الزوبعة.. برؤية حداثية تنهل من ثقافة العصر بوعي يقظ

الزوبعة.. برؤية حداثية تنهل من ثقافة العصر بوعي يقظ

العدد 670 صدر بتاريخ 29يونيو2020

شكلت حقبة الستينيات بالقرن العشرين مرحلة هامة من تاريخ مصر الحديث، وكذلك بالفن والثقافة بالمجتمع المصري والعربي أيضًا، وانتقلت بدورها إلى المسرح المصري في نصوصه وعروضه، حيث زخر بالعديد من المؤلفين الذين حاولوا محاكاة قضاياهم السياسية والاجتماعية حينذاك بنقل واقعي لمختلف البيئات المصرية في نصوصهم، و التعمد مع ذلك إلى استلهام الموروث الشعبي في كتابة التاريخ ونقله من جديد بالفنون وفي مقدمتها فن المسرح، وكان من بين هؤلاء أحد أقطاب المسرح المصري فى الستينيات حيث مرحلته الذهبية المؤلف الراحل محمود دياب الذي قصد في إنتاجه القصصي والمسرحي أن يتعرض للأزمات الحياتية الحقيقية ببلاده، وللقضايا المصرية و العربية المتفاقمة التي عاصرها، وكان من بين نتاجه الإبداعي ،أن قدم مسرحية “ الزوبعة “ عام 1966، التي تُرجمت لأكثر من لغة ، كما حاز عنها جائزة منظمة اليونسكو وأشاد بها الكثير حينذاك نصًا وعرضًا، واستمر انجاذب الكثير من المسرحيين لتقديمها دومًا في مختلف العقود الماضية بالقرن العشرين وحتى سنواتنا وأيامنا الأخيرة، فنشهد تقديمها من جديد ضمن فعاليات مهرجان إبداع المسرحي في دورته الثامنة لعام 2020 الذي تنظمه وتقيمه وزارة الشباب والرياضة لتكون “ الزوبعة “ برؤية حداثية تنهل من ثقافة العصر بوعي يقظ ، وهوية المجتمع المصري الحالي من إعداد وإخراج محمد النجارلفريق التربية النوعية لجامعة الزقازيق .
ارتكزت مسرحية “ الزوبعة “ اتفاقًا مع نص محمود دياب ، وغيره من نصوصه على طرح ثنائية الشأن الداخلي، والخارجي لأحد المجتمعات، مستهدفًا نقل علاقات مجتمعية ضيقة خاصة ونماذج متباينة من أنماط التواصل لهذا المجتمع ، وطرح صورة وافد أو غريب يحمل الحقيقة كشعلة ضوء في ظلام دامس، كما اعتمد دياب بنصه، واتضح بمسرحية “ الزوبعة “ للنجار على محاكاة الفن لثنائية أخرى هي صورة المركز، والأطراف متمثلة بين المشاركين في الفعل ودفعه نحو التطور، ومن ثم التصاعد والتأزم تمثلت في غالبية أهل القرية ، ورافض له يقاومه، ويحاول هذا الرافض أحيانًا منع انتشار الفعل وسلوكيات تماثله، والوقوف بقوة لمحاربة عدوى انتشار سلوك مجتمعي ما عواقبه وخيمة وجاثمة، ويقدم بعالم مسرحية “ الزوبعة“ نصًا وعرضًا هذا الحصار القائم بين مركز وهن هش لمجتمع قروي، و أطراف طامعة لها مكاسب تسعى لتحقيقها تدفع بالآخرين بالعيش والحصار في غياهب وظلمة الشائعات، كما نشهد فعل الفرد، وسلوك الجماعة المتوارث دون وعي أو تفكير كالإنزلاق في هوة القطيع السحيقة، والتي تسقط فيها هذه الجماعة بقصد أوتدفع إليها قسرًا، فمنذ البداية بالنص والعرض يقدم لنا حال أحد القرى بالمجتمع المصري، وأبنائها من الصبية والآباء والجدود، وتعاقب أجيالها وتشابه سلوكياتهم، فبتصاعد الأحداث نشهد تأكيد الظلم الواقع على إحدى أسر هذه القرية والتي يُتهم ربها وعائلها ظلمًا بارتكاب جريمة لم تقترفها أياديه، ويحكم عليه بالسجن لمدة عشرين عامًا بسبب شهود الزور ضده من بعض أهل القرية، في مقابل ذلك تطغى حالة الصمت من الكثير من أهل القرية الذين يمثلون صورة الجماعة أو القطيع إزاء ما يحدث .
