فينومينولوجيا المكان المسرحي (2)

فينومينولوجيا المكان المسرحي (2)

العدد 843 صدر بتاريخ 23أكتوبر2023

تصنيفات الفضاء المسرحي: 
 بدلا من صنع الأرضيات كما اقترحت كيرسماكر، استمر المسرح بالطبع في خلق وتمثيل كل الفراغات بطريقة متنوعة. إن مشروع الدراسة المسرحية توثيق وتصنيف وتنظير كل أنواع إنتاج هذا الفضاء المسرحي واقتراح تصنيفات لمختلف مساحات الأداء . 
 وتبدأ جاي ماكولي دراستها الشاملة حول المسرح ومساحة الأداء، والتي تحمل عنوان «الفضاء في الأداء» Space in Performance، بتقديم تصنيفها للفضاء المسرحي، المزود بمراجعة مفصلة ومدروسة لكل التصنيفات الأخرى الموجودة . وتستهل ذلك بتقديم قائمة بالفراغات التي يجب تغطيتها – لاشك لكي تعطي معنى لعددها الكبير وتنوعها عموما : 
 الأماكن المادية في الأداء كما توجد في الفضاء الاجتماعـي الأوسـع، ومساحـة التفاعـل بين المؤديـن والمتفرجيـن، والمساحة النشطة لخشبة المسرح عندما يتم شغلها وتمنح المغزى بحضور المؤدين، وتنظيم خشبة المسرح وخارجها والأماكن الخيالية التي يتم تمثيلها أو استدعائها داخل أوفي علاقة مع هذه المناطق المادية، والتفاعل معها جميعا، وفضاء الإشارة اللفظية . 
 وبتجميع وتقويم الثروة الأدبية التي تتعامل مع الفضاء المسرحي، تميز ماكولي نقصا مؤثرا في المصطلحات المقبولة لوصف الطرق التي توظف بها . وتذهب إلى أبعد من ذلك لكي تسمي هذه المنطقة في علم المسرح “حقل الألغام الاصطلاحي”، لاسيما بالمقارنة مع مجال البحث الموحد المرتبط بمفهوم الشخصية الدرامية . بينما هناك فهم واضح للعلاقة بين الممثل والشخصية (بمساعدة هذين المصطلحين)، فلا توجد كلمتان مساويتين للدلالة على العلاقة بين مساحة خشبة المسرح الفعلية والمساحة الخيالية، ولا توجد مصطلحات راسخة للفراغات التي ليست جزءا من خشبة المسرح نفسها ولكنها جزء من عالم المسرحية . ولأغراض هذه الأطروحة من المهم أن أضع نفسي في حقل الألغام هذا وأنشئ استخداما متوافقا للمصطلح. وسوف يستمر إطار ماكولي المقنع في تكوين إطار في هذا الصدد . 
 لقد حددت ماكولي خمسة تصنيفات للوظيفة المكانية: “الواقع الاجتماعي the social reality”، “العلاقة المادية/الخيالية the Physical/fictional relationship”، “الموقع والخيال location and fiction“، “الفراغ النصي textual space“، “مساحة فكرية thematic space“. وتدخل التصنيفات الثلاثة الأخيرة في تصنيف أعم للمساحة الخيالية fictional space، وبالتالي سوف نعالجها كتصنيف واحد هنا. ويسمح لنا مزجهم بهذه الطريقة أن نقول انه بينما يشمل التصنيف الأول المساحات المادية (أي مباني المسارح أو مساحات الأداء الأخرى، بما في ذلك المساحات المتعلقة أمام دار المسرح والمناطق خلف خشبة المسرح للمؤدين والمشاهدين) والمساحات الثالثة غير المادية والخيالية والمتخيلة، والتصنيف الثاني هو التصنيف المعقد المساحات المعدة للعروض المسرحية حيث يلتقي الاثنان، وحيث تظهر المساحة الخيالية نفسها في سينوجرافيا موجودة ماديا، وحيث يتم ابتكار المساحات الملموسة ظاهراتيا بواسطة وسائل غير مادية مثل الحركة، أو الصوت أو الرمزية. ويلي ذلك أن هذه هو مجال البحث الذي سيلقى أكبر اهتمام، وينشأ عن أكبر اضطراب في المصطلحات. 
 وفي تصنيفها، تسعى ماكولي إلى تنظير العلاقة المتشابكة بين الفراغ المادي والخيالي باقتراح مصطلحين: “فراغ خشبة المسرح stage space”، و”فراغ التقديم presentational space“. اذ يشير فراغ خشبة المسرح إلى الفراغ المادي لخشبة المسرح كبيئة محايدة عاملة، بينما يصف فراغ التقديم نفس الفراغ كما يوظف في الأداء. عندما تحوله عناصر السينوغرافيا والممثلين إلى فراغ أكثر اتساعا، أي “فراغ آخر“. وبهذا يكون قابلا للمقارنة مع ما يسميه باتريس بافيس “الفراغ الإيمائي gestural space“(22)، لأنه يسمح لحقيقة أن يتأثر التحول المكاني إلى مكان آخر بشكل بسيط من خلال مثلا تظاهر الممل بأنه وقع في عاصفة فضلا عن استخدام مؤثرات خشبة المسرح بشكل مادي. ومصطلح مثل “الفراغ السينوغرافي scenographic space“ (الذي استخدمته آن أوبرسفيلد), لا يأخذ هذا الاحتمال في اعتباره. 
