مكان الأداء.. والمؤثرات المسرحية (1)

 مكان الأداء..  والمؤثرات المسرحية (1)

العدد 698 صدر بتاريخ 11يناير2021

 تقدم لنا أدبيات التنظير المسرحي خطين فكريين رئيسين للمكان المسرحي Theatrical Space . وهذان الخطان مستمدان من التحليلات السيميوطيقية والفينومينولوجيا للأداء المسرحي . ويتحفز كلا المنهجان جزئيا من الحقيقة الواضحة بأنه توجد مؤثرات مسرحية مرتبطة بأشياء مثل مساحة مكان الأداء والأوضاع بين المؤدين، والأوضاع بين المؤدين والمتلقين وتغيراتها . ويسعي كل منهج منهما أن يفسر المؤثرات المستهدفة في إطار الخلفية النظرية التي يقدمها كل منهما لقائمة البحث . إذ يبدو أن كلاهما يواجه صعوبات لا يمكن تذليلها .
فالمناهج الفينومينولوجية تنطلق فعلا من حقيقة أن كثيرا من المؤثرات المتعددة للمسرح هي مؤثرات ما دون الوعي التي تقّدم ويتم تلقيها، إن جاز التعبير، تحت عتبة انتباه المتلقي الواعي . ولكن هذه المناهج ترتبط أيضا بدعوى أن المشاهدين لا يمارسون تجربة الإيهام في المكان في المسرح، ولكنهم أيضا يدخلون إلى الإيهام بالمكان، المكان المختلف عن المكان المادي للمسرح . كما أنه لا يبدو واضحا لنا كيف يدخل المشاهدون إلى هذا الإيهام ، تسليما بأنهم يعرفون أنهم يحضرون أداء مسرحيا .
ولا يرفض المنهج السيميوطيقي، فعلا، الادعاء بأن تجربة المسرح هي تجربة إيهام، بل انه يفعل ذلك من خلال ارتباطه بزعم أن كل شيء يظهر في المكان المسرحي، والمكان المسرحي نفسه أيضا، هو شيء مهم وله معنى . ولكن الأمر ليس كذلك بوضوح . لدرجة أن إيجاد صيغ لتركيز انتباه المتلقي هو أمر مركزي في مهنة المؤدي، إذ أن الأشياء التي تظهر علي خشبة المسرح لا تكون فقط بلا معني، بل يمكن أن يكون ذلك كارثة مسرحية لو كانت بلا معنى . وتسليما بالعدد الهائل للأشياء التي يمكن أن يركز عليها المتلقي في أي مدى زمني محدد، فلابد من إزالة بعض الأشياء أو إخفائها عن تركيز المتلقي، وأن تكتسب اللا معنى بالضرورة من أجل أن يجد المتلقي معني لما يفعله المؤدي . علاوة علي ذلك، هناك العروض المسرحية التي تحضر فيها الأشياء بوضوح وتتركز أمام المتلقي وهي تقاوم التحليل السيميوطيقي . ولكن الأهم أن المدافعين عن المنهج السيميوطيقي كانوا علي صواب عندما أصروا أن هناك مؤثرات (ومن بينها العديد من المؤثرات المكانية) التي تثير ردود الأفعال بين المتلقين والتي يتم تلقيها تحت مستوى فهم المعنى .
وتُستمد المشكلة المشتركة بين المنهجين السيميوطيقي والفينومينولوجي من حقيقة أساسية أخرى عن المكان المسرحي نفسه، وهي تحديدا المشكلة التي تحدد ما هو حاضر كحدث في الأماكن المادية للمسارح . ويجب بذل بعض الجهد لتحليل العلاقات بين هذه الحقيقة والمؤثرات المسرحية المستهدفة التي تهمنا .
أولا : اتجاه جديد .
