«إنت حتفضل طول عمرك هنا محبوس مع التراب والعنكبوت، أما أنا فحيجى اليوم اللى حمشى فيه من هنا» «حاولت وفى كل مرة كنت أتراجع وأعد نفسى بألا أعود إلى هذه المغامرة الفاشلة»«هو إحنا اللى بجد وكنا ولا إحنا ما كناش، وخدتنا الدنيا وعيشنالها ولا إحنا ما عيشناش» «أنا عارف أنا بعمل إيه، الطفايات لازم تكون ع الكراسى والفازات على الأرض»«الجثث قدامى مش قادرة أصدق عنيا»«صالون مش صالون، الأوضة مش هى الأوضة هى الحمام»بهذه الجمل العبثية على لسان أبطال المسرحية أثناء دخول الجمهور لصالة العرض، تبدأ المسرحية والممثلون فى حالة لا حراك وجمود تام، فقط يرددون تلك الجمل وسط دهشة وتساؤلات جمهور المتلقى حول طبيعة تلك الجمل ومغزاها، والتى تتكشف لهم غموضها فيما بعد مع تصاعد أحداث المسرحية، وفى حقيقة الأمر هى كلها جمل مطلقة بمعنى أنها تعد بمثابة مناجاة تقال فى العموم فى صراع الإنسان مع نفسه، وكلها تصب فى معنى واحد ألا وهو التمرد والقهر والضياع وتحول النظرة المجتمعية وكثرة ظاهرة القتل والتى سبق بها خوزيه تريانا عصره فى توقعها واختفاء القيم والعادات الأسرية وحلت محلها العداوات بين أفرادها وصارت مواجهة كل منهم للآخر هى السائدة، فتعرت مشاعر الكراهية فيما بينهم بدلا من الدفء والحب المفترض أن يجمعهم، يكشف لنا هنا خوزيه تريانا من خلال النص المسرحى «ليلة القتلة» ذاك النص الذى كتبه عام 1965، بواطن الأسرة المفككة والعلاقات الهشة والعائلة المدمرة نفسيا، وذلك من خلال أبطال المسرحية وهم ثلاثة أشقاء ( لاللو، كوكا، ببا ) يعانون من كبت وقهر والديهم، ولكن المخرج صبحى يوسف هنا اشتق منهم ثلاثة آخرين فى إعداده للنص فوجدنا شخصيتى الأب والأم أمامنا مرأى العين ولم يكتفى بأن يكون دورهم مقتصر بالسرد على لسان الأبناء كما فعل خوزيه فى كتابته للمسرحية، كما اشتق من النص أيضا فتاة أخرى بدافع إضفاء العنصر الغنائى من خلالها بالعرض، وفى رؤية فلسفية عبثية ساخرة تتبدي لنا مكاشفات ثورة الأبناء علي السلطة الأبوية بشكل كبير في محاولة من الشقيق الأكبر «لاللو» التخلص من تسلط الأم وقسوتها ودكتاتورية الأب وتعنيفه المستمر، ومن هنا تتبدي المهمة التي تظهر ناصعة ففي كل ليلة يتخذ قرارا بالتخلص من سلطة الأب مجتمعين بسبب قيامهما بهتك نموذجهم الإنساني وتبدأ اللعبة علي مسرح جريمتهم ـ البيت ـ كيانهم المهترئ والآيل للسقوط، ولكنه دوما قرارا لا يتم فلا تجد أثر للقتل هنا طوال العرض المسرحى، فقط هى ليالى تتعدد فيها القرارات ومحاولات تنفيذهم لتلك الجريمة دون أن نصل فى النهاية إلى تنفيذ فعلى لتلك القرارات أو حدوث فعل حقيقى للقتل نفسه، فالقتل المستهدف هنا معنوى فقط. فحينما كتب الكوبى خوزيه تريانا ذاك النص أراد أن يظهر من خلاله مشاكل السيطرة والاستبداد فى العالم اجمع من خلال نموذج مصغر للأسرة المفككة والمدمرة نفسيا، تلك المشاكل التى لا تنتهى أبد الدهر، لذا عاش نصه وصار من النصوص العالمية التى لا تنتهى بنهاية زمان أو مكان معين، وكذا أيضا التى لا تنتمى لدولة أو جنسية محددة، حيث التفكك الأسرى مشكلة يعانى منها العالم أجمع بكل بلدانه .