، ورضاه وسعادته الغامرة بكل ما يقدمه من غثاء وضحالة وقبح أو ذلك الذي يقدم كل الذي ما يأمرونه به أن يقدم للناس، أو زين له هواه أن يحتضنه ويتحفنا به .. المسرح الإقليمي إذن هو مسرح المستقبل لأنه بعيد عن ذلك البناء الفاسد المنهار  الذي ينخر فيه السوس .. ورغم كل ذلك .. لا يعيش فنانو المسرح الإقليمي في يوتوبيا منعزلة عن الواقع وعن واقع حركتنا المسرحية المتداعية،  ولا يستطيعون اكتساب المناعة ضد هذه الأمراض والأوبئة والتي تحيط بهم من كل جانب.. فهم يعانون بالتأكيد،  وأبسط أنواع المعاناة أنهم لا يستطيعون أن يصلوا إلي أكبر عدد من جماهير الشعب بسبب المال والعمل والإدارة وهو مضطرون أحيانا إلي اللجوء إلي عنصر الفرجة بما تتضمنه من غناء ورقصات حتي ولو كان الأمر لا يحتاج إلي ذلك لتغطيه عجز التمثيل الفردي .. مما يجعلهم يختارون النصوص التي تتيح لهم توظيف أدوات الفرجة.. فتكون دائرة أختيارهم ضيقة حيث تستهويهم  نصوص الكبارية الخفيفة والسطحية أحيانا ونصوص التاريخ والتراث الشعبي  التي تضم أكبر عدد ممكن من الشخصيات حتي تستوعب أعضاء الفرقة جميعها علي حساب الدراما والفكر .
كما أن هذه الفرق مهددة دائما بعدم الاستقرار وعدم الثبات ونشاطها موسمي،  وأحيانا تتحول إلي مجرد مولد يقام ثم ينفض .. إذ أن الهواة سرعان ما ينصرفون عن لعبة المسرح عندما لا يجدون من يحتضنهم خاصة العنصر النسائي .. وهو  العملة النادرة في هذا المسرح نتيجة التطرف وضيق الأفق والمجتمعات المغلقة وعدم الوعي بأهمية رسالة المسرح ... ناهيك عن قلة الاعتمادات وانخفاض المستوي التقني وضعف مستوي الممثلين وندرة الجيد منهم، وهذا النوع يختار بشكل ذكى نصوصا تخضع لمتطلباتهم وتتوافق مع طبيعة التكوين البسيط لهذه الفرق .. غير منتبهين إلي أن  المسرح هو المسرح .. سواءاً في العاصمة أو في  القري والنجوع وأن ليس لهم أن يشكوا من أن هناك أزمة نصوص - كما يدعي بعض رجال المسرح غير الإقليمي - أو أي أزمات من نوع آخر إذا تكاتفت جهودهم وتضافرت، وفكروا معا في كافة مفردات العرض .. وحيث يولد علي أيديهم جميعاً .. منطلقاً من وجداناتهم .. باذلين له الجهد والعرق والأعصاب، وفوق كل ذلك الحب والتعاون والتفاهم المتبادل وحسن النية والإخلاص، وأساسا عشق المسرح .. للوصول إلي العرض الذين يصبون إليه .. من هنا فإن المسئولية خطيرة والعبء ثقيل علي من يتصدي للعمل في مسرح فرق هيئة قصور الثقافة كي ينجو بمركبه في هذا البحر المتلاطم الأمواج .. ولهذا أتصور أن المسرح الإقليمي هو مسرح المستقبل حقا وصدقا.. 