 ومن أجل توضيح اللغز الذي يأمل هؤلاء العلماء في حله بمصطلحات مثل الفراغ الإيمائي وفراغ التقديم، أريد أن أقدم مثالا من ممارسة الأداء: يصف جاك ليكوك في كتابه “الجسم المتحرك The Moving Body“ تمرينا قُدم للممثلين في التدريب في المدرسة، يتطلب منهم أن يؤدوا مشهدا يحدث في مساحة واسعة مثل الغابة باستخدام مساحة مقيدة جدا لا تزيد عن مترين مربعين : “ شخصان مفقودان في غابة واسعة، والبحث بلا فائدة بالنسبة لكل منهما، ثم يلتقيان في النهاية . يمكنهما ماديا أن ينفصلا لمسافة خمسين سنتيمتر، بينما المسافة دراميا هي مئات الأمتار، ويمكن أن ينادي كل منهما الآخر في الوادي، أو من قمم الجبال بينما يقفان طوال الوقت خلف ظهر كل منهما الآخر. والغابة في هذا المثال هي المساحة الخيالية أو الدرامية المستحضرة، ومساحة المتران المعطاة للممثلين لكي يؤدوا فيها هي فراغ خشبة المسرح، والمساحة المبتكرة من خلال أصواتهما التي تنادي على كل منهما الآخر، وربما ابتكار الصوت أو مؤثرات صداه، هي فراغ التقديم أو الفراغ الإيمائي الذي يربط الخيال الدرامي والواقع المادي معا . 
 ويمكن استخدام نفس المثال لإظهار بعض المسائل التي عالجتها ماكولي في تلك الأجزاء من تصنيفها المرتبط بشكل محض بالفراغ الخيالي أو الدرامي أو السردي . فتكتب قائلة: “مفهوم المكان الخيالي مفهوم مركب جدا وأساسي لكل من الدراما والمسرح، وتنوع توظيفه بشكل ثري جدا عبر القرون، لدرجة الاحتياج إلى تصنيفات فرعية لتفسيره حتى يمكن رؤيته باعتباره ينشئ المنطقة الرئيسية الثالثة في التصنيف. وترجع الصعوبة جزئيا إلى حقيقة أن أي موقف درامي يعتمد بشكل طبيعي على نسق الفراغات غير الممثلة non-represented spaces، ويعتمد أيضا على الإطار الزمني المكاني للفراغات السابقة والقادمة. فربما يتضمن المشهد في الغابة، مثلا، محادثة بين الشخصيتين بمجرد أن يجد كل منهما الآخر، يوضحا فيه بالتفصيل أين كانا ويصفا الأماكن التي اكتشفاها . وبالتالي تصبح هذه الأماكن جزءا من العالم المسرحي، ويشار إليها بشكل مختلف باعتبارها “ فراغ خيالي خارج خشبة المسرح offstage fictional space”، أو” فراغ نمطي مستحضر من خلال السرد diegetic space”، أو “ فراغ متصور conceived space”، أو “فراغ درامي بدون فعل dramatic space without“(28) . وربما أكثر الدراسات شمولا للفراغات خارج خشبة المسرح هذه هي دراسة ويليام جروبر المطولة لاستكشاف المساحات خارج خشبة المسرح، وخطابات الرسل، والعنف والجنس خارج خشبة المسرح . ويجادل بأنه ينظر إلى الفراغ النمطي المستحضر من خلال السرد باعتباره رؤية ذهنية لترتيب مختلف إلى حد ما وأكثر تعقيدا . وفي نفس الوقت يمكن أن نجادل، في مقابل جروبر, بأن هذا النوع من الرؤية الذهنية لا تختلف عما نراه عندما نقرأ رواية مثلا، وأن الفراغ الخيالي بشكل نقي ليس شكلا جوهريا للتمثيل المسرحي بل انه الأحرى منطقة تداخل بين المسرح وأنواع صناعة الخيال الأخرى، ومن ضمنها الشعر والسينما. فمثلا يقول كريستوفر بالم أن الفراغ الدرامي ليس مجال بحث مقصور على دراسات المسرح، وأنه ينتمي أيضا إلى مجال النقد النصي” . ورغم ذلك، لأن أغراض هذه التصنيفات هي توفير مجموعة من الأدوات لتحليل الأداء، فيجب أن يكون الفراغ الخيالي متضمنا بالضرورة من أجل الكمال . 