سوف نرسم في اتجاه جديد هذه المسائل وما يتعلق بها . وسوف أدافع عن سلسلة من المزاعم التي يمكن أن يتضح أن كلا منها مقبول ظاهريا في ذاته، ولكن عند تناولهم معا سوف يشكلون بنية متماسكة تقدم بديلا جديدا للمنهجين السيميوطيقي والفينومينولوجي في هذا المجال . والحقيقة المهمة هي أن كل هذه المزاعم ترتبط بالحقيقة الأساسية التي تقول ان كل أداء مسرحي يقام فراغ مادي عادي، وان المشاهدين يفهمون دائما هذه الحقيقة عندما يحضرون لمشاهدة العروض المسرحية . وفي الجزء الأخير، سوف أبرهن أن هذه البنية المتماسكة تقدم فوائد إضافية لم تكن متاحة في النظريات الأخرى .
ولكي نيسر الشرح، سوف أشير غالبا إلى عدة أنواع توضيحية متخيلة للأداء المسرحي النموذجي . إذ سوف أستخدم مسرحية « هيدا جابلر” عندما أشير الي الأداء التقليدي الذي يستخدم نص ( هنريك ابسن ) . وسوف أستخدم عنوان عرض « جابلر من بعد Gabler at a Distance” للاشارة إلى أداء سردي بريختي يستخدم نفس النص . وسوف يكون « الطفل المحترق» هو عنوان أسلوب الأداء المنسوب إلى جروتوفسكي الذي يستخدم نفس نص (ابسن) أيضا، بشكل مخفف علي الأقل، والذي ربما تكون له بنية سردية، اعتمادا علي الاستخدام الذي وضع من أجله النص . وفي النهاية، سوف يكون “ الجمال التلقائي Spontaneous Beauty” هو عنوان الأداء السردي المتخيل الذي قدمته فرقة “ مابو ماينز Mabou Mines، باستخدام ثلاثة أو أربعة ممثلين، وأساليب استخدام دمية من نوع البونراكو، وبعض الموسيقيين .
وسوف أتبنى طوال الوقت فكرة « الاستيعاب الأساسي basic comprehension”، أو “الفهم الأساسي basic understanding” للأداء المسرحي . فعندما أتحدث عن الفهم أو الاستيعاب الأساسي، فإنني لا أعني الوصول إلى الفهم التام لمعنى الأداء، ولا أعني استيعاب ما كان يهدف إليه المؤدون، ولا أعني فهم ما هي الأساليب التي استخدموها، ومن أجل إحداث أي تأثير . ولا أعني امتلاك تقويم كامل لفنية الأداء . بل أعني فقط ما هو الأداء المسرحي وما هو الوقت الذي يستغرقه المتلقي الفرد لإظهار أنه قد فهم جوهر ما يُقدم له في الأداء المسرحي . علاوة علي ذلك، سوف أتبني الشروط التالية الملائمة لتحديد متى يستوعب المتلقي بشكل أساسي الأداء .
 “ يحصل المتلقي علي فهم أساسي للأداء المسرحي عندما يستطيع : أن يصف الموضوع الذي كان يقدم علي مدار الأداء إذا تفاعل ماديا مع ما يحدث في العرض بالشكل المماثل لما يحدث وبالشكل السليم إذا تبنى حالات مزاجية تستجيب لما يحدث في الأداء بشكل مماثل لما يحدث .
توضح هذه الصيغة الحد الأدنى لشروط النجاح في الحصول علي فهم للأداء المسرحي . بمعنى أن أي شخص يستطيع أن يحقق الشرط الأول، أو الشرطين الثاني والثالث يمكن أن يقال انه فهم ما شاهده، أو انه يفهم ما يشاهده جميع المشاهدين باستثناء من هم أقل ملاحظة .
ثانيا – الاستجابات المادية والمؤثرة للمشاهدين هي دليل غير منطقي علي الفهم :
علي الرغم من ارتباطها بالحد الأدنى، ربما يعتقد البعض أن شروط نجاح الفهم هي شروط غنية جدا فعلا . فمثلا، هب أن متلقيا، ولنسميه « جلين»، قد خرج من أداء كوميدي وهو يضحك بشدة، لدرجة أنه لم بستطع التحدث . وعندما سئل عن الأداء كان غير قادر علي وصف ما شاهده للتو . وهب أنه لم يستطع أن يلخص القصة، أو أن يصف أي شيء يمكن أن يوضح أنه قد فهم الأداء . وهب أن «جلين» هذا لم يجد الأداء مضحكا فحسب، بل انه يظل يضحك كلما تذكره .