اختار صبحى يوسف ستة من الممثلون وقسمهم إلى فريقين، أربعة من الأبناء وأب وأم، كل فريق منهم يمثل جيل معين، من اجل أن يلقى الضوء أيضا على فكرة صراع الأجيال بين الآباء والأبناء، وتسلط الماضى على الحاضر وتمرد الحاضر على الماضى، فريق الآباء: كانت نشوى إسماعيل كعهدنا بها دوما صاحبة خبرات عريضة فى المسرح وقمة فى التألق والإتقان لأية شخصية تلعبها سواء أن كانت كوميدى أو تراجيدى فهى ممثلة ذات ثقل وتنتمى إلى مدرسة السهل الممتنع، لذا أجادت أداء شخصية الأم بالمسرحية بكل ثقة وتميز، بنفس القدر الذى أجادت به شخصية الجارة الكوميدية بما تمتلكه من حضور وخفة دم، أما بالنسبة لإميل شوقى فهو ممثل يمتلك حضورا مميزا للغاية سواء أمام الشاشة أو على المسرح يجعلك تحبه وتتقبل أي شئ منه، لذا فقد كان حضوره قويا فى شخصية الأب، ولكن ملامحه الطيبة فى الحقيقة طغت بشكل اكبر على ملامحه الحادة المطلوبة للشخصية لكى نشعر معه بتسلط الأب على أبنائه، لذا كان ينقصه فقط أن يجتهد أكثر فى إظهار ملامحه القاسية على وجهه حتى يصل بالشخصية إلى الهدف المنشود منها . أما بالنسبة لفريق الأبناء : فقد كانت مروج فى قمة الوهج الفنى خاصة فى استعراضها لأكثر من كاركتر وشخصية بالعرض استطاعت أن تتقنهم جميعا بنفس الدرجة من التميز وخاصة شخصية العجوز، لتعلن عن نفسها كممثلة واعدة بقوة لما تمتلكه من موهبة وقبول فنى عالى، ياسر مجاهد ممثل مجتهد يمتلك الرغبة فى الاستمرارية والتعلم ولديه الكثير ليقدمه فى خطواته القادمة، لمياء جعفر ممثلة تمتلك قدر عالى من الإحساس والصدق الفنى، كما أنها تمتلك وجه ذو ملامح حزينة ومنكسرة يؤهلها لأداء الأدوار التراجيدية الحزينة بمهارة كبيرة لو أحسن المخرجين توظيفها واستغلالها، وأخيرا شيماء يسرى أراها مطربة رائعه أكثر منها ممثلة، فإحساسها وهى تغنى أعلى بمراحل من إحساسها وهى تمثل، ويساعدها فى ذلك دفء صوتها الطربى الجميل، ولكن هذا لا يمنع أنها تمتلك من القبول الفنى ما يؤهلها للتمثيل ولكن فى الأدوار الخفيفة التى لا تتسم بالعمق والتفاصيل المركبة .الديكور لسماح نبيل جاء ملائما لفكر المخرج الذى استعان فى إخراجه للعرض بمنهجين للإخراج ألا وهما منهج العبث ومنهج بريخت، فوجدنا أماكن لتغيير الملابس وجلوس الممثلين على جانبى خشبة المسرح من اليمين واليسار كما اعتدنا دوما أن نرى فى منهج بريخت الإخراجي حيث يقوم الممثلين بتغيير ملابسهم أمام الجمهور على خشبة المسرح، ولكن فى العرض المسرحى «ليلة القتلة» كان لا ينبغى هنا حدوث اظلام على الممثلين أثناء تغيير ملابسهم طالما هناك من ضمن الديكور المصمم أماكن أمام الجمهور لتغيير تلك الملابس، أما بالنسبة للمنهج العبثى وجدنا ذلك فى