مذكرات نجيب الريحاني الحقيقية والمجهولة (18) نهاية المذكرات

مذكرات نجيب الريحاني الحقيقية والمجهولة (18) نهاية المذكرات

العدد 826 صدر بتاريخ 26يونيو2023

توقفنا في المقالة السابقة عند اقتناع الريحاني بعمل فيلم مع «أحمد سالم»، بعد ظهور فيلم «الحل الأخير».. واليوم نستكمل الموضوع كما نشره الريحاني في مذكراته عام 1937 المنشورة في مجلة «الاثنين والدنيا»، قائلا: «أقول إن هذا الإقبال الكبير على «الحل الأخير» زادني طمأنينة، وطرد من مخيلتي شبه التردد الذي كان يلازمني قبل مشاهدته. واشتركت مع بديع في وضع فكرة السيناريو ثم ذهبنا إلى الأستوديو ولقينا الأستاذ أحمد سالم فعرضنا عليه فكرتنا، ولكنه أمهلنا يومين قابلناه بعدها فعرفنا منه أنه قائم في الغد إلى أوربا لأعمال تستدعي غيابه فترة. ثم قص علينا فكرة جديدة مفضلا جعلها أساسا للسيناريو الذي نضعه!!
ولا أجد غضاضة في التصريح بأن هذه كانت المرة الأولى التي استحسنت فيها قصة لأي إنسان كان.. ووافقني بديع على صلاحية هذه الفكرة فعقدنا النية على بناء سيناريو «سلامة في خير» على أساسها، وقد كان. وأود أن أشير هنا إلى أن اختيارنا كان قد وقع على اسم «أفراح» لإطلاقه على الفيلم، ولكن الأستاذ سالم فضل عليه اسم «سلامة في خير» وقد كان.. برضه. وسافر الأستاذ أحمد سالم إلى أوروبا بعد أن سلمنا للأستاذ «نيازي مصطفى» بصفته مخرجا للفيلم. وإني لأذكر أنني صدمت هذا الفتى في ذلك الحين بتصريح غير مستحب لأنني لُدغت من مخرجين قبله.. ولا يُلدغ الممثل من مخرج مرتين!! ولكن مرور الوقت والاختلاط في العمل كانا خير محك عرفت منه قيمة نيازي فاعترفت بخطئي السابق في تقديره فهو كفء مخلص لفنه. وكانت اجتماعات متعددة متتالية بيني وبين بديع ونيازي عالجنا فيها وضع السيناريو وربط موضوعه وحوادثه. وكثيرا ما كنا نقف أمام عقبات تعترض سبيل منطق الأشياء وطبائعها حتى لقد كان اليأس يداخلني في بعض الأوقات فأفقد فضيلة الصبر وتظلم الدنيا في عيني فأذكر الفشل الذريع الذي يضاف إلى ما قبله. 
وهنا أرى أن أعترف بجميل زميلي بديع فقد كان يُهون عليّ تلك المصاعب ويبعث فيّ من روحه عزما وتشجيعا يرفعان عن کاهلي بعض ما أقاسي من أفكار قائمة سوداء. وكم أكد لي في بعض أحاديثه أننا سنتغلب على كل صعب لأن الموضوع الذي نعالجه موضوع صالح ولن نجد خيرا منه مهما بحثنا ومهما مكثنا. وبالجملة فقد عانى بديع من الأمرين طيلة الأشهر الثلاثة التي أمضيناها في تأليف السيناريو والحوار، فكم استدعيته في الصباح وفي المساء وفي الظهر.. وفي كل من أوقات النهار والليل. وهنا أكشف للقراء سرا لم يقف عليه واحد منهم وهو أنني بعد أن تم من تصوير الفيلم أربعة أخماسه ولم يبق إلا خُمسه كانت هناك أجزاء من الفيلم لم ننته من تأليفها بعد تماما كما نفعل في رواياتنا المسرحية.. واللي فيهش ما يخليهش!! وسرنا في عمل الفيلم وحولنا جو من التفاهم التام لم يكن لي به عهد من قبل، فقد كان المخرج يعمل في حدود واجبه، وكثيرا ما عاوننا بأفكار ثاقبة وآراء ناضجة فكنا نحن الثلاثة نواصل العمل سويا وكل منا يشعر أنه يؤدي فرضا واجبا يدفعه إليه الإخلاص والحرص على النجاح. وما أبديته عن المخرج يصح أن أبديه كذلك عن الشاب النابغ الأستاذ «محمد عبد العظيم» الذي مهدت إليه مهمة تصوير مناظر الفيلم، إذ كنا نشاهد من حرصه على عمله وشغفه بإتقانه ما كان يطلق ألسنتنا في كثير من الأوقات بالثناء عليه وعلى مجهوداته الموفقة. وشاهدت من الأستاذ مصطفى ومن «مهندس الصوت» دقة في أداء عمله وثقة بالنفس كبيرة. 