والآن، افترض علاوة علي ذلك أننا اكتشفنا عندما تحدثنا مع «جلين» أنه شاهد أداء مسرحيا مختلفا في الأسبوع الماضي، وعلي الرغم ذلك استطاع أن يحكي القصة التي قدمت في الأداء، ويستطيع ذلك الآن، إذ لم يتأثر نهائيا بالأداء ومازال حتى الآن .
تتوافق الحالة الأولى مع النجاح في الشرطين الثاني والثالث المتعلقان بالاستيعاب المسرحي الأساسي . ولكن كما هي الحالة بوضوح والتي ربما يتردد فيها كثيرون منا أن يقولوا إن « جلين « قد فهم الأداء . وبالمقارنة، تقدم الحالة الثانية تحديا من جهة أخري لأن « جلين» يفشل في التفاعل بالطرق التي تتلاءم مع الشرطين الثاني والثالث . ومع ذلك، يمكن أن يوافق أغلبنا علي أن «جلين» لديه استيعاب أساسي للأداء الثاني .
تكمن المشكلة في هاتين الحالتين في قبولنا للعناصر غير المنطقية بين شروط نجاح الفهم الأساسي . لأن المفقود في الحالة الأولي وحاضر بوضوح في الحالة الثانية هو دليل منطقي علي الفهم . فالقدرة علي وصف ما ندققه هو طاقة إدراكية . إذ لا داعي أن تكون ردود أفعال المتلقي وتقلباته المزاجية إدراكية . وإذا لم تكن كذلك، فإننا نتساءل لماذا نلاحظهم علي أنهم دليل علي الفهم علي الإطلاق .
علاوة علي ذلك، هناك حكاية سببية لا بد أن أحكيها لكم عن الحالة الأولى، وهي تحديدا، أن ردود أفعال « جلين « وحالته المزاجية كانت مجرد علة . فلا حاجة لمحفزات الإدراك أو حتى لحقيقة أن هناك محفزات لردود الأفعال وتقلبات المزاج هذه حتى تنجم عنها . فبقدر ما لا يوجد الإدراك، ولا يوجد الفهم أيضا . وهذا يوحي بأنه من الخطأ أن نتناول ردود أفعال « جلين « وحالته المزاجية باعتبارهم دليل علي الاستيعاب، ولذلك، يجب أن تتخلى عن الشرطين الثاني والثالث تماما .
ولعل أحد أسباب مقاومة هذا الاقتراح هو أن المؤدين يعتمدون علي ملاحظة ردود الأفعال هذه بدقة لكي يقيسوا كيف يسير الأداء وما هي التغيرات الواجب إجراءها لقيادة الأداء في الاتجاه الصحيح . فان لم تكن ردود أفعال المتلقين وأحوالهم المزاجية هي علامات الاستيعاب، عندئذ فان المؤدين مخطئون بالتأكيد في محاولة قياس ردود الأفعال تلك من أجل هذا السبب . ولذلك، أود أن أؤكد أن ردود الأفعال المادية وتبني الحالات المزاجية المتجاوبة مع ما يحدث أثناء الأداء ربما هي الدليل الذي يعوّل عليه في الفهم الأساسي للأداء .
ويمكن أن يتضح السبب الآخر لاعتبار ردود الأفعال وتقلبات المزاج دليل علي الفهم الإدراكي للأداء في الحالة الافتراضية التالية .في مسرحية «هيدا جابلر” تنحني « ازمرالدا” في توقع في اللحظة التي تعبر فيها “ هيدا جابلر « الغرفة وتخرج الطبنجة من جرابها . فلا تستطيع « ازمرالدا « في هذه اللحظة أن تقول إنها ظنت أو خشيت أن تكون « هيدا” علي وشك أن تنتحر . فربما لم تكن واعية بسلوكها، وربما لا تستطيع أن تقول لماذا فعلت ذلك . فهل مازلنا نريد نعامل رد فعل « ازمرالدا” كدليل علي أنها علي وشك أن تفهم ما كاد أن يحدث .
