بعد الجحود والنكران تونس هي الأمان

بعد الجحود والنكران تونس هي الأمان

العدد 741 صدر بتاريخ 8نوفمبر2021

ظلت فرقة فاطمة رشدي متألقة مسرحياً حتى عام 1938! فهذا العام كان بداية مرحلة أخرى تتراوح بين المعناة والتجديد الفني، الذي وصل إلى حد الابتكار والريادة في نوع مسرحي جديد!! .. هذا هو واقع الفنان إذا أراد أن يحافظ على تألقه، وذلك بالتجديد الفني في أسلوبه، وبالتعامل مع كل واقع جديد يطرأ عليه! وهذه المرحلة بدأت في الظهور، عندما سافرت فاطمة رشدي مع فرقتها إلى العراق عام 1937، فحدث خلاف بينها وبين مدير فرقتها الممثل «أحمد الفقي» الشهير باسم «أحمد البيه»، ووصل الخلاف إلى حد احتجاز فاطمة رشدي في أحد أقسام بوليس بغداد، لولا تدخل المفوضية المصرية التي حلّت المشكلة وأعادت فاطمة إلى مصر بدون فرقتها، التي تمّ حلها في العراق!
عادت فاطمة رشدي إلى القاهرة فلم تجد من الفنانين من يدعمها أو يقف بجوارها، مما يعني صعوبة تشكيلها لفرقة مسرحية جديدة! هذا الوضع نجح في استغلاله أهم متعهد حفلات في تاريخ مصر الفني، وهو المَعلم «صديق أحمد»، الذي اتفق معها على العمل في مسرح برنتانيا مقابل راتب شهري! واستمرت فاطمة شهرين على هذا المنوال، حتى انتهى العقد مع المتعهد، فقامت بتشكيل فرقة جديدة وسافرت بها إلى الأقاليم ولكن عروضها لم تنجح، فاتجهت إلى السينما وبدأت في تمثيل مشاهد فيلم «ثمن السعادة»، ثم اختفت أخبارها فجأة!!

تونس مرة أخرى
بعد عدة أشهر ظهرت فاطمة رشدي، ولم يكن ظهورها في مصر، بل كان في مدينة طرابلس الليبية. وأخبرتنا مجلة «الصباح» أنها سافرت إلى ليبيا وحدها – بدون فرقة - وتقابلت مع التاجر «السيد الهادي المشرقي»؛ حيث أظهرت له رغبتها في إحياء حفلة مسرحية لحسابها، ستقوم بتمثيلها وحدها من خلال إلقاء بعض القطع التمثيلية! فوافق التاجر إشفاقاً على ظروف فاطمة رشدي، وتقديراً لتاريخها السابق، حيث إن فشل هذه العروض كان واضحاً للعيان!! وبالرغم من ذلك، نجحت هذه العروض المنفردة نجاحاً كبيراً في ليبيا! وهذا النجاح دفع فاطمة للاستمرار في رحلتها إلى بلاد المغرب العربية للمرة الثانية، وبالفعل سافرت إلى تونس!!
ونقلت لنا مجلة «الاثنين والدنيا» في يونية 1938 ما قامت به فاطمة في تونس، حيث قالت تحت عنوان «نجاح فاطمة رشدي في تونس»: «طالعنا في البريد الوارد من القطر الشقيق تونس على كثير من أخبار النجاح الذي صادفته فاطمة رشدي هناك والحفلات التي أقيمت لتكريمها. ونحن نقتطف هنا بعضاً مما نشرته الزميلات في تونس. قالت جريدة «الزهرة» الصادرة بتاريخ 16 ربيع الأول: ومن المعلوم أن السيدة فاطمة رشدي قد شرعت في القيام برحلة عالمية ولما حلت بتونس رأت إحياء هذه السهرة الفريدة وتقديمها كتحية منها لإخوانها التونسيين، الذين كانت زارتهم سابقاً واحتفظوا لها واحتفظت لهم من تلك الزيارة بذكريات طيبة. وقد كان البرنامج الذي قدمته هذه الفنانة في سهرتها هذه مشتملاً على 8 قطع وهي: «انتظار الحبيب، والمصرية الصعيدية، والأم، والساقطة، وفوفو، والفتاة العصرية، والفتاة المصرية الصميمة، ومصرع كليوباترا». وكلها من تأليف وتلحين كبار أدباء وفناني الشرق، وكانت هذه القطع متخللة بالرقص الشرقي الرشيق. وقد قوبلت بالتصفيق الحاد نظراً لما أبدته فاطمة من التفنن والبراعة، رغماً عن كونها كانت تقوم بها بانفرادها. فنهنئ ضيفتنا الفنانة بما أحرزته من نجاح باهر ونتمنى لها استمرار النجاح والفلاح أينما حلت وسارت». وذكرت جريدة «La Depech Tnnisienne» الفرنسية في عددها الصادر يوم 17 مايو عن الحفلة التي أقامتها فاطمة في مسرح البلدية إنها: لاقت نجاحاً عظيماً بفضل البراعة الفائقة التي أظهرتها الممثلة المصرية النابغة.