وفي مسرحية “ الزوبعة “ تُقدم لنا الجماعة وهي مجتمع من أهل الريف المصري عميانًا سلبت بصيرتهم الشائعات وهي العُصابة التي كانت حاجزًا بين رشدهم ،وهم معصوبين بها تمامًا، كانت الجماعة هنا طاغية قادهم سلوكهم المتوحش عندما دفعوا بأحد أبرياء القرية المسالم “حسين أبو شامة” للسجن عشرين عامًا بعد أن اتهموه ظلمًا بارتكابه لجريمة قتل قيدت بالبداية ضد مجهول ففاعلها لم يستدل عليه ، وبعد أن قادوه نحو سجنه الطويل القاسي، سلبوا أرضه من بين أيادي أبنائه، و منعوا عنهم حقوقهم ، وبعد قضائه لمدة العقوبة التي لم تقترفها يداه سمعوا قولًا بعودته فترقب ذلك وجهاء القرية وكل أهلها ، وخشية انتقامه المنتظر لما تلقاه منهم ، فشرعوا يهرولون نحو رد ما سلبوه منه ومن أبنائه من منزلٍ ومالٍ وأرضٍ، لكن تنقضي شائعة عودته التي زلزلت حياتهم ومعيشتهم ، ويتبيّن لهم أنه مات من قبل في سجنه كبدًا ، فيعودوا إلى ما كانوا عليه من ظلم جور لآخر غير مدركين مأساتهم الحقيقية، وتبدأ إشعال نار أخرى بإشاعة جديدة تُسقط وابل يصم آذانهم بكلمات لا صحة لها وتحدث ظلم كبير لأحدهم، وبوار جديد وهواء لوثته الأفواه بالكلمات ، واستكملوا حياتهم نحو عمى جديد .قدم المخرج المُعد محمد النجار في “ الزوبعة “ تحديثًا معاصرًا عن شخصيات دياب في نص الستينيات، واعيًا لأنماط شخصياته الدرامية الجديدة،ولبيئات الفلاحين في المجتمع المصري الحالي ، مبتعدا عن نقل صورًا لهؤلاء الفلاحين الذين اعتاد المشاهد عليهم من خلال الدراما التلفزيونية، وأفلام السينما حيث تنقل ملامح سمات الشكل الخارجي بلهجة واحدة ثابتة استقرت في الأذهان، وملبس واحد للمرأة أو الرجال بصورة متكررة، فاتكأ النجار إلى استحضار مجتمعات داخلية متبانية من مختلف قرى ومراكز محافظة الشرقية الحالية بلهجات متباينة من أقاصي غرب المحافظة ، وابتعد عن لهجة “الزقازيق” التي تماثل لهجة العاصمة محدثًا بما قدم الدهشة ، والغرابة بالمحلية الشديدة بحوار الشخصيات الدرامية بالمسرحية والتي صنعت الكوميديا بوضوح وقوة، وامتاز من بين الشخصيات أداءًا، و خلقًا لسمات شخصية الفلاحة المغايرة باللغة اللفظية التي امتلأت بمفردات بيئة قروية معاصرة بالشرقية تخصها وتميزها عن غيرها ، ولغتها الجسدية المميزة “ الخالة زكية “ التي ألبسها سمات أكثر تفصيلًا ووضوحًا عن شخصية دياب وتواصلا مع شخصيات المسرحية الأخرى لينتج محاكاة حداثية معاصرة لمجتمع الشرقية الذي يزخر بشخصيات درامية لاحصر لها ولينبهنا نحو الاختلاف الكبير بالريف المصري بكل بيئة أو قرى متجاورة، وبكل محافظة مصرية عن غيرها وتمازج أنماط شخصياته بين شخصيات تحيا وتعيش بالريف أو وافدة عليه لاتتسم بقالب متعارف عليه ليقدم العرض أنماطًا جديدة للشخصية وتخصه وحده .