لكن كيف تأتي نهضة هذا المسرح ؟
يصاب الباحث في موضوع (الجمهور في المسرح الاقليمي) بالحيرة والدهشة وعدم الفهم - حين يصطدم - مرة - باكتظاظ العرض - سواء كان مسرحا أو ساحة أو فضاءا واسعا - بالجمهور العابر من سكان الموقع، وأن نسبة كبيرة من  الجمهور من الأطفال والصبية الذين يصحبون أهاليهم،  وأن هؤلاء الصبية والأطفال يلتزمون (الصمت) إلي حد ما - أحيانا - أثناء مشاهدة العروض -  التي بدا أن أغلبهم لا يتذوقها - فبعضها بالفصحي أو من الأدب العالمي،  والبعض الأخر لون محلي خالص،  وتتناول قضايا أصعب وأعقد من أن تتذوقها هذه المراحل العمرية .. بالإضافة إلي الكبار من سكان المنطقة من ذوي الثقافة المتواضعة أو المتدنية - بل بعضهم يبقي في مقاعده ليحضر الندوة التي تقام بعد كل عرض،  وقد يرجع ذلك إلي أن (السهرة)التي دخلوا من أجلها لمشاهدة هذا العرض المجاني - لم تستوف حقها بعد،  وقد يرجع - بنسبة ضئيلة جدا- إلي اهتمام حقيقي !!، وقد لوحظ - أيضا - ظاهرة أخري هي : إصرار المتفرجين العابرين علي الدخول - رغم عدم جودة المكان - حتي للوقوف،  وفي أي وقت أثناء تقديم العرض .. وكانه عرض من عروض (مسرح الشارع)،  وعندما يدخلون سرعان ما يخرجون في كثير من الأحيان  وهكذا!! ونتساءل : هل هذا هو التلقي ,، وهل يمكن أن نسمي هؤلاء متفرجين أو (جمهور)؟؟ يفسر البعض أن هؤلاء المتفرجين المفترضين - قد جاءوا إلي مكان به مقاعد في الهواء الطلق أو في مكان مغلق - للترفيه عن أنفسهم بدلا من التجمع في حديقة أو في مقهي أو علي إحدي النواصي - لذا فهم يتابعون العرض من باب تضييع الوقت،  والتلهي بشيء جيد لا يحدث كل يوم، والتسلي بأضواء ملونة، وربما لسماع بعض الموسيقي والغناء لممارسة إيقاعات (التصفيق)التي يعشقها الجمهور اللاهي،  ولا يهم أن يكون فاهما .. فهل هذا هو (الجمهور)؟ أما في المهرجانات فالجمهور قد يكون أكثر جلبة وفي حالة خروج ودخول مستمرة، وأذكر أن لجنة المتابعة - أثناء مشاهدة عرض مسرحي في مدينة (ببا) التابعة لبني سويف لم تستطع أن تتابع أو تسمع كلمة من عرض فرقة هذه المدينة  الصغيرة بسبب ضجيج وضوضاء جمهور الحاضرين  الذين اكتظت بهم دار العرض  السينمائي المغلقة التي يقام بها العرض،  وتكرر ذلك في بعض المواقع الأخري - فكيف إذن نقيم علاقة سوية بين الجمهور والمسرح الإقليمي ؟ لأنك في النهاية تكتشف أن هذا الزحام – لا أحد !! هناك شكل أخر من(الجمهور) نجده في عروض يتم استحضار جمهورها خصيصا من أهل وأقارب وأصدقاء الممثلين والعاملين في هذه العروض - ويتم التصفيق والحماس و(الصغير) المشجع - عمال علي بطال- بسبب وبدون بسبب،  ولأتفه حركة،  كان الجمهور قد جاء ليشارك في حفلة خطوبة وحفل زفاف (لتحية العرسان) ... 
لذا- علينا - بادئ ذي بدء - ان نحدد نوعية هذا الجمهور .. عندها سنجد أنه جمهور عابر - ليس لديه عادة التردد علي المسرح .. يدخل المسرح مجانا - فيه نسبة كبيرة من الصبية والأطفال (والرضع!) بعضه متشيع ومتعصب لفرقته حتي لو قدمت  شيئا سخيفا ورديئا ... والبعض الآخر جاء مجاملا، أو انتصارا للعشيرة والأهل والأقارب - أو الانتماء للموقع.. إذن - فالعلاقة بين الجمهور والمسرح الإقليمي علاقة مركبة فالهواة يعانون من عدم إقبال الجمهور لعدة أسباب ... ربما كان أبرزها أنه مسرح بلا نجوم ...وجمهور هذا العصر يقدسون الأله المعبود  الجديد .. النجم،  وكثير منهم يعاني من عقدة الاضطهاد ويشعرون أنهم أكثر موهبة وقدرات من نجوم القاهرة - لكنهم لا ينالون حقهم من الانتشار والشهرة،  ولا يعترفون بأن كثيرين منهم لا يجيدون صنع فن المسرح،  ويتحججون بسبب ضعف الإمكانيات التقنية والبشرية أو عدم وجودها - ولولا ذلك لأقبل الجمهور علي مسرحهم - الذي يشكو عادة من قلة الجمهور . ونلاحظ أن جل اهتمامهم منصب علي وسائل جذب هذا الجمهور النافر الذي يشيح بوجهه عن سلعه تقدم له بالمجان .. 