أعتقد أننا نريد ذلك . ولذلك يجب أن نتحرك ضد بعض البديهيات القوية، إذا لم نعتبر ردود الأفعال وتقلبات المزاج إدراكية . وربما نتشبث بتلك البديهيات باستخدام آليات مؤقتة مغايرة . فإذا كان لدي المتلقي رد فعل مادي معين أو تقلب في المزاج، فمن الممكن أن يكون لديه أشياء أخرى، لكنه لم يعبر عنها . وتتوافق بعض ردود الأفعال غير المُدركة وتقلبات المزاج البديلة هذه مع ما يمكن أن يصفه هو، أو أي متلقي آخر مستوعب للأداء، لتقديم دليل منطقي علي الاستيعاب . ولكن ردود الأفعال الأخرى وتقلبات المزاج لا تتوافق مع هذا الوصف. ودعونا نوضح هذه الفكرة أكثر :
“رد فعل يتوافق مع الوصف» يعني أن رد الفعل هو رد فعل واحد بين ردود الأفعال التي يمكن تسجيلها في الوصف.
“رد فعل يتوافق مع رد فعل آخر « يعني أن كليهما داخل مجموعة من الاستجابات الملائمة لنفس الإدراك .
رد فعل المتلقي دليل علي الاستيعاب إذا لم يتفاعل المتلقي كما فعل من قبل، إذ كان من الممكن أن يتفاعل بطريقة معينة تتوافق مع رد فعله الحقيقي، إذا كانت مجموعة من الأفعال متوافقة مع الوصف الصحيح لما يقدم علي خشبة المسرح، سواء قُدم الوصف بواسطة المتلقي أم لا .
بهذه الطريقة نستطيع أيضا أن نقرر بالضبط متى لا يكون رد الفعل أو تقلب المزاج دليلا علي الفهم المسرحي الأساسي : سواء كان رد الفعل غير متوافق مع طرق رد الفعل المتوافقة مع الوصف الصحيح أو ينتمي إلى ذخيرة ردود الأفعال غير المتوافقة مع الوصف الصحيح .
يسمح لنا هذا التفسير للدور الذي تلعبه ردود الأفعال في فهم الأداء بأن نوضح لماذا كان رد فعل «ازميرالدا” تجاه سلوك “ هيدا « هو علامة لاستيعاب ما يوشك أن يحدث، لأن رد فعلها تجاه ما يحدث في هذه اللحظة يتوافق مع كل ردود الأفعال وتقلبات المزاج الأخرى المتوافقة مع أي وصف ل»هيدا” بأنها علي وشك الانتحار، سواء استطاعت “ ازمرالدا « أن تقدم هذا الوصف من عدمه . وتسمح لنا هذه الإستراتيجية أن نعيد شحذ ثقتنا بأن « جلين» عندما ضحك علي الأداء الكوميدي، كان فعلا يفهم الأداء،رغم أنه لم يستطع أن يحكي القصة التي شاهدها لأنه ضحك لأن أي رد فعل آخر عنده يمكن أن يكون متوافقا مع إدراك ما كان يضحك عليه رغم أنه لم يستطع أن يصف ما كان يضحكه .