وبعد مضي أيام قليلة شاهدت صوري على الشاشة البيضاء وسمعت صوتي جليا لأول مرة فآمنت بأني كنت في أفلامي السابقة ضحية الجهل الفاضح الذي كان «يتمتع» به من اشتركت معهم من «الفنانين»!! وعاد الأستاذ سالم من أوربا وكثيرا ما كان يفاجئني مع بديع في منتصف الليل بالأستوديو عاكفين على الكتابة والتأليف فيشترك معنا بآرائه ويمدنا بأفكاره، وهي معاونة صادقة نذكرها له مع التقدير والشكر، كذلك كان يفعل الأستاذ «حسني نجيب» السكرتير العام للأستوديو. وقد امتلأت نفسي ثقة بالنجاح بعد هذه المشاهدات المتوالية. وقد تحقق الأمل وكان مصير هذه المجهودات المتواصلة ما نلمسه الآن من نجاح الفيلم.
عرف قرائي الأعزاء أنني أجهدت نفسي كثيرا في الموسم الماضي، فقد تابعت العمل فأخرجت على التوالي «قسمتي، ومندوب فوق العادة، والدنيا على كف عفريت»، وقبل أن أشم «نَفَسي» أو أستريح أياما أُخذت من الدار للنار: نار الأستوديو وأضوائه المحرقة وعمله المرهق الذي لا أستطيع وصفه لك يا عزيزي ونور عيني القارئ المحبوب. وقبل أن ننتهي من آلام الوقوف أمام الكاميرا آناء الليل وأطراف النهار.. استلمني المسرح.. ولهلبني الموسم فاقتحمته بروايات قديمة نزولا على نصائح الأعزاء من الإخوان واقتراحات المحبين من المتفرجين.. ولكن ذلك لم يحل بيني وبين التفكير مع الزميل بديع في الرواية الجديدة «لو كنت حليوة». ومعنى ذلك أن أبراج مخ الغلبان.. كانت حاتطير طيران. والذي زاد الطين بلة ما أصاب عيني في نهاية العمل بالأستوديو من أثر الأضواء التي كنت أقف تحت وهجها الساعات الطويلة، والتي تكتفي من غير مبالغة لكهربة خزان أسوان!! ولولا أن الله قيض لي بعض الأطباء الأصدقاء الذين اختشى منهم المرض على عرضه ففارقني غير مأسوف عليه.. أقول لولا ذلك لعرضت نفسي على مؤتمر الرمد الدولي الذي عُقد بالقاهرة في الأسبوع الماضي.. ولكن الحمد الله جت سليمة.. والبركة في الإخوان.
وشاء الحظ الحسن أن أتنقل في الأسبوع الماضي بين طنطا والمنصورة ودمياط حيث أمضيت مع الفرقة ليلة في كل من هذه المدن أحيينا في الأولى حفلتين ماتنيه وسواريه. وأريد أن أثبت هنا أن الفقير الماثل الآن بين أيديكم أيها القراء اُستقبل في مدينة المنصورة استقبالا لم يكن ينتظره.. ويظهر أن منشأ هذه الحفاوة عائد إلى أن فيلم «سلامة في خير» عُرض في المنصورة قبل أن نزورها، فأراد المنصوريون الكرام أن يظهروا ولمحسوبهم لونا من ألوان التكريم الذي اشتهروا به فقابلوني تلك المقابلة التي لا أنساها.. فقد أطلق جميلهم لساني بترديد الشكر لهم في كل مجال وبإثباته في مذكراتي ليكون مسكا للختام. وفي المساء قدمنا رواية «مندوب فوق العادة» فما كنت أظهر على المسرح حتى استمر التصفيق بضع دقائق.. وهذا عمل أعترف بعجزي عن الشكر من أجله.. وإن كنت لا أجد ما أقوله غير «فلتحيى المنصورة».