أذكر تجربة هامة قدمتها فرقة السامر المسرحية بهيئة قصور الثقافة وهي أبرز فرق هذه الهيئة - في رمضان عام 1989 - توفرت لها كل عناصر النجاح الجماهيري -فقد قام ببطولتها النجم (عبد الرحمن أبو زهرة) والنجم (رشدي المهدي) نجما المسرح القومي، وممثلة مسرح الطليعة الجادة والمتميزة (ولاء فريد)،  وممثل المسرح الحديث المتألق في كل أدواره الصغيرة الراحل (سمير وحيد) - إلي جانب نجوم فرقة السامر وعلي رأسهم المحترف (فؤاد فرغلي) (وهي تجربة مسرحية (السندباد) أو “سهرة ضاحكة لقتل السندباد الحمال“ وهو نص لشاعر مرموق هو (سمير عبد الباقي)، والنص حائز علي جائزة علي مستوي الدول  العربية،  ومن إخراج (محمد سمير حسني) المشهود له بالتميز وصاحب الرصيد الكبير من العروض الممتازة،  وقد قدم العرض علي مسرح كبير هو مسرح محمد فريد في وسط مدينة  القاهرة - ورغم كل هذا لم يحظ العرض بإقبال الجماهير!! رغم أن  العرض كان بالمجان، ورغم ذلك فلم يحضر إلي الصالة سوي عدد قليل من العابرين في شارع عماد الدين أو من المتسكعين في شوارع وسط  المدينة، ولقي نفس مصير عروض الثقافة الجماهيرية وفرق الهواة الحرة والمستقلة - من تعتيم وإنزاء في الظل .. تري ما الذي يعرض مثل هذا العرض الذي أتيحت له كل إمكانيات النجاح الجماهيري لهذا المصير المحزن؟ فموسيقاه للراحل (عدلي فخري)والديكور للراحل (أشرف نعيم) والاستعراضات (لمجدي الزقازيقي) وكلها أسماء كبيرة في مجالاتها . ونتساءل : هل العيب في الجمهور ؟ ذلك الجمهور المنصرف عن المسرح - أو اللاهث وراء احتياجات الحياة اليومية، والذي يرتمي في نهاية النهار أمام ذلك الديناصور الهائل الذي سلب المسرح والسينما والكتاب والموسيقي والطرب،  وعادات التأمل، والقراءة - كل إمكانياتهم وكل فعالياتهم، وأفقدهم وظيفتهم الجمالية الراقية، وبلع في أحشاءه كل قيمة ومعني لهم،  واستولي علي كل وظائفهم، وتركهم دون تأثير وبلا حول ولا قوة .. ألا وهو (التليفزيون) ذلك الديناصور - الذي يجعل من مباراة كرة قدم احتفالية شعبية جماهيرية أهم بكثير جدا من أعظم المسرحيات وأعظم أشكال الفنون الرفيعة المستوي - ولربما كان هناك احتمال أخر وهو أن هذا المتفرج أصبح غير قادر علي أن يكون مستهلكا لأية سلعة ثقافية أو فنية - حتي ولو كانت الأراجوز!- وذلك لعدم قدرته الشرائية وعجزه أمام أسعار شباك التذاكر حتي في مسارح القطاع العام !