أما مجلة «آخر ساعة» فنشرت موضوعاً في أكتوبر 1938، بمناسبة عودة فاطمة رشدي، قالت فيه: عادت فاطمة رشدي إلى مصر بعد رحلة استغرقت بضعة شهور طافت فيها بتونس والجزائر ومراكش وباريس. وقد قرأنا في جريدة «بتي ماتان» التونسية في عددها الصادر بتاريخ 27 سبتمبر الكلمة الآتية عن الفنانة المصرية الكبيرة: فاطمة رشدي هذه الفنانة المصرية الكبيرة والتي تتمتع بالحظوة الكبرى عند الجمهور التونسي، قد عادت منذ أمس بين ظهرانينا بعد رحلة دامت ثلاثة شهور زارت فيها المدن الكبيرة في الجزائر ومراكش كما زارت باريس. وبهذه المناسبة وزعت علينا شركة هافاس الخبر التالي: «أقامت الممثلة المصرية المدموازيل فاطمة رشدي مساء أمس في قاعة الأعياد الكبرى في إدارة جريدة «بتي جورنال» حفلة استعرضت فيها بعض أغانيها ورقصاتها ومواقف تمثيلية أمام جمهور غفير من المتفرجين. ومدموازيل فاطمة تعرف كيف تلعب بعواطف المتفرجين وكيف تنتقل بهم من الألم إلى اللذة إلى السرور وكيف تسحرهم بتمثيلها وأغانيها المختلفة. وقد حازت الفنانة نجاحاً كبيراً في مشهد «موت كليوباترا» الذي ختمت به الحفلة. فقد مثلت هذا المشهد بحرارة فائقة وتأثر شديد وعبرت أصدق تعبير عن الآلام والأحقاد التي تنازعت صدر الملكة الشابة بين غرامها بمارك أنطوني وحقدها على روما. ونزل الستار بين التصفيق الحاد الذي استمر طويلاً والذي برهن للممثلة المصرية النابغة أن جمهور المتفرجين قد تذوق فنها العالي وقدره كل التقدير. وقد رأينا بين الحاضرين صاحب المعالي محمود فخري باشا وزير مصر المفوض في باريس وسي قدور بن غبريط مدير تشريفات سلطان مراكش، وكذلك عدداً كبيراً من الشخصيات الباريسية والتونسية والمراكشية والسورية والمصرية المقيمة في باريس».
والعروض التي قدمتها فاطمة رشدي في ليبيا أولاً ثم في تونس ثم الجزائر والمغرب وباريس، ما هي إلا عروض «المونودراما» التي لم يعرفها العرب حديثاً إلا على يد فاطمة رشدي؛ لأن هذه العروض تم عرضها في مصر – بعد ذلك - لعدة سنوات، بعد ظهورها لأول مرة في بلاد المغرب العربي! والطريف أن فاطمة رشدي ابتكرت هذا النوع المسرحي لأول مرة في المنطقة العربية، وعاشت وماتت دون أن تعلم أنها «رائدة» هذه العروض! وقد كتبت دراسة موسعة عن هذا الموضوع، ونشرته في مجلة «المسرح» المصرية عام 2021، تحت عنوان «فاطمة رشدي رائدة عروض المونودراما مصرياً وعربياً».