التحليل السيميوطيقي والفينومينولوجي 
 يمكن وصف الدافع الذي أدى إلى التصنيفات التالية للفضاء المسرحي بأنه رغبة في القدرة على أن أقول بالتحديد ماذا يعني النوع الخاص للفراغ، وأصلح أي معنى من خلال تخصيص العلامات المكانية وترجمتها إلى مدلولاتها بطريقة مؤشراتية . وبالتالي فإنها مدعومة بتوقع أن المسرح، أو بتحديد أكثر فضاء المسرح، يمكن تفسيره بشكل دلالي ( سيميوطيقي) . بينما تعالج هذه التصنيفات إذن أسئلة المعنى (أو بدقة أكثر : تقدم اطار عمل مفصل لتحليل معنى شيء ما بطريقة منهجية )، ولا تقدم إجابات للأسئلة المهمة عن مدى قدرتنا على صنع وفهم مثل هذه المعاني المكانية في المقام الأول . بمعنى آخر، إنها لا تعالج سؤال الإدراك . 
 ومنهج التحليل المسرحي الذي يركز بشكل تقليدي على العمليات الإدراكية هو الفينومينولوجيا . إنها تسعى إلى التقاط الانطباعات قبل أن تتشكل تماما وتنعكس على الأفكار، أي قبل أن يحدث فعل التفسير . ويمكن وصف مثل هذه الانطباعات في المقام الأول بأنها طفرات إدراك غير محددة – وعيا مبدئيا بشيء ما – قبل أن يتم التعرف عليه أو يتم حفظه كحقيقة ادراكية معلومة، أو يتم استكشافه باعتباره مجهولا . وأثناء التقاط ووصف ( اعادة تأويل ) انطباعات الحواس لأنها تؤثر علينا هو المشروع الرئيسي للتحليل الفينومينولوجي, وهذا لا يعني أن التفسير ليس له دور في هذه العملية . فالفينومينولوجيا كشكل في التحليل المسرحي تهتم بشدة بالتفسير . والفرق هو أنه بدلا من التركيز فقط على نتيجة مثل هذه العمليات الإدراكية في التفسير، فإنها تسعى إلى توضيح مدى قدرتنا على الوصول اليهم جميعا . 
وقد تم التعبير عن مقدار من شكوكية علماء الفينومينولوجيا بالنسبة لما يمكن أن يحققه التناول السيميوطيقي مع ميله إلى التصنيف . فيقول روش ريم مثلا: «تكشف لحظة الانعكاس أن هذه التصنيفات تهدف إلى اكتمال تصنيفي بالأحرى عند فهم الفعل الدرامي والتفاعل المكاني. فكل شيء يحدث في المسرحية سوف يكون ملائما، ولكننا ربما لا نفهم بشكل أفضل في النهاية ما هو ملائم لهم“. 
 وبالعكس، تكمن أحد نقاط الضعف في المنهج الفينومينولوجي المعروفة في عدم قدرته التمييز بشكل مؤثر بين عمليات إعادة التأويل والتفسير. ويوضح كريج ستيوارد ووكر هذه المشكلة عندما يقول “إننا لا يمكن أن نبتعد في تفسير الظاهرة قبل أن نبدأ في تحليل معناها، وعند هذه النقطة، نبدأ في النظر إلى الشيء (الموضوع) بشكل سيميوطيقي ( دلالي) . 
 ولا بد أن يتضح من هذا أن معنى التعارض الذي يوجد، أو الموجود، بين مدرستي الفكر هاتين هو تعارض زائف وأنهما في الواقع وجهين لعملة واحدة. فلكي نصل إلى الصورة الكاملة وتفسير الظاهرة المسرحية (مثل لحظة معينة في العرض المسرحي)، فمن الضروري دائما أن نأخذ كلا المنهجين في اعتبارنا إلى درجة معينة . يستطيع الوصف الفينومينولوجي، مثلا، أن يقدم حلا لمشكلة التكرار السيميوطيقي - حقيقة أن الأداء المسرحي يقدم مزيدا من العلامات لكي تكون مقروءة أكثر من اللازم لنقل معنى معين . وهذا يعني أنه أن لم تكن هذه العلامات أو العناصر الدرامية (ومن ضمنها الصوت والإيماءة والملابس والمناظر الخ )، يتم تجميعها معا عن عمد بطريقة تتعارض مع بعضها البعض من أجل زعزعة الاستقرار أو إلقاء ظلال من الشك على المعنى الثابت بالفعل، ويمكن اعتبار مضاعفة المعنى غير ضرورية تماما . فلماذا، ولتقديم مثال بسيط لذلك، اجعل الملكة ترتدي ثوبا من المخمل إذا كان تاجها يوضح فعلا أنها الملكة ؟ 
....................................................................................
- ليزا ماري بوللر تعمل أستاذا للمسرح بجامعة ميونخ 
- هذه المقالة هي الفصل الأول من كتابها «theater architecture as embodied space» 2015. 


ترجمة أحمد عبد الفتاح