تصميم الديكور بطريقة «المسرح داخل المسرح» حيث كانت خشبة المسرح تتوسط الجمهور من الجانبين يمينا ويسارا ويحوطها من كل الجوانب شرائط أشبه بتلك الشرائط التى توضع حول المشاريع التى تحت التنفيذ والتى يمنع للمارة الاقتراب منها ما دامت تلك الشرائط حولها، وبالتالى كانت تمثل تلك الشرائط المحاطة لكل جوانب الخشبة والتى تحث الجمهور على عدم الاقتراب فى إشارة رمزية إلى خطورة وأهمية القضية المقدمة لهم والتى تتطلب مزيدا من الانتباه والتركيز، كما كان للمقاعد على خشبة المسرح هنا اكثر من استخدام ومعنى على حسب طريقة تعامل الممثلين معها وما يصنعونه من تشكيلات من خلالها، فعلى سبيل المثال لا الحصر تم استخدام تلك المقاعد كشرفات بلكونه متجاورة فى مشهد الجيران الذى يجمع نشوى اسماعيل مع لمياء جعفر، كما تم استخدام قضبان يد حديدية صغيرة كرمز للسجن والقهر فى مشهد لياسر مجاهد، ففى مسرح العبث أو اللامعقول يتم استخدام قطع وموتيفات الديكور وكذا الأكسسوارت بأكثر من معنى وهذا ما وجدناه بالعرض المسرحى، الأزياء أيضا لسماح نبيل جاءت موحدة للممثلين وعبارة عن بيجامات منزلية على الطراز القديم كناية على سلطة الأبوين وقهرهم للأبناء ومحاولاتهم الدائمة لفرض سطوتهم ونفوذهم ومبادئهم وطريقة تفكيرهم وحياتهم عليهم، كما لجأت سماح نبيل إلى تلك البيجامات أيضا دلالة على خصوصية القضية المتعلقة بحياتنا الأسرية المنغلقة علينا والتى دوما نحن حريصين على عدم إظهارها للآخرين حيث أن تلك البيجامات مخصصة للمنزل فقط لا للخروج بها إلى العامة، وحقيقة تفوقت سماح نبيل على نفسها سواء على مستوى الديكور أو الأزياء وما تحتويه من رموز ودلالات معبرة عن الحالة المسرحية وخصوصيتها الشديدة الأهمية .الإضاءة لإبراهيم الفرن، جاءت متلائمة مع المنهج الإخراجى الذى اتبعه المخرج حيث جاءت الإضاءة full light أي إضاءة كاملة أغلب فترات العرض وذاك منهج متبع عند مسرح بريخت الذى اختاره المخرج أسلوبا لإخراجه لذاك العرض حيث لا يتطلب من المتلقى هنا الإندماج مع الشخصيات بل لابد أن يكون دوما فى حالة تركيز ووعى كامل لكل ما يراه من اجل أن يخرج من خلاله بدروس مستفادة .الأشعار لعوض بدوى جاءت احترافية ومعبرة وكلماتها رائعه وموحية بالحالة المسرحية، ولكن فقط جاءت أغنية الفينال بعيدة كل البعد عن محتوى العرض المسرحى بالرغم من جمال كلماتها، فلابد هنا أن توحى الأشعار تحديدا بدراما العرض حتى ولو كان العرض ينتمى إلى مدرسة العبث، أما الموسيقى والألحان لمحمد حمدى رؤوف فجاءت من وحى المنهج العبثى الذى سارت عليه وتيرة العرض، فجاءت الألحان مناقضة تماما لحالة العرض المسرحى وموحية بالسعادة بالرغم من مأساوية الكلمات والفكرة الدرامية للعرض المسرحى وعنوانها « ليلة القتلة « باستثناء أغنية الفينال، وهذا نجاح يحسب لكلا من الشاعر والملحن ينم عن فهمهم لدراما العرض ذو الطبيعة الخاصة فى طريقة تقديمه للمتلقى .