هوس الأحلام نسخ مكررة من أصل إنساني مأزوم ومثقل بالخطايا

هوس الأحلام   نسخ مكررة من أصل إنساني مأزوم ومثقل بالخطايا

العدد 827 صدر بتاريخ 3يوليو2023

الحياة فى حد ذاتها ليست خطيئة ولكن الخطيئة الحقيقية هو ما نقوم به ونفعله طوال حياتنا  ونعتقد أنه الصواب قد تكون  دوافعنا الطمع أو السعى نحو حياة رغدة سهلة أو طبيعتنا التى تميل نحو السوء أليست النفس إمارة بالسوء من هذه الزاوية الواقعية اطلق أسامة طه  رؤيته الفنية كمخرج  مسرحية هوس الأحلام التى قامت بها فرقة المنيا القومية المسرحية للمؤلف إبراهيم الحسيني وديكور الدكتورة سهير أبو العيون ومساعد مخرج هو ماهر بشرى صاحب الخبرات المسرحية الكبيرة وأشعار الشاعر الكبير أشرف عتريس ... وأتصور أن هذا النص ينتمي الى الدراما النفسية   والتى قمت بتعريفها فى كتابي التدريب بالسيكوداما والذي صدر مؤخرا عن إحدي دور النشر المصرية حيث عرفت الدراما النفسية بأنها طريقة اختبارية (تركز على التجربة هنا والآن) ووجودية (تهتم بالطبيعة العالمية وكمال حالة الإنسان ووجوده)، كما ذهب كورز 2018 فى تعريفه لها على إنها الدراما النفسية هي شكل جماعي  من الأداء له جذور عميقة في المسرح وعلم النفس وعلم الاجتماع،وعلى الرغم من أنه يُفضل أن يتم إجراؤه في شكل جماعي، إلا أنه يركز على خصوصيات الفرد مثل تقاطع الأدوار العلائقية المختلفة، (على سبيل المثال، كونك ابنًا وزوجًا) والأدوار المتعلقة بالصعوبات والإمكانيات (على سبيل المثال، المخاوف، مثل الخوف من الطيران؛ أو شكوك، كيف ستكون مقابلة العمل التالية). لهذا السبب، يُقال إنه علاج فردي في شكل جماعي، يتمحور حول بطل الرواية، وقد يحدث الإجراء حول الأدوار المختلفة التي يفترضها طوال حياته .
وهذا ما اتكأ عليه أسامة طه ومساعده فى إخراج هذا العمل المسرحى فالنص حقا صعب جدا من هذه الزواية وتجسيده يحتاج الى قدرات متنوعة سواء من حيث الدراماتورج الذى أعد النص أو من حيث إمكانات الممثلين الذين قاموا بأداء العرض أو من حيث الإمكانات المادية للمسرحية سواء ديكور أو ملابس أو إضاءة وغيرها وكذلك يحتاج هذا العرض إمكانات فى الموسيقي التى تحدث الأثر المطلوب من العرض فى نفس المتلقي وسعيها إلى خلق حالة واحدة  ينصهر فيها الممثلون مع المتلقي على حد سواء واعتقد هذا ما توفر فى هذا العرض حيث نجد مخرج العرض هو فى الأصل ملحن وموسيقي بارع ومطرب ونجد أيضا مؤلف الأشعار هو  شاعر كبير ومسرحي ودراماتورج محترف استطاع من خلال أشعاره أن ينقل لنا الحالات المتنوعة التى رصدتها المسرحية فى مختلف مناطقها لنسخ مكررة من أصل إنساني واحد مأزوم ومثقل بخطاياه ، والأمر المدهش حقا والذي يؤكد على وجهة نظري فى تناول المخرج عرضه من خلال هذا المنظور هو استمرار عرض المسرحية خلال أكثر من تسعين دقيقة بديكور واحد فقط منذ بداية العرض وحتى نهايته وهو ديكور محطة القطار  ولم يتسرب إلينا كمتفرجين الملل أو الضجر أو الضيق لحظة واحدة حيث نَوع المخرج ومساعدة حركة الممثلين على المسرح وأجاد كثيرا فى عمل هارموني متناغم فى حركة المجموع فى المشاهد التى كانت تحتشد بالمجاميع كما أنه اهتم بالأداء الفردي لأعضاء فرقته المسرحية حيث أجاد بطل العرض وكذلك أجاد باقي الممثلين فى أداء أدوارهم باتقان واضح .