ثالثا – يتلاقى انتباه المتلقين بشدة عند نفس الملامح التي يقدمها المؤدون لهم من بين عدة ملامح كثيرة :
لماذا يذكر المتلقون كثيرا نفس الملامح عندما يتحدثون مع بعضهم بعد الأداء المسرحي . ولتفسير هذا يجب أن نحل مسألتين، الأولي تتعلق بالممثلين، والثانية تتعلق بالمتلقين . ففيما يتعلق بالممثلين، يجب أن نعرف أن ما يوضح للمتلقي أن بعض ملامح المؤدين هي ملامح أو حقائق عن أحد الأشياء الموجودة في الأداء – مثل ملامح الشخصية – وأن الملامح الأخرى ليست كذلك . وهذا ليس أمرا عاديا . ففي كتاب تحليل النص المسلي علي نطاق واسع يلاحظ (ديفيد بول David Ball) أنه عادة ما توجد معلومات وفيرة عن الشخصيات في الروايات وعن الناس في الحياة العادية، أكثر مما توجد معلومات الشخصيات في النصوص المسرحية . أذ يقول « في الحقيقة، يمكنك أن تعرف المزيد عن هاملت بشكل أكبر مما يعرفه أي شخص آخر . ويذكرنا أن الشخصيات هم الحد الأدنى في النصوص، والتراكم الهيكلي للصفات المختارة ... لأن طبيعة أي شخصية مسرحية تتحدد بشكل كبير بواسطة الممثل أثناء أداء الدور . وهذا يعني أن العدد الأكبر من ملامح المؤدي سوف تكون هي أيضا سمات أو حقائق الشخصية في القصة التي يؤديها، فضلا عن أنها ملامح مشار إليها في النص الذي يقوم عليه الأداء المسرحي . ويلاحظ المتلقون كثيرا من ملامح المؤدي، ومن المفترض أن يفعلوا ذلك . ولذلك فان ملحوظة ( بول ) تضغط علينا لكي نكون كراما في تأمل ملامح المؤدي وكأنها ملامح الشخصية .
ولكن، لنتأمل سؤال « هل يملك هاملت عينين زرقاوتين ؟ « . بالتأكيد، كثير من الممثلين الذين لعبوا دور « هاملت» كانت عيونهم زرقاء، وآخرون ليسوا كذلك . وبالنسبة للذين لعبوا دور « هاملت»، هناك إجابة محددة، وهي هل عيونهم زرقاء ؟ . ولكن ان لم يصنع الأداء شيئا من السؤال ( أو حتى يصنع الأداء شيئا من السؤال) فيما يتعلق ب «هاملت»، لن يكون للسؤال عن لون عينيه إجابة محددة . وعندما تكون له إجابة محددة، تكون له إجابة مرتبطة بعرض أو أداء معين فقط . والفكرة هي أن عدد ملامح المؤدي المعين الذي يلعب دور « هاملت» أكبر بكثير من عدد الملامح التي تمكن المؤدي أن يتلاءم الوصف اللازم لأداء شخصية «هاملت» . فكثير من ملامح المؤدي تمر دون ملاحظة، ومن المفترض أن يكون الأمر كذلك . فهذه الاعتبارات تضيف علينا ضغطا حتى نكون حذرين في تأمل أي من ملامح المؤدين هي من سمات الشخصيات .
وتسليما بهذه الضغوط المضادة، يمكن أن نعتبر أن المشاهدين يواجهون صعوبة في التعرف علي أي من ملامح المؤدين يجب الاعتناء بها لكي يفهموا ملامح الشخصية . ولكنهم لا يفعلون ذلك . ولذلك فان المطلوب هو تفسير مبدئي لما يفعله المؤدون الأفراد لكي يفسر كيف تتم مثل هذه الأمور .