تونس الحضن الدافئ
بعد ثلاث عشرة سنة زارت فاطمة رشدي تونس مرة ثالثة وأخيرة، حيث كانت تونس الحضن الدافئ الذي احتضن فاطمة رشدي بعد الجحود والنكران الذي وجدته – للأسف الشديد - داخل وطنها!! ففي عام 1950 بدأ أفول نجم الفنانة الكبيرة فاطمة رشدي «سارة برنار الشرق»، حيث اختفت أخبارها، ومن حين لآخر نقرأ أنها تقوم بدور بسيط في مسرحية للطلاب، وفي عروض المسرح الجامعي، وعروض فرق الهواة! وظلت هكذا حوالي عامين، حتى نشرت مجلة «الفن» حواراً معها، باحت فيه بمشاعرها الصادقة ضد حالة النكران والجحود التي وجدتها في الساحة الفنية المصرية!! وهذا الحوار تأثر به كل من قرأه، فنشرت المجلة كلمة في أكتوبر 1951، عنوانها «حول حديث فاطمة رشدي»، قالت فيها: كتب إلينا الأستاذ «محمد المخزوف» مراسل الفن في تونس رسالة تفيض بالتقدير لفنانة الشرق المشهورة السيدة فاطمة رشدي، نذكر منها العبارة الآتية: «ليست الكارثة في جحود الوسط الفني لقيم عظمائه فقيمتهم ثابتة ونبوغهم خالد وأعمالهم لا زالت ماثلة في مخيلة الشعوب التي اتصلوا بها فلن تمحيها السنون. إنما الكارثة التي تبشر بانهيار معنوية كل وسط هي نكرانه وجحوده لعظمائه». وهو يدعو الفنانة الكبيرة إلى زيارة تونس!!
وبالفعل سافرت فاطمة رشدي إلى تونس، ومكثت فيها عدة أشهر، وعندما عادت علقت جريدة «المصري أفندي» بكلمة، قالت فيها: «بعد أن ضاقت مصر على سعتها بالفنانة فاطمة رشدي، تركت مصر! وبعد أن فشل الفن أن يستفيد بها وأن يظللها بأجنحته تركت مصر إلى تونس. وفي تونس كونت فاطمة رشدي فرقة مسرحية تشرف عليها حكومة تونس. وهناك استطاعت فاطمة أن تخدم الفن وأن ترفع لواءه وأن تظل في بلاطه خادمة مطيعة متفانية في خدمته. إن الفنان الذي يؤمن بفنه يعرف جيداً أن الفن لا وطن له».
وفي يونية 1952 نشرت مجلة «الكواكب» موضوعاً مطولاً عن زيارة فاطمة رشدي الأخيرة إلى تونس، حيث قامت بأمور كثيرة، وصرحت بأقوال أكثر، نقلتها المجلة قائلة: عادت السيدة فاطمة رشدي من رحلتها بتونس الخضراء بعد أن قضت هناك حوالي أربعة شهور. وهي تروي هنا طرائف عن رحلتها هذه، وتتحدث عن النهضة المسرحية في القطر الشقيق، قائلة: بيني وبين الشعب التونسي ودّ قديم، فقد زرتهم أول مرة في عام 1932، وزرتهم ثانياً في عام 1938، فلما نشبت الحرب العالمية اضطررت للعودة إلى مصر. ولقد لاحظت اختلافاً كبيراً بين تونس القديمة، وتونس الحديثة. ففي ظرف ثلاثة عشر عاماً، تقدمت تونس تقدماً عظيماً في مختلف الشئون والفنون. وفي تونس عدة جمعيات تمثيلية، أو فرق كما يسمونها هناك. وهذه الجمعيات تحظى بعناية الحكومة، حيث تمدها بالإعانات المالية التي تساعدها على تأدية رسالتها، ولذلك تتنافس الفرق منافسة حرة شريفة تعود على الفن بفوائد جمة.
وتستكمل فاطمة كلامها، قائلة: هذه الرحلة بدأت في شهر نوفمبر واستغرقت أربعة شهور بدعوة من السيد بشير المتهني، حيث تعاقد معي براتب شهري تدفعه بلدية تونس نظير تقديم أربع مسرحات، وهي: «شجرة الدر، محمد الفاتح، جيزموندا، ناهد». وعلى ذكر «ناهد» .. أقول إنها هي رواية «غادة الكاميليا» كما وضعها الأستاذ الشاعر أحمد رامي، بعد أن أبدل حوارها من اللغة العربية إلى اللهجة التونسية المحلية. ولم أنس كمخرجة، أن أضيف إليها عنصر الغناء والموسيقى والألحان البديعة التي قام بأدائها على أكمل وجه المطرب المصري «سيد شطا»، الذي ترك مصر ونزح إلى تونس بعد أن حاول مراراً البقاء في مصر ليكسب فيها عيشه، ولكن لم يحالفه التوفيق. وقد ساهم بنجاح كبير في تقديم مسرحية «ناهد» أو «غادة الكاميليا التونسية». وقد اشتد الإقبال على هذه الرواية ولم تتأخر تونسية واحدة عن مشاهدتها.
