«البخيل» .. حين يقدم بفكر الشباب

«البخيل» ..  حين يقدم بفكر الشباب

العدد 697 صدر بتاريخ 4يناير2021

 لماذا يُقبل الفنانون على تقديم نصوص مسرحية تراثية بينما توجد مئات بل آلاف النصوص الجديدة؟ من المؤكد أن وراء ذلك سببًا هامًا وهو من وجهة نظري ليس لأن هذه النصوص ثرية من حيث القضايا والموضوعات التي تتناولها فحسب، وإنما لأن هذه النصوص كتبت ببراعة شديدة جدًا تجعلها تتناسب مع كل زمان ومكان بل أنها صُنعت بحرفية عالية من حيث الحبكة الدرامية وبناء الشخصيات ورسمها بعناية شديدة وتصاعد الأحداث واعتقد أن هذه النصوص استغرقت وقتًا طويلاً في إعدادها، من هذه النصوص “البخيل” وهو من أهم أعمال موليير وأكثرهم شهرة وقد كتبه عام 1668 وأعيد تقديمه على كل مسارح العالم العربية والغربية، ومازلنا نتتناوله حتى الآن.
 لكن هذه المرة تم تناوله بشكل مختلف تمامًا، حيث يقدم على خشبة مسرح أوبرا ملك إنتاج مسرح الشباب بقيادة الفنان عادل حسان، حيث يقدمه المخرج خالد حسونة برؤية جديدة تتناسب مع مسرح وفكر الشباب فهي المرة الأولى على ما اعتقد أن يتم تقديمه باللهجة العامية وهو الإنجاز الذي حققه المخرج بالإضافة إلى تقديمه في إطار غنائي استعراضي واعتماده على مجموعة من خيرة شباب المسرح الذي ربما يكونوا أقل شهرة من غيرهم، وعلى الرغم من ذلك فقد نجح المخرج في تقديم عرض مسرحي ناجح بكل المقاييس محافظًا على روح النص وفكرته الأساسية التي تدور أحداثه حول حياة البرجوازى الغنى “هاربجون” الذى يتصف بالبخل الشديد على أسرته التى عانت منه، فحبه الشديد للمال يجعله يرفض حق ابنه وابنته في اختيار شركائهما فى الحياة ويسعى لتزويجهما من أغنياء حتى وإن كانوا يكبرهما سنا، وتدور الأحداث في منزل هاربجون، حيث يعيش مع ابنه “كليانت” وابنته “إليز”، ويعيش معهم أيضا الشاب “فالير” الذي يحب “إليز” واضطر إلى تمثيل دور خادم ليعيش في البيت قريبا منها، على أمل أن يكتسب ثقة والدها البخيل ويتمكن من الزواج منها، أما “كليانت” فإنه يقع في حب “ماريان” وهي فتاة فقيرة وقد قرر أن يتزوجها، ولذلك فهو على خلاف دائم مع أبيه الذي يرفض إعطائه ميراث والدته ويقتر عليه بالمال. ومن المفارقات أن الأب يعجب بماريان بمجرد مشاهدتها ويوسّط الخاطبة فروزين للحصول على موافقتها بالزواج منه، وفي الوقت نفسه الذي يريد لابنته أن تتزوج بالكهل “إنسلم”، لأنه ثري ويمكن أن يرتبط بها من دون أن يكلفه شيئا، كما يريد لابنه أن يتزوج بأرملة ثرية اختارها له، وحينما يعلم الشبان خطط الأب يرفضون الإستسلام له، ويحاول كل منهم الدفاع عن حبه بطريقته، ويكتشف الأب علاقة ابنه “كليانت” بماريان، ثم اكتشافه لسرقة صندوق أمواله واتهامه لوصيفه المزيف فالير بالسرقة، ثم يكتشف حقيقة “فالير”، فتثور ثائرته ويستدعي القضاء ويبدأ بتوزيع اتهاماته إلى أن يصل الكهل “إنسلم” الذي يكتشف أنه في حقيقة الأمر والد كلا من “فالير” و”ماريان”. وقد تفرقت الأسرة بسبب حادث غرق السفينة، فكل منهم يعتقد وفاة باقي أفراد الأسرة. وبالتالي فقد أصبحت “ماريان” أخيرًا وريثة ثرية، وصار من السهل على “هاربجون” القبول بها زوجة لإبنه كليانت، وكذلك الحال بالنسبة إلى “فالير” وابنته “إليز”، كما يزداد هدوء “هاربجون” حين يعيد إليه “لافلاش” صندوق المال، وهكذا تنتهي هذه المسرحية وقد عانق كل واحد حبيبه، بينما يعانق “هاربجون” صندوق أمواله حبه وعشقه الوحيد.