مشكلة المتلقين هي أن كل متلقي يأتي الى العرض المسرحي ببيئة وتاريخ مختلف، وربما يتشارك في بيئته مع متلقين آخرين، وربما يدركون جميعا أنهم في عرض مسرحي، ولكنهم لا يتشاركون في صور أخرى من خلفياتهم، حتى فيما يتعلق بخلفياتهم عن المسرح . فقد تختلف أنواع المسرح التي نشاهدها وتتميز تماما عن أنواع المسرح التي يشاهدها آخرون . فربما نشاهد عروض فرقة مسرحية معينة مألوفة لنا، بينما يشاهد آخرون هذه العروض للمرة الأولي . علاوة علي ذلك، هناك بعض صور لخلفية متلق ليس لها مثيل بين خلفيات المتلقين الآخرين . فمثلا، ربما يكون أحدهم قد قطع رحلة طويلة ومرهق ذهنيا، وربما كان آخر مشغول بحادثة انتحار زوجته الراحلة . ولذلك نعتقد أن تجربتهم مختلفة ولن يفهموا الأداء المسرحي بنفس الطريقة . ومع ذلك وفقا لمبدأ «الوحدة الإدراكية Cognitive uniformity” – إن كان هناك فهم حقيقي لأي منهم – فان ما يفهمه أحدهم يجب أن يكون مفهوما للآخرين أيضا .
إذن، تأمل شخصية في مسرحية تعاني عطشا شديدا، فأقترح أن : أن يفهم المتلقي (س)، عند تقديم الملمح(ع) من المؤدي(ص)، أن الشخصية (ن) يعاني عطشا شديدا صادق في هذه الحالة، لمتلقي ما هو (س) ومؤدي ما هو (ص) وشخصية ما هي (ن).
يستجيب (س) الي الملمح (ع) باعتباره ملمح بارز في ظل شروط المعرفة المشتركة بأن المتلقين يحضرون عرضا مسرحيا، بسبب الحقيقـة أو مجموعـة الحقائق التي يمكـن أن تقودنـا إلى استنتاج أن الشخصية تعاني عطشا شديدا، وأنـه سوف يكـون مدركا باعتباره غير متوافق مع بدائل أن (ن) لديه عطش شديد .
 يستنتج (س) أن (ن) لديه عطش شديد .
 يبرز الملمح (ع) البارز أن (ن) لديه عطش شديد .
اعتمد تفسير ظهور الملامح علي فكرة الظهور المستخدمة في لعبة التحليلات النظرية للاختيار المنطقي في مشكلات التناغم . وفي هذه التحليلات يقال ان الملامح التي تظهر من الآخرين عندما يكون هناك منبه أو مثير ليست مقصورة علي الملمح أو المشكلة نفسها التي تجعل الملمح يظهر . وبدلا من ذلك يتحدد المنبه من خلال عنصره السياقية .
افترض مثلا أن شخصين يتحدثان عبر الهاتف ثم يتوقفان فجأة، ولا يستطيعان أن يتواصلا معا رغم أن كلاهما يرغبان أن يستمرا في المحادثة . علاوة علي أن كل منهما يعرف أن رغبة الآخر هي نفس رغبته . فكيف يمكنهما أن يستعيدا الاتصال ؟ . مع العلم بأن كل منهما لديه خيار الاتصال أو الانتظار . ولكي ينجحا في استعادة الاتصال، يجب أن ينتظر أحدهما ويجب أن يتصل الثاني، ولكن لا توجد ملامح لموفقهما يمكن أن يدل أن أحدا منهما هو الذي يجب أن يتصل وأن الآخر يجب أن ينتظر .
في مواقف المرة الواحدة مثل انحراف لعبة التليفون عند ( ديفيد لويس David Lewis) حيث يتم لعب اللعبة لمرة واحدة، إذ لن يدفعهما شيء سواء من الناس الذين يعرفون الموقف أو من كل منهما في اتجاه اختيار الإستراتيجية التي يستخدمها. فإذا كان يعرف كل منهما الآخر بشكل حميم، فربما كانا يعرفان كيف يفكر الآخر . لكنهما لا يعرفان . لذلك لا يوجد حل .
لقد لاحظ (لويس) أن الناس يحلون العديد من مشاكل التناغم في الحياة اليومية، ولذلك، يجب أن تكون هناك بعض الملامح التي تظهر للمشاركين في بعض المواقف يحددون بفضلها اختياراتهم . ولاحظ أيضا أن ما يجعل هذه الملامح تظهر هو أمر خارج نطاق مشكلة التناغم نفسها . ولتوضيح هذا، سنقوم بتغيير لعبة التليفون كالتالي : يعرف الشخص الأول أن الشخص الثاني لديه تليفون أبيض، ويعرف الثاني أن الأول لديه تليفون أسود . إذن، هذان الشخصان من لاعبي الشطرنج، وكل منهما يعرف ذلك عن الآخر، لأن الأبيض هو الذي يبدأ أولا في الشطرنج . فيستنتج الأول أنه يجب أن ينتظر مكالمة الثاني، ويستنتج أن يفكر الثاني بنفس الطريقة .
