حين يتغزل المسرح في الشعر ليلقاه في باب عشق

حين يتغزل المسرح في الشعر ليلقاه في باب عشق

العدد 828 صدر بتاريخ 10يوليو2023

أن تنغمس في ذاتك حتى النخاع باحثا عنها أولا ثم باحثا عن كيفية فك قيود الإبداع التي رغِبت في إطلاقها يوما خارج حدود المألوف والمتوقع، حتى تنجح في ذلك معلنا للجميع أنك استطعت أخيرا الوصول لطريق واضح يمنحك النور كي تستمر على الطريق الصحيح لإطلاق ما آمنت به وأيقنت أنه يستحق أن يراه الناس، فالأفكار لا قيمة لها إن ظلت حبيسة العقول.
هذا ما أظنه قد حدث مع «إبراهيم الحسيني» حين انغمس ليكتب لنا «باب عشق»، النص الفائز بجائزة ساويرس عام 2021، فحالة الحب التي تُستلهَم من التراث الشعبي كحكايات ألف ليلة وليلة، شيء غاية في الصعوبة، فلا يمكن أن تكون نتاج صنعة أو حتى دراسة فقط، لكنها نتاج إبداع خالص، فخرجت لنا حالة شرعية تماما في تزاوج بين ما أبدعه «إبراهيم الحسيني» في تأليف النص المسرحي، وما رسمه من أشعار «درويش الأسيوطي» ليصنع منها «حسن الوزير» سيمفونية عشق تبادلية في دائرة غزل لا تنفصل مسرحا وشعرا.
مع بداية العرض المسرحي «باب عشق» على مسرح الطليعة للمخرج القدير والمهموم «حسن الوزير»، نجد تجسيدا كاملا لباب العشق، فهناك باب يتوسط المسرح على جانبيه نافذتان عليهما حبال طولية كأنهما سجنان بينهما باب العشق لمن يستطيع الخروج، يخرج البعض من الباب ويظل البعض حبيسا مع تلصص الأضواء الخافتة مصاحبة للموسيقى، فتظهر قطع الديكور في سينوغرافيا مرسومة بدقة لتعلو الحالة رويدا رويدا، فيبدأ العرض، لتبدأ بصوت المنادي حالة العشق المتواصلة بين الجالس على كرسي المتفرج، وما تنثره الحالة العامة من جمال على خشبة المسرح.
الكتابة عن «حسن الوزير» ممتعة لكاتبها لأنه يستفيد كثيرا أثناء البحث في تاريخ «الوزير» الفني لأنه مخرج تحقق وحقق من قبل ما يتمناه مخرجون آخرون، فمشواره غني عن التعريف، وتأثيره علىَّ بشكل شخصي تأثيرا لا يُنسى منذ «طقوس الإشارات والتحولات» رائعة «سعدالله ونوس» عام 1996 تقريبا.. بطولة نبيل الحلفاوي، سوسن بدر، وفاء الحكيم، خالد صالح، حمدي الوزير، خالد الصاوي.. وآخرين، جعلتني عاشقا لفن المسرح الذي كنت أراه فقط في المسرحيات القديمة على شاشة التلفاز، ليعود الآن بعد مشوار طويل ومهم ليأخذنا معه لهذا الزمن من جديد حيث المخرج يختار النص المناسب والمحسوس له بعناية، ويبدأ في إلقاء أبياته الخاصة من الشعر في بقية عناصر العمل، فيخرج لنا لوحته الجديدة زاهية الألوان «باب عشق».