    اعتمد الخرج على كوميديا الموقف التي اتسم بها النص الأصلي منها اكتشاف كليانت أن الشخص المرابى الاستغلالى الذى سيقترض منه هو أبوه واكتشاف هاربجون أن ابنه هو من يسعى للاقتراض منه عن طريق وسيط بينهما لم يكن يعرف صلة القرابة بينهما، كذلك المشاهد التى تنشأ من سوء الفهم وقد أحسن صياغتها فلا يسع المشاهد وهو يراها إلا أن ينفجر بالضحك كالموقف الذى يتهم فيه هاربجون فالير بأنه سرق صندوق نقوده فى حين يظن فالير أن كلام هاربجون يعنى به حبه ابنته دون علمه حتى يتضح الموقف بعد ملابسات مثيرة جدا للضحك.
    واعتماده أيضًا على رسم الشخصيات بشكل كاريكاتوري كما في النص الأصلي، خاصة شخصية هاربجون التي جسدها ببراعة شديدة الفنان أشرف طلبة كذلك شخصية فروزين الخاطبة التي جسدتها سوزان مدحت وهي من أكثر الممثلات إثارة للفت الإنتباه فقد جسدت الشخصية بمهارة عالية جدًا من دون افتعال، والمحقق الذي جسد شخصيته محمد متولي فهو بالفعل  ممثل موهوب جدًا فقد نجح في لفت الأنظار إليه وإثارة الضحك بأسلوبه الكاريكاتوري الذي يقدمه بجدية شديدة، الطباخ/ السائق الذي جسد شخصيته هادي محيي والذي تميز بخفة ظل طبيعية وقدرة رائعة على تجسيد الشخصية الكوميدية ببساطة شديدة وتلقائية.
الحقيقة أن اختيار كل الشخصيات موفق ودقيق جدًا وهم جميعًا على قدر المسئولية ووفق كل منهم في أداء الشخصية التي أسندت إليه: شخصية الإبنة إليز التي جسدتها  نشوى عبد الرحيم  التي نجحت في الجمع بين الكوميديا وإبراز كم الضغوط النفسية التي تتعرض لها ومدى معاناتها الشخصية كنتيجة طبيعية لبخل والدها ومحاولته إبعادها عن حبيبها، شخصية الابن كليانت التي جسدها عصام بحضور رائع على المسرح، وهو يمتلك بالفعل لكثير من مواصفات النجومية، فبخلاف تمتعه بالإحساس المرهف والوسامة وللياقة العالية والأذن الموسيقية كان موفقا جدا في أدائه لشخصيته الدرامية بتوظيفه لجميع أدواته في التعبير عن مختلف المشاعر، محيي الدين يحيى الذي جسد شخصية فالير من الشخصيات التي تجذب الإنتباه بإلتزامه الواضح بفهم الشخصية ودراسته لجميع أبعادها الدرامية، منار عبد الحليم التي جسدت شخصية التي نجحت في التعبير عن مأساتها الشخصية وحيرتها بين قلبها وعقلها في اختيار الحبيب ببساطة وجذب تعاطف الجميع معها، وقد اثبتوا جميعًا قدرتهم الفائقة في تقديم الاستعراضات بلياقتة عالية جدًا.
والمفاجأة الحقيقية بالنسبة لي هي الفنان القدير أشرف طلبة الذي رأيته وكأنني آراه للمرة الأولى فقد تألق في تقديم الشخصية بسلاسة وهدوء من دون افتعال وكوميديا رائعة محترمة تناسب الأسرة وقدسية المسرح.
    في النهاية فإن العرض قدم لوحة فنية رائعة تكاملت فيها جميع عناصر الرؤية التشكيلية (السينوغرافيا) وفي مقدمتها الديكور الذي صممته الفنانة رانيا الدخاخني، الملابس التي صممتها الفنانة نردين عماد، ومكياج أمل حسام، مع إضاءة أبو بكر الشريف، كذلك الموسيقى التعبيرية للدكتور محمد حسني التي إشاعت جو من البهجة، وعبرت عن المواقف الدرامية المختلفة مع كلمات الشاعر حامد السحرتي، والإستعراضات التي صممتها الفنانة شيرلي أحمد، تضافر كل هذه العناصر جعلنا نحظى بوجبة فنية متكاملة شملت كل مفردات العمل المسرحي من دون إحداث أي نشاذ فكل في موضعه بنسب منضبطة ومتسقة، وهو جهد جماعي يحسب لكل أفراد العمل بقيادة مخرج متميز.


نور الهدى عبد المنعم