وعن الممثلين التونسيين، قالت: وفي تونس ممثلون أكفاء، يحبون فن التمثيل منذ زمن بعيد، إلا أنهم لا يكرسون حياتهم من أجله، بل يجمعون بين أعمالهم الأخرى وبين فن التمثيل، ولو أن نخبة منهم كرسوا حياتهم من أجل هذا الفن المقدس، وألفوا فرقة مسرحية تونسية تجوب الأقطار العربية وغير العربية، لكانت مثل هذه الفرقة خير سفير ودعاية لبلادهم، وقد أشرت على المسئولين هناك بذلك. وتضم «جمعية تونس المسرحية» ممثلين أكفاء أخص بالذكر منهم «منجي سلامة»، و«أحمد التريكي»، و«بشير رحال»، و«حمدة التيجاني» وغيرهم.
وعندما تحدثت فاطمة عن اللهجة العامية، قال: ومن العجيب أن الشعب التونسي، يحب اللغة الدارجة – العامية – التي نستعملها نحن المصريين في حوارنا وكلامنا العادي، ويفهمونها بسهولة كبيرة. ولذلك يقبلون على الأفلام المصرية إقبالاً عظيماً. ويظن الكثيرون، أن التونسيين على العكس من ذلك، وأنهم يحبون اللغة الفصحى، وهذا غير صحيح!!
وعندما تحدثت عن عروضها المسرحية، قالت: يروعك في تونس مسارحها الفخمة التي تضارع دار الأوبرا عندنا. هي مسارح حديثة عظيمة، كأنها مسارح باريس بجمالها وفخامتها. وجميع المسارح هناك صوتية، بمعنى أن الممثلة وهي في حجرتها الخاصة تسمع كل ما يدور على خشبة المسرح من حوادث وحوار. حتى إذا ما أتت اللحظة المناسبة، قامت من فورها، دون أن يرشدها أحد، لتستعد للظهور على خشبة المسرح في الوقت المناسب. هذا فضلاً عن الإضاءة الفنية الحديثة التي تزيد من روعة التمثيل وجلاله، وأيضاً فخامة المقاعد ونظام القاعة. ويعد مسرح البلدية من أفخم مسارح المدينة، وقد افتتحت فيه حفلاتي التمثيلية بمسرحية «شجرة الدر» للشاعر الكبير سعادة عزيز أباظة باشا.
كما تحدثت عن الممثلات التونسيات، فقالت: وفي تونس ممثلات بارعات، ولكنهن قليلات العدد، ذلك لأن الكثيرين من أهالي تونس، يتمسكون بالتقاليد إلى حد بعيد ولا يشجعون الاختلاط والسفور. ويتجهون دائماً نحو المُثل العليا في حدود العادات الموروثة. وقد تعاون معي من فنانات تونس المطربة الفنانة السيدة «فتحية خيري»، والممثلتان الكبيرتان «وسيلة صبري»، و«عزيزة» اللتان تقبلان على فنهما بهمة ونشاط.
وهناك أسماء تونسية تركت أثراً طيباً في نفس فاطمة رشدي، فأشارت إليها، قائلة: ومن الشخصيات التي لا أنساها في تونس السيد «الشاذلي القسطلي» مدير البلدية هناك، وإليه يرجع الفضل في النهضة المسرحية بتونس، بما يسبغه على الجمعيات التمثيلية من إعانات وتسهيلات. وأيضاً السيد «بشير المتهني»، وهو دعامة من دعائم المسرح التونسي. ومن الشخصيات التي عاونتني في مهمتي شاب اسمه «العربي»، ومهمته إدارة المسرح، وكنت أتوجس منه خيفة في بادئ الأمر لهدوئه وسكونه، ولكن سرعان ما أثبت لي أنه مدير من الدرجة الأولى. أما الملقن «أبو فضيلة»، فهو ملقن ممتاز.
واختتمت فاطمة موضوعها بالحديث عن الصحافة، قائلة: لقد قامت الصحافة التونسية بواجبها خير قيام، فقد كان في استقبالي في مطار تونس مندوبو الصحف، الذين تسابقوا في نشر الأحاديث في شتى صحفهم العربية والفرنسية لا سيما الشاب النابه «محمد بن علي»، وهو أديب يحب التمثيل ويراسل الصحف والمجلات في مصر. ولقد كتبت جريدة «تونس فرانس» الفرنسية مقالاً عني جاء فيه: «قلما يمر عام دون أن تفاجئنا بلدية تونس بمجهوداتها في سبيل إعلاء شأن المسرح التونسي، فقد استدعت بين ظهرانينا الممثلة الكبيرة السيدة فاطمة رشدي، وهي بحق سارة برنار بلاد النيل».


سيد علي إسماعيل