دائما ما أتعامل مع نسب تقييم المخرج بالنسبة لي على أن اختيار النص يستحق 50% وتسكين الممثلين 25% وبقية العناصر 25% لأن النص والتسكين هما الأساس الذي يتم بناء عليه بقية عناصر العمل المسرحي، وفي «باب عشق» جاء تسكين الأدوار الرئيسية كما يجب أن يكون. فعلى سبيل المثال، ماهر محمود (دوقلة)، وهالة ياسر (دعد)، وشيماء يسري (سلمى)، وأحمد حسن (طاهر)، ومي زويد (شهد)، وعمرو علي (المنادي)، وفكري سليم (الملك)، وإسلام بشبيشي (هارون)، ودنيا عوني (مأمونة)، ومحمد صلاح (بكر)، وخالد العيسوي (السياف)، ومحمد جاد (جلال)، ومحمد أمين (غيلان)، كانوا على قدر المسئولية تماما بجانب المشاركين بالرقص والغناء، فأظن أن اختيار «حسن الوزير» لهؤلاء لم يكن فقط لتميزهم في التمثيل بالشكل الذي يخدم رؤيته، لكنه أيضا اختيار للممثل مطلق اليدين الذي يحترم ويقدر خشبة المسرح، وأيضا لا يجعل الرهبة والخوف منها حائلا دون إبداعه، وهذا لا يعني عدم تفوق ونجاح من لم أذكر أسماءهم، فالعمل جماعي، ولا نجاح بشكل منفرد، فالجميع أجاد في دوره ومكانه، فهنيئا لكم جميعا بعرض مسرحي سيظل في ذاكرة المسرح لسنوات.
كنت أثناء المشاهدة أتمنى بعض اللمحات التي لم تحدث «على سبيل المثال».. 
اللمحة الأولى.. لقاء يتم بين دوقلة ودعد، فهي اللحظة الأهم التي كنت منتظرا لها طوال العرض، لأن كل الأحداث تمهد لهذا اللقاء الذي أرى فيه دوقلة يلقي شعره على من جعلته يذوب عشقا فيها وفي شغفه بشعره أيضا، كنت أرغب في رؤية ملامح الأميرة وتعبيراتها أثناء تغلغل هذه الكلمات المنسوجة بخيوط مصنوعة من خلايا قلبه، ربما كان سيغير ذلك كثيرا من السياق وترتيب الأحداث الذي يراه «إبراهيم الحسيني» و»حسن الوزير» بما لا يرغبان فيه، ولكن هذا ما تمنيته يحدث كمتفرج عاش حالة عشق مع ما يراه على خشبة المسرح، ولكنها في النهاية مجرد رؤية مغايرة لا تضع خلافا بين ما رأيته وما تمنيته.
اللمحة الثانية كانت الصلاحيات الكبيرة التي تم منحها لشخصية «السياف» مجرد سياف يتعامل كأنه وزير البلاد أو قائد الجيوش، فربما منحه صفة أخرى غير «مجرد سياف» تحل المعضلة أو حتى تقليل الصلاحيات الممنوحة للشخصية.
ولا يمكن أن تنجح هذه الحالة المسرحية بمخرج ومؤلف بمفردهما، لكنه يحدث دائما بمساعدة أشخاص لا تقل أهميتهم بأي حال من الأحوال عن من يعتلون الخشبة ويراهم الناس لذلك يجب التقدير لهؤلاء: المبدع فادي فوكيه (ديكور)، مها عبدالرحمن (أزياء)، محمد حسني (موسيقى وألحان)، محمد بحيري (استعراضات)، وفاء مدبولي (مكياج)، ماري ثروت (إدارة مسرحية)، محمود الرفاعي (المخرج المنفذ)، رشا زيدان (المخرج المساعد).
في النهاية.. حالة دمج إلقاء الشعر والغناء والموسيقى والرقص، هي حالة فريدة تماما، قلما نجدها بهذا الرونق والتناغم الحي الخلاق، ولا يستطيع أن يقوم برسمها بهذا الشكل المبهر إلا فنان يعي جيدا أهمية -وأيضا خطورة- دمج كل هذه العناصر سويا، فكانت حالة براقة آخاذة تدمع العيون وتلهم العقول وتربت على القلوب.. فكل تحية لمن فكر ونفذ وشارك في هذه الحالة التي ظلت معي –باعتباري متفرجا- بعد انتهاء العرض، ومنحتني حائط صد حتى لا أتأثر بحالة العشوائية والسوقية خارج أسوار المسرح في منطقة العتبة الخضراء التي لم يعد بها من المناطق الخضراء التي تبث فينا الحياة إلا منطقة المسارح: القومي، والطليعة، والعرائس، وما بداخلها.


نبيل سمير