فرقة الشظية والاقتراب.. بين الفن والمصادرة

فرقة الشظية والاقتراب.. بين الفن والمصادرة

العدد 712 صدر بتاريخ 19أبريل2021

تأسست فرقة “الشظية والاقتراب” عام 1990 من مجموعة من الطلبة الهواة بجامعة القاهرة هم هاني المتناوي “ممثل ومدير الفرقة” و”محمد أبو السعود” المخرج و”إيهاب عبد اللطيف” مصور فيديو وفوتوغرافيا و”محمد فاروق” ممثل ومساعد المخرج الذين قدموا أثناء فترة الدراسة عرضين مسرحيين هما “دير جبل الطير، و”العميان” إلا أن هذه الفرقة لم تعلن عن نفسها بإطارها التنظيمي إلا في عام 1993 من خلال مهرجان المسرح الحر الثاني الذي أعادت فيه عرض “دير جبل الطير” الذي نال كثيرا من الإعجاب وحصل على جائزة أفضل عرض مما جعل د. هدى وصفي ترشحه للعرض على مسرح الهناجر لمدة أسبوعين.
وهو عرض دال على توجهات الفرقة التي تحمل رؤية خاصة للعرض المسرحي تحاول تنفيذها من خلال توليفات لأنوع مختلفة من الفنون لتقديم فرجة مسرحية ممتعة بالدرجة الأولى، تتماس مع قضايا الواقع وإن جاء طرحها لهذا الجانب في قالب أسطوري.
و”دير جبل الطير” عبارة عن دراسة ميدانية وتوثيقية قام بها المخرج محمد أبو السعود في أحد الأديرة القبطية بالمنيا مبنى على أحد الجبال مسمى بنفس الاسم، وقد اعتمد أبو السعود على جمع المادة أثناء الاحتفال الطقسي الذي يقام سنويا لذبح الطيور على قمة الجبل، هذا الطقس الذي يعتقد أهل المنطقة أنه من خلاله يفتح باب تحقيق الأمنيات، ومن خلال هذا الطقس الأسطوري تم تجميع عدة حكايات متنوعة مرتبطة به مثل حكاية العشق المحرم الذي مارسه رجل وامرأة في هذا المكان فتحولا إلى حجر بعد أن حلت عليهما اللعنة، وقد حولت الرؤية الإخراجية هذا المشهد إلى مشهد ظل سيلويت حيث الفتى والفتاة خلف ستار أبيض يقومان بحركات موحية بأنهما يمارسان العشق وقد اعتمد أبو السعود على حيلة فنية ذكية وهي تضخيم الأبعاد الحقيقية للجسد دون أي تلامس، إلا أن لجنة التحكيم قد رأت أن هذا المشهد فاضح بدعوى إثارة الغرائز هذا من ناحية، رغم أن المخرج حاول تفادي تلك النظرة من خلال استخدامه للظل المجسم.
ومن ناحية أخرى رأت اللجنة أن العرض يساءل المقدسات المتمثلة في أحد الطقوس الخاصة بدير قبطي، وبالفعل تم استبعاد العرض من المشاركة في تمثيل كلية الآداب في مهرجان المسرح بجامعة القاهرة ليحل محله عرض مسرحي آخر.
أهل الكهف
في عام 1995 قدمت الفرقة عرض “بريسكا” وهي عبارة عن بروفة لإعادة الكتابة الكلاسيكية لمسرحية “أهل الكهف” لتوفيق الحكيم بشكل مرتجل مضفرة بنص شعري للشاعر أحمد يماني عنوانه “يوتوبيا المقابر” ونص آخر للشاعر ماهر صبري هو “أحلم أني المسيح” وقصيدة “الكنيسة الباردة” للشاعر محمد متولي كما استند العرض إلى العديد من اللوحات الفنية لأشهر فناني عصر النهضة التي تم استخدامها عبر شاشة السينما لإثراء المشاهد المسرحي وتشكيل الفعل الحركي لأجساد الممثلين، في إطار حبكة درامية تتداخل فيها الأبعاد الزمنية عبر مشاهد متتالية تقوم على الإبهار البصري، من خلال عدة وحدات متداخلة نفذها المخرج باقتدار منها: إشغال الفضاء المسرحي بجسد الممثل ليعبر بالإيماء عن اضطهاد المسيحيين، صاحب ذلك وضع عمود كنائسي للتعبير عن المكان المسرحي، وتم تركيب كافة حركات اليمائية الدموية على فكرة الصليب الملون بالأحمر.