ارتدت شخصيات” الزوبعة “ ملابس متنوعة بين الجلباب الفلاحي وبين الزي البدوي، وبين ملابس متداخلة بألوان زاهية ليوضح أن ملامح الريف المصري لم تعد تظهر جلية للآخرين بالملبس الواحد فقط كالسابق وتداخل ثقافة الملبس للمصريين، وتأكيدًا لحدوث قضية العرض التي تمثلت في الشائعات واختراقها للأمن والسلام الداخلي للإنسان حدثًا مجتمعيًا يحدث لمختلف الشخصيات، وبيئات المجتمع الواحد التي تزخر بأنماط متعددة تتعايش معًا ، كما استخدمت بمسرحية الزوبعة اكسسورات الممثلين كشخصية درامية لها دورها في دفع الأحداث وتحريكها ، ووظفت لأكثر من دلالة فكرية فمثلت عصابة الرأس السوداء التي أحاطت رؤوس جميع الشخصيات كوابيس خانقة لهم ، وفي صورة أخرى تُصدع رؤوسهم كالمرض العضال ، وحملوها بصورة ثالثة مع تعبيرات جسدية أكفان ثقيلة، و رابعة يلوحون بها في عديدهم على الموتى مظهرًا للحداد ، وفي صورة مسرحية أخرى شكلت العصابات السوداء للأعين غمامات حاجبة كونها الشائعات تحيل بين رؤيتهم للحقيقة وتسلبهم بصيرتهم.
تخطى الزمن الدرامي لمسرحية الزوبعة المقدمة لنا بعام 2020 زمن الأحداث بنص محمود دياب الذي قدمه في ستينات القرن العشرين، ليقدم الزمن الدرامي بزمننا الحالي بطرح قضية الشائعات التي تغيرت مظاهرها ونتائجها للفرد وللجماعة بينما استمرت بحقب زمنية كثيرة ولم تختفي أبدا، في تأكيد أنها أزمة اجتماعية لاتختفي أبدا في المجتمعات الإنسانية كلها وخصوصًا بالمجتمعات العربية والمصرية،وكسرت المسرحية قالب الشخصيات النمطية بالريف المصري مبتعدة عنها في ملامح جديدة، ونقلت حياة الريف من الإيقاع الهادئ المعتاد إلى الصخب ، و خلق علاقات بين الشخصيات مغايرة بإيقاع سريع متدفق كإيقاع الحياة بالقرن الواحد والعشرين مؤكدًا علي خطر إطلاق الشائعات ، فشائعة قتل البرئ بيد البرئ أصابت حياة أسرة بالدمار ،وشائعة انتقام الميت من الحي أهلكت حياة أهل القرية فكانت الشائعة كالشرارة التي انتشرت منها نيران عالية لاتخمد أبدًا بينما لا تذر دومًا غير الهشيم بلا فائدة ، وتنتقل النيران لتحاصر سماء الفلاحين وأراضيهم لانشغالهم بالقيل والقال فتصاب أرضهم وكنزهم الأكبر بالبوار ،و النار تشتعل و كثيرًا من مستصغر الشرر، وانتشارها يصبح كالوباء.
 قدم ديكور المسرحية تصميم آلاء غايث طابعًا مغايرًا عن ملامح بيئة الريف التي يذهب لها العقل الجمعي فقط نحو رموز المجتمع الفلاحي المستهلكة بنقل الأرض الزراعية وحيوانات القرية ، ونقلت رؤية تجريدية رمزية تمثلت بألوان فسفورية متداخلة لإثارة العقل وإيضاح تداخل الحقيقة الغائبة بحياة ضبابية، واعتمدت موسيقي المسرحية تأليف محمد ناجي أحيانًا على الآلآت الشرقية والوتريات التي صاحبها أداء الممثلين بالغناء الجماعي في افتتاحية ونهاية العرض بأشعار اعتمدت على التناص من التراث الشعبي لإحدى أغنيات الريف المصري التي كانت ومازالت تترد في الكثير من ليالي العرس لتأكيد هوية العرض وانتمائه للمجتمع الريفي .
مسرحية “ الزوبعة “ في 2020 قدمها فريق المسرح بكلية التربية النوعية بجامعة الزقازيق برؤية جديدة حداثية تنهل من ثقافة العصر وهوية المجتمع المصري الحالي من إعداد وإخراج محمد النجار بفريق ينقل هويته المحلية و المعاصرة .


همت مصطفى