يسري العزب.. سفير الفلاحين في القاهرة «نصف قرن من الإبداع»

يسري العزب.. سفير الفلاحين في القاهرة  «نصف قرن من الإبداع»

العدد 665 صدر بتاريخ 25مايو2020

لم أكن أتصور يوما، أن أوضع في هذا الموقف، وأن يطلب الكتابة مني عن قطعة مني، وهو الشاعر والأكاديمي والناقد المصري الكبير شقيقي الأكبر وأول الأسماء في حديقة أبي وأمي الدكتور يسري العزب، خاصة بعد رحيله المفاجئ اثر تدهور حالته الصحية بشكل سريع جدا، لم يتجاوز هذا التدهور السريع الشهرين، لكنها إرادة الله النافذة في صباح الخامس من مايو من العام العشرين بعد الألف الثانية، الموافق الثاني عشر من رمضان من العام الحادي والأربعين بعد الربعمائة من الألف الأولى الهجرية، وهو نفس اليوم الذي توفي فيه والدنا الراحل «عبد العزيز الأباصيري العزب» عن نفس عمر شقيقي الأكبر بالتمام والكمال، منذ واحد وعشرين عاما، وكأنه الميعاد بينهما...، والتوحد التام بينهما وفي كل شيء حتى الموت.
هذه أول مرة أكتب فيها شهادة عن شقيقي الأكبر د. يسري العزب، فقد تكون هذه الشهادة – لمن لا يعرفه ويعرفني – مجروحة، لكنها بالنسبة لمن يعرفانا، مجرد نقطة مياه في محيط كبير.
فشاعر العامية المصرية الكبير د. يسري العزب، لم يكن اختياره لهذا الفرع من الشعر العربي، من فراغ، فهو أولا ابن الريف المصري في وسط الدلتا “المنصورة – دكرنس – ديمشلت”.
نشأ في بيئة أدبية وشعرية صرفة، فأبوه الراحل عبد العزيز العزب، كان شاعرا ومعلما وأزهريا حصيفا وموجها للغة العربية في معظم مدارس المنصورة في الفترة من أربعينات القرن الماضي وحتى منتصف الثمانينات من القرن نفسه، وعمه الشاعر الفصيح د. محمد أحمد العزب، أستاذ اللغة العربية وعميد كليتها بالمنصورة جامعة الأزهر سابقا، الذي كان أحد رواد القصيدة الحديثة ونال عنها الكثير من الجوائز في ستينات القرن الماضي عن المجلس الأعلى للفنون والآداب وقتها (المجلس الأعلى للثقافة حاليا)، أما جده الشيخ علي العزب، فهو أول من أدخل التعليم العام إلى قريتنا “ديمشلت – دكرنس – دقهلية” وبعض القرى المجاورة.
وعند هذا الحد من النشأة الأدبية، يكون من الأولى أن ينتهك شاعرنا الفصحى بدلا من العامية المصرية، رغم محاولاته الجادة للكتابة بالفصحى، فإنه آثر أن يكون شاعرا عاميا، خاصة عند قدومه إلى القاهرة لدراسة الحقوق، وتخرجه منها في العام 1969 ميلاديا، وإصداره لديوانه العامي الأول “فوازير فلاحية” في العام 1971 ميلاديا، ثم اتجاهه إلى النقد الأدبي ومشاركته في معظم المنتديات الأدبية في كل مجالات الكتابة الأدبية، حتى إن الناقد الكبير مصطفى عبد اللطيف السحرتي رئيس رابطة الأدب الحديث في الستينات والسبعينات أطلق عليه – عندما سمعه يلقي أشعاره العامية معجبا بها – لقب “سفير الفلاحين بالقاهرة”، هكذا يكون الاختيار للعامية المصرية لأن شاعرنا أحس بأنه لن يضيف جديدا في الفصحى، فآثر وبطواعية منه، أن يكون سفيرا للفلاحين ومعبرا عنهم بكتابته العامية المصرية الجميلة.
ولم يكتفِ شاعرنا بهذا، فلقد انتسب لكلية الآداب بجامعة القاهرة قسم اللغة العربية في عام 1973م، ليتخرج فيها بامتياز مع مرتبة الشرف الأولى في عام 1977م، ويعين كعضو هيئة تدريس في كلية الآداب جامعة بنها، تاركا هيئة التأمينات الاجتماعية التي عمل بها مفتشا ومحاميا لمدة سبع سنوات كاملة، ثم يحصل على الماجستير في الأدب العربي من جامعة القاهرة عام 1981م، عن أكبر شعراء العامية المصرية، الراحل بيرم التونسي، وكانت أطروحته بعنوان (أزجال بيرم التونسي – دراسة فنية) وتعد هذه الدراسة للعامية المصرية الأولى من نوعها في الدراسات الأكاديمية، إيمانا منه وترسيخا وتأكيدا لحبه الشديد للعامية المصرية، التي هي في نظره (فصحى العرب المعاصرين).
في عام 1985م يحصل شاعرنا على درجة الدكتوراه في الأدب العربي من جامعة القاهرة أيضا، وكانت هذه المرة في: (القصيدة الرومانسية في مصر من 1932م : 1952م) منحازا هذه المرة إلى لغتنا العربية الفصيحة البديعة، مستحقا في الأطروحتين: درجة الامتياز مع مرتبة الشرف الأولى، مع التوصية بتداولهما بين الجامعات المصرية وطبعهما، حتى شاهدا النور في كتابين عن الهيئة المصرية العامة للكتاب.