كذلك يظهر ـ جليا ـ في هذا العرض الاقتباس من الأسفار الإنجيلية وإن جاءت مجسدة في إطار من الخطاب الحسي الذي يظهر أفعال الاضطهاد التي مورست ضد “بريسكا” ككائن درامي يطل بدلالاته على تناقضات الواقع الآني.
وقد أجاد فيها الممثلون “حلمي مرسي” الذي “قام بدور “الصديق وهاني المتناوي “العاشق” ومصطفى بيومي “الأب” ومحمد النجدي “الراعي” وسحر حسين “بريسكا” وماهر صبري “الابن” وهايدي عبد الغني.
وقد تعرض هذا العرض ـ أيضا ـ لسيف الرقابة فقد تم تجهيزه للمشاركة في مهرجان القاهرة للمسرح التجريبي لكن اللجنة المنوطة باختيار العروض المصرية المشاركة ـ “وهي لجنة الرقابة على المصنفات الفنية” كادت أن تمنعه من الخروج إلى النور فقد رأت ضرورة حذف وتعديل النص المعد للعرض خاصة في المشاهد المتضمنة للنصوص الشعرية الحديثة وقد تغلبت الفرقة على هذا الإجراء المتعسف بأن فتحت باب المسرح للجمهور لمشاهدة العرض كاملا في أثناء قيامها بالبروفات النهائية، مع التزامها بتقديم نسخة من النص المعدل  إلى لجنة الاختيار، وقد ضربت بذلك عصفورين بحجر كما يقول المثل.
ثم جاءت اللجنة العليا لاختيار العروض للمسابقة ـ التي لم تكن أقل حدة في مآخذها على نص “بريسكا” خاصة اعتراض بعض أعضائها على عدة جمل مبتورة في سياق النص الشعري داخل المسرحية مثل عبارة “أحلم أني المسيح” التي رددها الممثل ماهر صبري وهي نفس عنوان قصيدته التي دخلت في سياق النص الأصلي، كما اعترضوا على حركات الممثلين الذين تقمصوا شخصيات الحواريين الذين يتقربون إلى الممثل، معتبرين ذلك إساءات للمقدسات بل أكثر من ذلك قال احد أعضاء اللجنة أن الممثلين أشبه بالمثليين محتجا بطريقة أدائه وإلقائه للحوار وأن إشاراته وحركاته ـ في حد ذاتها ـ إشارات جنسية مثلية.
وكان من نتيجة ذلك أن عرضت “بريسكا” على هامش المسرح التجريبي وقد لاقت ترحيبا كبيرا من الجمهور والنقاد، كما فتح للفرقة مجالات أوسع خاصة من الناحية الإنتاجية فقد فتح لها مركز الهناجر للفنون برئاسة د. هدى وسفي ذارعيه فقدمت “بريكسا” لمدة 63 ليلة عرض وهي تجربة تعد الأولى بالنسبة لإحدى فرق المسرح الحر.
ومن طرائف هذا العرض أنه حين تم عرضه في مهرجان “أيام عمان” المسرحية في عام 1966 فوجئ الجمهور الأردني بلوحات الرسام العالمي “رودان” تدخل في سياق العرض المسرحي عن طريق الشرائح الملونة ومكبرة على خشبة المسرح وقد ضمت لوحات رودان صورا لرجال ونساء تستعرض حالات الجسم البشري، وقد تم استخدام هذه التقنية كبديل عن تقنية الظل التي أثارت جدلا كثيرا في عرض “دير جبل الطير” إلا أن الجمهور استقبل هذه التقنية باستغراب شديد واستنكار أشد مما لاقاه العرض السابق من لجنة التحكيم، فبرغم شهرة هذه اللوحات وذياع صيتها إلا أن توظيفها داخل العرض المسرحي أثار حفيظة المشاهدين الذين اعتبروها نوعًا من الخلاعة والفن الذي يدعو إلى الإباحية بل إن البعض وصف العرض بأنه فاسد أخلاقيا، وأوصله البعض الآخر إلى حد الزندقة.