إن مسرحية هوس الأحلام وان كان يبدو إنها نص استاتيكي يسكن المكان وهو محطة القطار الا أن المخرج مع الموسيقي والأشعار والممثلين قاموا بتحويله إلى نص درامي متكامل وديناميكي سريع الحركة ومتنوع الحركة فى أكثر مناطقه قوة ونبحر مع المخرج والممثلين عبر نسخ مختلفة من أصل إنساني واحد متأزم من الحياة حيث أن  محطة القطار تسير إلى المكان أو نوع من السكن المؤقت لفترة زمنية معينة هى فترة انتظار وصول القطار الذي لم يصل ولن يصل والمعروف أن معظم الكتابات الأدبية تتناول القطار على اعتبار أنه يرمز للحياة ومن خلال الهلاوس التى يستبطنها المخرج من لاشعور البطل يعرض لنا خطايا وذنوب البطل طوال حياته من خلال مشاهد متداخلة تعتمد على تكنيكات عديدة فى توظيف الأداء المسرحي وباقى عناصر المسرح كما سبق وان ذكرت سواء الأشعار أو الموسيقي اللذين كانا من أكثر عناصر العرض المسرحي نضجا ووعيا فى نقل الحدث المسرحي الذى يعرض علينا من خلال خشبة المسرح .
وتصل ذروة المأزق الإنساني للبطل من خلال عرض ذنوبه وخطاياه التى قام بها فى حياته فى ذلك الكابوس الذى جثم فوق صدره وهو اتهامه بقتل أحدهم  قد تكون هذه الجريمة حقا تمت فى الواقع ولكن من منظور معنوي وليس منظورا ماديا اى لم يأت البطل بفعل القتل المادي بقدر ما كان يأتي بهذا الفعل معنويا مما يؤكد لنا على أن كل هذه المشاهد والهلاوس التى يراها والتى تخرج من لاشعور البطل هى مجرد وساوس تهجم على البطل فجأة من جراء طول فترة انتظاره وحيدا للقطار واستطاع أسامة طه بحرفية عالية أن يحول خشبة المسرح الى لوحة ميثولوجية متكاملة من خلال تلك الحكايات الاسطورية التى دارت فى هذه البلدة أو دارت تحديدا فى هذه المنطقة وبشكل أكثر دقة فى محطة القطار والتى نسجت حولها مما حولتها لمنطقة محرمة أو منطقة مسكونة بالجن والعفاريت وما يراه ليس أكثر من جن وعفاريت يتبادلون أدوار اللعب معه حتى تدور برأسه الدوائر ويتصاعد الحدث الدرامي ويتنامي مع تتابع المشاهد والحكايات التى تزيد من تأزم البطل حتى تصل إلى موت روحه فى مشهد عبثى جميل اتقن ببراعة إخراجه أسامة طه مع مساعد الرائع ماهر بشري كما اتقن بطل العرض أدائه بحرفية عاليه فى إشارة واضحة  إلى أن كثرة الذنوب والخطايا أدت إلى موت روح البطل عن هذا العالم واضحى جسده يتحرك فوق بركة من الذكريات المؤلمة ويعمق هذا المشهد الاسطوري تلك الجملة التى أطقلتها بطلة العرض فى النهاية عن أوزير أو أزوريس كى يؤكد لنا المخرج على قصدية ميثولوجية العرض واسطوريته الذاتية التى خلقتها وخلفتها الحكايات والحكايات والحكايات التى كان يعج بها هذا العرض المسرحي الزاخم .
تبقى لنا أن نتوجه بالتحية إلى المبدع القدير والشاعر الكبير المسرحي أشرف عتريس الذى استطاع أن يوظف اشعاره بدقة  لتنقل لنا الحدث على مستويين متساويين سواء على مستوي الوعى والوجود وهو ما عمدت إليه المسرحية  والمستوى الآخر هو مستوى  تعميق الإحساس بتأزم الإنسان فى حالات وحدته واستدعائه لذكرياته المؤلمة وتذكره لخطاياه وذنوبه والتأكيد على ثنائية الوجود والعدم والحقيقة والوهم والنور والظلام .
كما نحي المبدع الفنان مساعد المخرج الأستاذ ماهر بشرى على كل الجهد الكبير المبذول فى هذا العرض العصي الصعب مما ساهم كثيرا فى نجاح هذا العرض بهذه الطريقة المبهرة 
ونحي المطرب والملحن والمخرج الفنان أسامة طه صاحب الخبرات العريضة فى هذا المجال والحرفية العالية التى طوعها لصالح النص مما أخرجه بهذا الشكل المبهر. 
وتحية لجميع الفنانين الذين قاموا بأداء هذا العرض وهو ياسر فؤاد، مجدى أبو زيد، محمد سمير الكردى، على عبدالله، عبد الرحمن بخيت، عماد فتحى، عثمان محمد، ليلى قطب.
كل التحية والتقدير لجميع من ساهم فى نجاح هذا العرض المسرحي الكبير هوس الأحلام 


موسى نجيب موسى