ونعود إلي جمهور – المسرح الإقليمي - ذلك الجمهور الذي تقدم إليه السلعة المسرحية الثقافية بالمجان ودون أي مقابل .. أم أن المسألة أصبحت مسألة تهيؤ واستعداد ومزاج - لا تتوفر لدي هذا الجمهور للإقبال علي المسرح - حتي ولو كان بالمجان ودون مقابل ؟ فمسرح الهواة هو المكان الذي يقدم مثل هذه السلعة الثقافية - التي صارت السلعة الوحيدة التي لا تثقل كاهل المواطن المصري المطحون بغلاء الأسعار وصعوبة المعيشة في عصرنا الاستهلاكي بحثاً عن الرغيف الذي أصبح الحصول عليه أمرا عسيرا ومريرا - وها هي - سلعة متوفرة - ليست رخيصة أو مدعومة فقط - بل بالمجان ودون مقابل !.. ورغم هذا لا يقبل عليها، ويتابعها - عابرا - أو لمجرد تزحية الفراغ !!تري هل لأنه يشك في جدواها ؟ أو ربما لأنه ليس في حاجة إلي مثل هذا النوع من السلع الثقافية ؟ أو ربما لأن التليفزيون يقدم له - يوميا وفي كل ساعة - سلعة النجوم المنتشرين - فأدمن علي هذه السلعة،  أو ربما لأن هذا المسرح ليس له بريق التليفزيون ولا قوة تاثيره السلطوي المستبد ؟ أو ربما لأن هذا المسرح أي مسرح الهواة - في بعض الأحيان - بدعوي التجريب والحداثة وما بعد الحداثة – يطرح قضايا غير قضايا هذا الجمهور،  أو يقدم قضاياه بمعالجة رديئة، أو بطريقة لا يفهمها، أو بأسلوب غير جذاب، أو ربما يتصور أنها سلعة رديئة مزيفة - و ربما - أو ربما ؟ وتتعدد الأسباب .. ويظل السؤال : أين جمهور المسرح الإقليمي ؟ ولماذا يغيب الجمهور عن هذا المرح ؟ وأين (الضلع الثالث) – الجمهور - للعرض المسرحي والذي لا يكتمل أي عرض مسرحي بدونه ؟! وتتوالي التساؤلات : هل لو كان هناك شباك تذاكر للمسرح الإقليمي - لكان قد شعر  الجمهور بأهمية العرض وأقبل عليه ؟ فلربما كان قد أدي ذلك إلي عدم دخول تلك  النوعية العابرة من الجمهور،  ودخلت مكانها نوعية أخري (ملتزمة) غير هؤلاء العابرين ممن لديهم - ولو بعض الاهتمام بفن المسرح.. ربما !؟ وأخيرا - ربما كان العيب في ذلك العرض المسرحي الجيد  الذي سبق أن أشرت إليه “ السندباد” 1989 قد يكون بسبب الناحية الفنية - من ناحية النص والإخراج والتمثيل وعناصر  الديكور والموسيقي والاستعراضات .. والنتيجة في النهاية هي : غياب الضلع الثالث في مثلث اكتمال العملية المسرحية - أي الجمهور- فيوأد العرض المسرحي في مهده !! إننا في حاجة إلي إعادة النظر في المسرح الإقليمي - فهذا المسرح يجب أن يؤخذ بجدية من الجمهور،  ومن المسئولين عنه ومن العاملين فيه بشكل أساسي .. فلا يقدم إيه تنازلات من أي نوع - وحتي لا يصبح - كما يصورونه الأن - مسرحا من الدرجة الثالثة - أو أية درجة يتصورونها، وأن يدرك هؤلاء أن مسرحهم لا يجب أن يقدم إلا بشرط  قيام مسرح حقيقي - فيكون له جمهور - كما في أي بلد في الدنيا، وهي شروط لا أظنها تغيب عن أذهان رجال المسرح الإقليمي الواعين،  وأبرزها : مكان العرض الذي نتوفر فيه إمكانيات قيام العرض والتدريبات والتجهيزات،  وخلق المناخ الملائم لنمو ما يسمي بالعادة المسرحية أي عادة الذهاب إلي  المسرح، واحترام تقاليده، وإبرام تعاقد مبدئي بين المسرح والجمهور يتجسد في شكل تذكرة دخول بأسعار شعبية... ليخلق جمهورا في الصالة - مسئولا - جاء خصيصا ليتذوق ويستمتع بالمسرح - وقبل كل شيء : فهم ووعي كافة الأجهزة الشعبية  التي تمثل قطاعات هذا الشعب وكذا أجهزة المؤسسات الرسمية - لوظيفة هذا المسرح وأهميته،  وذلك عن طريق المعاهد والورش والمعامل المسرحية  التي تعمل علي توفير الكفاءات ذات المستوي العلمي والفني الرفيع لمن يعملون في هذا المسرح،  وتنمية وتطوير إمكانيات وقدرات الشباب الذين يمثلون أغلبية الهواة - والكشف عن مواهبهم الكامنة  الباحثة عن فرصة للانطلاق كي يصبح المسرح شيئاً ضرورياً في حياة هذا الجمهور ..   


عبد الغنى داوود