وقد منع العرض في ليلته الثانية بحجة تعطيل آلة الكمبيوتر المسجل عليه خطة الإضاءة المسرحية، إلا أن بعض الجمهور الواعي أصر على استمرار العرض واحتشد أمام باب المسرح وبالفعل تم تقديمه متأخرا عن موعده الأصلي لأكثر من ساعتين.

بعد ذلك دخلت الفرقة مرحلة جديدة من خلال تقديم نصوص صعبة ومربكة مثل “الأيام الخوالي” تأليف هارولد بنتر 1966 وقد ترجمها إلى اللغة العامية المصرية الشاعر محمد متولي وقام ببطولتها خالد الصاوي وشيرين الأنصاري ومنال حسين، وقد استخدمت فيه تقنيات السينما والفيديو.
ثم جاء عرض “ساحرات سالم” لآرثر ميللر 1997 وقد قدمته الفرقة تحت عنوان “البوتقة ـ أو القدم اليسرى لليل” وهو نص اقترحته د. هدى صفي ليقدم على مسرح الهناجر، وقد جاء العرض مواكبا لتصاعد حركات الإرهاب الديني في مصر خاصة قضية مصادرة د. نصر حامد أبو زيد ودعوى التفرقة بينه وبين زوجته د. ابتهال يونس وقد أثرت هذه القضية ومثيلاتها على فضاء العرض المسرحي الذي كان يسعى لإبراز الجانب التنويري في المجتمع من خلال مضمون فكري يخاطب ويحاكم كل مفتشي الضمائر وكل من يستولي على سلطة عن طريق إرهاب الآخرين، لكن ـ ما هو الحال في معظم عروض الفرقة ـ فقد تم الترصد للعرض من خلال كلمة واحدة وردت على لسان بطله “جون بروكتور” وهي “إن الله قد مات” وهي عبارة قالها “بروكتور” عندما وصل إلى ذروة يأسه من أهل قريته الذين تحولوا إلى إما كذابين أو منافقين، فقال لهم “إن الله قد مات في ضمائركم” وقد ردد هذه العبارة في الفيلم الأمريكي “البوتقة” المأخوذ عن نفس القصة الممثل القدير “دانييل دي لويس” وقد حاول الفنان خالد الصاوي الذي قام بنفس الدور في العرض أن يخرج من هذه الإشكالية بأن ردد العبارة كما جاءت في النص الأصلي وهي “إن الله قد مات في ضمائركم” حتى لا يتعرض العرض للمصادرة الذاتية أو الخارجية، لكن رغم ذلك توقف العرض الذي استمرت بروفاته أكثر من ثمانية أشهر، وكالعادة استخدمت الفرقة حيلها الذكية في محاولة لإيصال رسالتها ـ فجعلت من البروفات “الجنرال” النهائية مفتوحة أمام الجمهور.
وتعد “ساحرات سالم” من الأعمال النادرة التي استخدم فيها شكل خشبة مسرح الهناجر بشكل المعتاد من خلال صالتيها الرئيسيتين ولم يفعل ذلك طوال تاريخ المسرح المصري سوى المخرج الراحل كرم مطاوع في مسرحيته الشهيرة “ديوان البقر”. وقد شارك في بطولتها خالد الصاوي ونيرمين زعزع وخالد صالح ونورا أمين ومعتزة عبد الصبور وهاني المتناوي.