أما بالنسبة للبوستر الدعائى لمسرحية «ليلة القتلة» والذى قام بتصميمه خالد مهيب، أرى انه بعيد كل البعد فى التعبير عن رسالة العرض المراد من خلاله إبراز التفكك الأسرى والدمار النفسى الذى تحياه ونوايا القتل لديهم فجاء لا معنى له على الإطلاق، فربما أراد خالد مهيب من ظهور شخصيات العرض المسرحى بهذا الشكل على البوستر أن يوحى بمنهج المخرج العبثى فى إخراجه للنص، فطلب من أبطال العرض أثناء تصويرهم الإتيان بحركات وتعبيرات غريبة، متناسيا أن العبث فى المسرح ليس جنونا أو حركات عشوائية لا معنى لها بل انه مدرسة لها أيضا دلالاتها ورموزها المعبرة عن محتوى ما تقدمه من رسالة للمتلقى من خلال العرض المسرحى . وأخيرا، تعد هذه هى المرة الثالثة الذى يتم فيها تقديم هذا العرض المسرحى على مسرح الطليعة، فقد سبق تقديمه أول مرة من إخراج ماهر عبد الحميد عام 1979، ومن ثم بعدها بسنوات عديدة قام المخرج تامر كرم بإعادة تقديمه على نفس المسرح عام 2012، وتلك هى المرة الثالثة التى يتم إعادة تقديم العرض ببصمة ورؤية صبحى يوسف وعودة له للإخراج بعد رحلة اغتراب طويلة بعيدة عن الوطن، ومن المؤكد أن كل مخرج قد قام بتقديمها برؤية مختلفة عن الآخر، فمن احد مميزات ذاك العرض العبثى انه متاح تقديمه عشرات المرات وبرؤى ومناهج مختلفة، وحقيقة فقد نجح صبحى يوسف إلى حد بعيد فى إخراجه لذاك النص برؤية عبثية مختلفة عن سابقيه تتناسب مع محتواه، ورأينا ذلك فى الأداء الحركى للممثلين وطريقة تعاملهم مع قطع الديكور وكذا الأكسسوارت من حولهم وأيضا من خلال تنوع كل ممثل فيهم فى أداء العديد من الشخصيات سواء كانت شخصيات من رجال الشرطة أو القضاء أو أدوار الأب والأم وبائع الجرائد وغيرها من الشخصيات، كما وجدنا الرجال يقومون بدور النساء والنساء يقومون بدور الرجال وهى رؤية عبثية لها دلالات عديدة على أحد أهم أسباب التفكك الأسرى ألا وهو اختلاط المهام بين الأب والأم فى تربيتهم للأبناء، كما حرص صبحى يوسف فى إخراجه للعرض ألا تخرج رسالة العرض المسرحى عن قضيته المحدودة عن التفكك والانهيار الأسرى، وألا يتناوله من منظور اشمل وأوسع كما أراد الكاتب خوزيه تريانا ، وبالتالى جاء العرض يتميز بالخصوصية سواء على مستوى الموضوع المقدم أو على مستوى الدلالات الخاصة به التى لا تخرج عن نطاق التفكك والانهيار الأسرى وما انتاب تلك العلاقة بين الآباء والأبناء من فتور واختلاف فى الفكر والأسلوب والأهداف نتيجة اختلاف الأجيال، وفى النهاية يحسب هنا لصبحى يوسف انه قدم لنا عرضا مسرحيا راقيا بدون فجاجة أو عنف أو قتل على هيئة لعبة مسرحية واضحة بين فريقين من الممثلين يمثلون أجيالا مختلفة ويتبادلون الأدوار والشخصيات والوظائف فيما بينهم، تعتمد على الرموز والدلالات وإعمال العقل للمتلقى اكثر من الرؤية البصرية المباشرة والسطحية للأحداث القائمة أمامه من اجل إيصال وفهم رسالة العرض المسرحى .