وعدت إلى القاهرة في يوم الأربعاء، ولتسمحوا لي أن أعترف بأن الأيام الثلاثة التي قضيتها خارجها كانت بمثابة أجازة من بعض الوجوه استراح فيها فكري ومخي راحة أرجو أن تعوضني بعض ما أفقدني العمل إياه. وها أنا واضع نصب عيني وضع الرواية الجديدة «لو كنت حليوة» بالاشتراك مع أخي وصديقي بديع. وأرجو الله أن يكتب لها الفلاح فنضمها إلى لِستة أخواتها السابقات.
نتيجة وعبرة
إلى هنا انتهت أحداث مذكرات نجيب الريحاني من حيث الأحداث، ولم يبق منها إلا خاتمتها وكلمة الشكر!! والخاتمة كتبها الريحاني في فقرتين بعنوانين، الفقرة الأولى عنوانها «نتيجة» وفيها قال: «والآن يا قارئي العزيز أقف معك لحظة قبل أن أضع القلم في مكمنه وقبل أن أدفع هذه الخاتمة إلى المطبعة. أقف لأتذاكر وإياك في حديث لا بد منه وهو أنني قَصرت ما نشرت في حياتي العملية وحدها ولم أمس الحياة الشخصية إلا لمسا خفيفا، كانت تقتضيه ظروف السرد والشرح. وكم كانت ذكريات الحوادث تمثل أمام ناظري حين كتابتها وكأنها كانت من حوادث اليوم الذي أكتب فيه مع أنه مضى على وقوعها سنوات. أقول إنني قدمت لك يا سيدي وملاذي ونور عيني القارئ حياتي العملية أما حياتي الشخصية.. حياتي المليئة بالفواجع والمآسي والفكاهات والمضحكات.. هذه الحياة ستكون إن شاء الله موضوع بحث آخر قد أنشره لقراء الاثنين عاجلا أو آجلا، وندع هذا جانبا. والآن.. الآن، بعد أن تذوقت من الحياة حلوها ومرها، وبعد أن جرعتني كأسها حتى الثمالة - كما يقولون - بعد ذلك كله أقرّ وأعترف أنا الواضع اسمي بخطي فيه أدناه نجيب الريحاني أنني خرجت من جميع التجارب التي مرت بي.. خرجت منها بصديق واحد.. صديق هو كل شيء.. وهو المحب المغرم الذي أتبادل وإياه الوفاء الشديد والإخلاص الأكيد.. ذلك الصديق هو «عملي»!! إنه أشبه بالمعشوقة الفاتنة التي كملت أوصافها ومحاسنها لولا أنها غيور.. غيور بكل ما في هذه الكلمة من معنى.. فهي وفية ما دمت وفيا لها.. أما إذا حدثتني النفس بخيانتها فالويل الويل.. وسواد الليل.. أنها تكشر عن أنيابها وتقلب لي ظهر المجن.. تتنمر وتتنكر.. وترغي وتزبد وتفور وتثور.. وتطلع القديم والجديد. نعم أيها السادة.. فإنني حين أتفرغ لعملي أجد النجاح يواتيني والحظ يقبل عليّ.. أما إذا اتجهت بقلبي إلى شيء آخر.. أو إذا ساقت لي الظروف غراما طائشا.. أو سهما رائشا.. فاندفعت وراءه.. هنا تكون الطامة.. وهنا يخونني العمل.. ويخلع نعليه.. ليجعل من رأسي منفضة لهما.. والعياذ بالله. وكثيرا ما تعاودني الذكريات حين أجتمع بالأخ الصادق بديع خيرى، فنتذاكر شؤون الماضي ونعترف بأننا كوفئنا حق المكافأة إذ اكتسبنا جمهورا يقدرنا ويقدر عملنا.. وإن كان حظنا من الناحية المادية.. هو حظ الأديب في مصر.. لكن معلهش برضه.. مستورة والحمد لله.. وكل ما يهمنا هو أننا نشعر بأن علينا رسالة نؤديها للوطن المحبوب وقد أديناها كاملة.. وكوفئنا على هذه التأدية.. وحتى لو فرضنا أننا لم نكافأ فما كان ذلك ليحول بيننا وبين أداء الواجب».