 لاحظ أن الميل لملاحظة أن الملمح بارز يمكن اعتباره غير منطقي عندما لا يوجد سبب مرتبط بما يجري تنسيقه، لتفضيل اختيار أحدهما علي الآخر . ولذلك يظهر الملمح للفرد نتيجة لميول غير منطقية لملاحظة بعض الملامح ولاختيار الاستراتيجيات لأن تلك الملامح حاضرة . ولكن هذا لا يعني ألا يقدم أحد أي استنتاج . بالطبع عند اكتشاف ملمح بارز يخمن كل طرف الملمح الذي سوف يستجيب له الآخرون، ويصلون إلى استنتاج مفاده أن نفس الملمح سوف يظهر للآخرين، وأنهم أيضا سوف يستنتجون مثله، ومن ثم يصلون استنتاج فيما يتعلق بكيفية التصرف .
في مثل هذه المواقف، المشار إليها باعتبارها « مشكلات التناغم المعيارية Standard coordination problems “، يجري تحليل الناس باعتبارهم “لاعبين” منغمسين في تحديد مسارات الفعل الذي سوف يحظي “باللعب الأمثل” . فهناك تناظر بين اللاعبين، فيما يتعلق بما يحاولا أن يفعلاه – وهو تحديدا نفس الشيء – وفيما يتعلق بما يعلمه كل منهما عن الآخر . ولذلك، تختلف بعض صور التناغم المعياري عن مواقف المتلقين في علاقتهم بالأداء . وفي هذا الصدد، سوف أتبع (روبرت سودين Robert Sugden) الذي عدل هذا النموذج للاستخدام في تحليل مواقف الاكتشاف . ونتيجة لذلك، لن استخدم مصطلح “لاعبين” وأعتبر أن المرتبطين بذلك يسعون إلى عوائد معينة . وأقترح، بدلا من ذلك، أن نعتبر المؤدين “متعلمين” يسعون إلى اكتساب قدرة علي وصف الشيء الذي يتطور في الأداء .
يشبه موقف المتلقين في الأداء المسرحي موقف اللاعبين في مشكلات التناغم المعياري في معظم النواحي الأخرى .
 تظهر ملامح المؤدي للمتلقي كحقيقة أو مجموعة من الحقائق عندما يستطيع المتلـقي- المتعلـم، في ظل الاحتياج المشترك الملائم، أن يلاحظ تلك الملامح باعتبارها متسقة مع ســلوك المؤدي وعندما يستنتج المتلقي- المتعلم (أ) أن حقيقــة ما أو مجمــوعة من الحقــائق – تنتــج، (ب) أنه مهما تظهـر تلك الملامح في نفس السياق،عندئذ تنتج نفس مجموعة العلامات وأن (ج) كل متعلم – متلقي آخر سوف يستنتج كل من (أ،ب) وكما هو الحال في مشكلات التناغم المعياري، يحدد الموقفان (أ،ب ) أن الملامح تظهر إذا اعتقد أنها تدفع الاستجابات إذا كانت هذه الملامح منعكسة . ويحدد الموقف الثالث أن الملمح يبرز إذا ظهر باعتباره قابل للعرض للجمهور .
.................................................................................
• نشرت هذه المقالة مجلة Journal of Dramatic Theory and Criticism –spring 2007- pages 21-47
• لقد سبق أن قدمت مسرحنا العديد من الدراسات للأستاذ جيمس هاملتون في أعدادها السابقة .. وسبق التعريف لنا به عدة مرات .


ترجمة أحمد عبد الفتاح