في عام 1982م وعندما كان شاعرنا مستشارا ثقافيا للدكتور سمير سرحان رئيس الثقافة الجماهيرية وقتها، وعندما استشعر أن أدباء العاصمة/ القاهرة الكبرى، هم وحدهم الذين يستأثرون بالنصيب الأكبر من الدور الإعلامي والنشر وخلافه، تقدم شاعرنا بفكرة إقامة (مؤتمر لأدباء مصر في الأقاليم)، وانعقدت دورته الأولى في محافظة المنيا في عام 1984م وتوالت دوراته كل عام في محافظة من محافظات وأقاليم مصر، وبفضل هذا المؤتمر الأدبي، أصبح أدباء الأقاليم لا يقلون شأنا عن أدباء العاصمة سواء في النشر أو في المشاركة في المؤتمرات والمهرجانات الأدبية، وبفضله – أي المؤتمر – ظهرت حركة النشر الإقليمي، كما ظهرت أيضا فكرة (نوادي الأدب) على مستوى أقاليم الجمهورية، كي لا يستشعر أدباء الأقاليم العزلة عن أدباء العاصمة، والآن أصبح لكل محافظة مصرية أدباؤها المعروفون على مستوى القطر المصري كله.
ومنذ عام 1978م أخذ شاعرنا وناقدنا الراية الأدبية من الأديب الراحل حسين القباني ليقيم (جماعة الفجر الأدبية) وندوتها الأسبوعية (كل يوم جمعة) بدءا من كازينو شاطئ الجزيرة بالمنيل ومرورا بنادي الوفاء والأمل بالهرم، ومركز شباب المشابك بأول فيصل، ونادي الصفا بالهرم، وصولا إلى نادي الجيزة الرياضي، وانتهاء بمكتبه بأول فيصل، ليكتشف ويقدم من خلالها الكثير من المواهب الأدبية في شتى فروع الأدب، ومن جميع الأجيال العمرية دافعا بهم إلى الساحة الأدبية والإعلامية المصرية، وظل شاعرنا يقوم بأداء هذا الدور سواء من خلال جماعة الفجر الأدبية وعبر جمعية دار الأدباء بالقاهرة، التي أعاد توفيق أوضاعها في عام 2000م بعد توقف طويل، وعمل سكرتيرا عاما لها، أو من خلال نادي القصة الذي تولى إدارته منذ الثمانينات، وعبر دوره في اتحاد كتاب مصر الذي حظي بعضوية مجلس إدارته منذ دورته الأولى وذلك بفضل حب أدباء مصر له وتقديرا لدوره المهم والفاعل في الحركة الأدبية المصرية منذ نهاية السبعينات.
هذا ولم يقتصر دور شاعرنا الكبير على النقد الأدبي المواكب والمنشط المقوم للحركة الأدبية على مستوى ربوع مصر، بكتابته النقدية المشجعة عن معظم المواهب الأدبية الحقة في معظم محافظات مصر، لكنه وهو الشاعر العامي المصري آثر أن يتخصص أكاديميا في الأدب العربي الحديث والشعبي، فقام بتدريسه لطلاب كليتي الآداب والتربية بجامعتي بنها وبني سويف، واكتشف من خلال ذلك الكثير من المواهب الأدبية والإعلامية، وأصدر في ذلك الكثير من الكتب الدراسية الجامعية.
ولكن المتابع لمسيرة شاعرنا الكبير في الشعر العامي، يلحظ أن له قاموسه الشعري الخاص به، الذي تميز به، من مفردات شعرية مغرقة في العامية المصرية، وممتزجة بالفصحى البسيطة، مما يجعل صوته الشعري متفردا به وحده.
وفي شعر العامية المصرية، فلقد كتب شاعرنا في شتى مناحي الحياة، فكتب عن هموم الفلاحين المصريين، وكتب عن معاناة الوطن في ظل حكومات الاستبداد المتعاقبة، وتنبأ في بعض قصائده بثورات الشعب، كما في قصيدة “و... يحصل”، كما كتب القصيدة العاطفية.
ولم ينسَ أن يكتب للمسرح الشعري فلقد كتب في نهاية السبعينات واوائل الثمانينات، “دراما شعرية – تغريبة عبد الرزاق الهلالي”، التي صدرت عن مطبوعات الفجر 1984م في طبعتين، ومثلت على خشبة مسرح الثقافة الجماهيرية وشاركت في مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي، ومثلت مصر في فرنسا في تسعينات القرن الماضي، وتحكي هذه التغريبة عن سفر وغربة وهموم فلاحي مصر وما يتعرضون له من ظلم في عملهم في دول الخليج العربي، كما كتب بشعر العامية المصرية حكاية شعبيه مصريه اسمها “نخلتين في العلالي”، وعرضت على مسرح البالون بالقاهرة بين عامي 1997م، 1998م، كما كتب شاعرنا الراحل مسرحية “الوعد سعد” عن قصيدة طويلة له اسمها “ضد الموت” تأبينا وحبا للكاتب المسرحي والمثقف المصري الكبير الراحل سعد الدين وهبة، ليخرجها حسن الوزير للثقافة الجماهيرية في تسعينات القرن الماضي.
ومع هذا العطاء الأدبي الكبير لشاعرنا الراحل في مجالي الشعر والنقد، الذي أخذ النقد منه الجانب الأكبر على حساب الشعر – لكنها الرسالة الحتمية التي تحملها هو وحده في البحث والتنقيب عن المواهب الأدبية الحقيقية والكتابة عنها وتشجيعها والمضي بها قدما إلى وسائل الإعلام المختلفة – يظل الباقي من هذا العطاء الكبير هو د. يسري العزب الشاعر.


محسن العزب