ثم جاء عرض “لير” تأليف الكاتب الإنجليزي المعاصر إدوارد بوند ترجمة د: محسن مصيلحي ـ وهي مسرحية كتبها بوند عام 1971 لتناقش قضية تداول السلطة من خلال وعي تاريخي باللحظة، وتدور المسرحية.. التي تتماس مع النص الشكسبيري الخالد “لير” في وجود ملك معاصر اسمه لير له ابنتان جاحدتان هما “أبو رسيل” و”فولتانيل” ـ حول السلطة وكيف يتحول الحاكم مع الوقت إلى ديكتاتور يتحكم في حياة الناس وحرياتهم حتى يظهر ثائر جديد يقوم بإسقاطه، لكنه يتحول مع الوقت إلى ديكتاتور وهكذا، وقد بنى لير حول المدينة سورا كبيرا بحيث يصبح الشعب وكأنه في سجن كبير لكن ابنتيه تتآمران عليه، وقد لعبت دور الابنة بوريس “معتزة صلاح عبدالصبور” ولعبت دور فولتانيل الفنانة المغربية الإذاعية “هدى الإدريسي” وتتمكن الابنتان من الاستيلاء على الحكم بمساعدة زوجيهما لكن الصراع بين الحاكمتين الجديدتين والشعب لا يتوقف فقد استمرتا في بناء الحائط، بل إن بوريس تنقلب على شقيقتها فولتانيل وتتمكن من قتلها لتنفرد بالسلطة.
ونتيجة للقهر السلطوي الذي مورس ضد الشعب يتجمع الثوار وعلى رأسهم كورديليا زوجة أحد الضحايا ليقوموا بعملية تطهير قتلوا خلالها ابنة لير التي اغتصبت السلطة من والدها ثم من شقيقتها، وقد تميز في هذا العرض الفنان خالد صالح والذي قام بدور الملك لير وكذلك معتزة صلاح عبد الصبور وحمادة شوشة وأحمد حسين وسامي عزيز وأحد عبدالله وهاني المتناوي الذي برع في تقديم دورين متنوعين.
وفي هذا العام قدمت الفرقة عرض “بيت برنارد ألبا” المأخوذ عن نص للشاعر الأسباني لوركا بنفس الاسم وقد تم عرضه على خشبة مسرح المركز الثقافي الروسي لليلة واحدة في إطار مهرجان مسرح الشباب المستقل.
وفي عام 2000 وعلى مسرح الهناجر قدم عرض “جاك وسيده” عن نص للروائي العالمي ميلان كونديرا ترجمة الشاعر محمد متولي، وهو نص صعب من ناحية التركيب الفني، فهو عبارة عن حوار بين قرنين من الزمان هما القرن الثامن عشر والقرن العشرين وقد قام بدور الخادم محمد فاروق وسيده الذي قام بدوره هاني المتناوي.
وتميز العرض بجرأة موضوعية وبالمعالجة الكوميدية لقضايا الإنسان المصيرية من خلال العلاقة بين السيد والخادم أو الرئيس والمرؤوس اللذين تجمعهما المصادفات لكي يتعايشا سويا وتندلع بينهما الصراعات الخفية التي تتجاوز إطار العلاقات الاجتماعية التي تربطهما من خلال إطار كوميدي ساخر يعتمد على عنصر المفارقة سواء في الجملة المسرحية أو الأداء الحركي.
ثم كانت درة الفرقة عرض “فيدرا” عام 2001 هو عبارة عن صياغة مصرية لأسطورية “فيدرا” قام بها محمد أبو السعود وأخرجها هاني المتناوي وهي على حد تعبير الناقدة د. نهاد صليحة تختلف عن فيدرا هيبوليت وفيدرا سينكا وكوري وراسين، وإن كانت جميعها تتفق في حالة القهر والمعاناة حيث النظام الأبوي الديكتاتوري والحرية غير المنطلقة التي تمثلها فديرا ولكن أبو السعود لا يحل هذه العقد، ولا يحلها الممثلون، لكنهم يحاولون طرح أزمة جيل كامل من خلال رؤية خاصة تتجاوز النص الأصلي للأسطورة، من خلال اللجوء إلى وصف أدق التفاصيل الماضوية من خلال الإسقاطات الواقعية مع الاعتماد على لغة شعرية وقد قام بدور فيدرا باقتدار الروائية والفنانة نورا أمين.


عيد عبد الحليم