أما فقرة الختام الثانية، فكانت بعنوان «عبرة»، وفيها قال الريحاني: «بقيت العبرة التي أبثها أخيرا وهي أنني أصبحت أعتقد أن العواطف وما إليها من الكلمات والاصطلاحات المنمقة ليست إلا لهوا ولعبا وتجارة يمارسها بعض الناس للضحك بها على عقول السذج وقاصري الإدراك، تماما كما تفعل «المعددة» في المآتم، فإنها تأتى بعبارات الأسى والحزن العميق الذي يفتت الأكباد ويحرك الجماد. ومع ذلك فإنك تبحث في قرارة فؤادها فلا تجد مثقال ذرة من الحزن والألم. تلك ما أوصلتني إليه التجارب فيما يختص بالعواطف. ولعل ما يراه الجمهور من المواقف المضحكة في رواياتي منشؤها هذا الاعتقاد الراسخ في حياتي».
آخر شيء في المذكرات، كانت كلمة الشكر، التي وضع لها الريحاني عنوانا هو «كلمة واجبة»، قال فيها: «وهنا أراني مدينا للصديق العزيز الأستاذ «توفيق المردنلي» بكلمة شكر، لأنه كان السبب الأول والأخير في حملي على كتابة هذه المذكرات. فأنا - ولا حياء في الحق - أقرب إلى الكسل إذا لم أجد الدافع الذي يسوقنى إلى ما أريد. وقد قيض الله لي في صديقي توفيق ناصحا أقنعني في البداية بضرورة كتابة مذكراتي فنزلت على تلك النصيحة إلى أن انتهيت منها الآن بعون الله وحمده واخترت هذه الصحيفة المحبوبة. فليكن شكري لتوفيق آخر ما تخط يميني في هذه المذكرات.. ووداعا قرائي الأعزاء وإلى اللقاء «انتهت» [توقيع] نجيب الريحاني».
كلمتي قبل الأخيرة
عزيزي قارئ جريدة «مسرحنا».. أنت الآن قرأت أول مذكرات كتبها الريحاني ونشرها في حياته عام 1937 في مجلة «الاثنين والدنيا»!! كما أنك قرأت مذكرات أخرى منشورة في مجموعة مقالات متفرقة نُشرت في الصحف والمجلات قبل نشر المذكرات الكاملة عام 1937. وهذا يعني أن جريدة «مسرحنا» في هذا العام 2023 تكون المطبوعة المسرحية الوحيدة في العالم التي نشرت جميع مذكرات الريحاني المنشورة في حياته، والتي تشتمل على سنوات نشاطه وحياته حتى ديسمبر 1937، وذلك بناء على قوله في نهاية المذكرات أنه أنهاها بعد أسبوع من عقد مؤتمر الرمد الدولي بالقاهرة!! وهذا المؤتمر عُقد في ديسمبر 1937.
وبناء على ذلك أقولها صريحة: إن جميع الحلقات المنشورة في جريدة «مسرحنا» تحت عنوان «مذكرات نجيب الريحاني الحقيقية والمجهولة».. هي المذكرات الحقيقية والكاملة لنجيب الريحاني – والتي كانت مجهولة، ومن ثم اكتشفتها ونشرتها – كونها المذكرات الوحيدة الكاملة والمنشورة أثناء حياة الريحاني!! وبناء على ذلك أقولها صريحة أيضا: إن «جميع» المذكرات المنشورة بعد وفاة الريحاني ولو بيوم واحد.. هي مذكرات معتمدة على المذكرات الحقيقية الأولى «مذكرات 1937»، بعد تعديلها وإعادة صياغتها بالحذف والإضافة تبعا لظروف ومزاج من قام بذلك آمنا مطمئنا بسبب وفاة الريحاني وعدم مراجعته لها، وأيضا بسبب علاقة الصداقة المتينة بين الريحاني وبديع خيري، حيث إن «جميع» المذكرات المنشورة بعد وفاة الريحاني نُشرت بموافقة بديع، وكانت يده هي الأعلى في صياغتها وإعادة كتابتها، وخصوصا جميع الأحداث الموجودة في «جميع» المذكرات من عام 1938 إلى 1949 حيث إنها أحداث لم يكتبها الريحاني نهائيا.. بل كُتبت على لسانه ونُسبت إليه من قبل بديع خيري أو غيره!! ولنا كلمة في هذا الشأن الأسبوع القادم -بمشيئة الله!!


سيد علي إسماعيل