إرهاصات المسرح في الإسكندرية في القرن التاسع عشر (1)

إرهاصات المسرح في الإسكندرية  في القرن التاسع عشر (1)

العدد 656 صدر بتاريخ 23مارس2020

تعتبر مدينة الإسكندرية من أوائل المدن المصرية التي شهدت بدايات ظهور أو بمعنى أصح انتقال فن المسرح بالشكل الغربي إلى مصر، حيث حظيت الإسكندرية بوجود عدد كبير من الجاليات الأجنبية التي أقامت بها بل واستوطنت أيضا، مما دعاهم إلى ممارسة كافة أشكال الممارسات الثقافية التي تربوا عليها ونشأوا في أحضانها في بلادهم، فكان من أهمها فنون المسرح، وقد بدأ تدفق الأوروبيين إلى الإسكندرية في عهدي “سعيد” و”إسماعيل” خاصة في نهايات العقد السادس وبدايات العقد السابع من القرن التاسع عشر نتيجة للعروض المالية والتجارية التي ارتبطت بازدهار القطن والمشروعات الصناعية والزراعية المتعددة. فامتازت الإسكندرية بنسبة سكانية كبيرة من أولئك الأوربيين المقيمين إقامة دائمة، ومما جعل المدينة مصدر نشاط فني ومسرحي كبير.  وبالطبع كان لهذه البدايات المبكرة عن باقي المدن المصرية أكبر الأثر في تطور وتميز المسرح السكندري فيما بعد ورسوخه كأعرق كيان جغرافي مسرحي كما وكيفا في المسرح المصري. لاسيما أنها حظيت أيضا بعد ذلك بنشاط كبير ومكثف من الفرق المسرحية الشامية التي كان لها الفضل في دخول المسرح العربي إلى مصر في العقدين الأخيرين من القرن التاسع عشر.
وقد اعتُمِد في تحديد تلك البدايات فقط على ما تم توثيقه حينها سواء لاسيما في الصحف سواء من خلال الأخبار اليومية والمحلية أو من خلال إعلانات عن العروض المسرحية في تلك المطبوعات، مع الأخذ في الاعتبار حتمية وجود كثير من الأنشطة المسرحية سواء على مستوى الفرق المحترفة أو على مستوى الهواة التي لم يتم توثيقها وبالطبع استحالة العلم بها الآن. فنستعرض أولا العروض المسرحية للفرق الأوروبية المحترفة الزائرة للمدينة في القرن التاسع عشر والتي كانت تقدم عروضها للأجانب المقيمين بالثغر. ثم نقدم عرضا لفرق الهواة والجمعيات التي أنشأها الأجانب سواء الفرنسيين أو الإيطاليين. ثم نتوقف عند المسرح المدرسي في ذلك الوقت، وأخيرا كان لابد أن نتعرف على دور العرض (المسارح) الموجودة في الإسكندرية في القرن التاسع عشر نظرا لأهميتها بعد ذلك في استضافة الفرق الشامية والمصرية على خشباتها والتي شهدت البدايات الحقيقية لفن المسرح في مصر.
العروض المسرحية والأوبرا
افتتح الفرنسيون المقيمون بالإسكندرية (المسرح الفرنسي) في يوم 3 نوفمبر 1829  للاحتفال بعيد ميلاد ملك فرنسا، حيث تم عرض مسرحيتان هما (المحامي باتلان) و(الذواقة المفلس) من تأليف يوجين سكريب، وقد قام بتصميم الديكور الفنانون المصاحبون للعالم شامبليون، وكان الجمهور مكونا من الأوربيين وبعض ضباط الباشا الأتراك وبعض النساء المسلمات.
وقد شهدت الإسكندرية في السنوات التالية انتعاشا كبيرا في عرض المسرحيات الفرنسية والإيطالية أيضا، وكانت الفرنسية هي الأفضل وترجع نشأتها  ودعمها إلى حماسة نائب القنصل الهولندي (رانيلاين)، وعندما كان المسرح الفرنسي مغلقا عرضت مسرحية ببيت القنصل الفرنسي. ويذكر أن تلك المسرحيات كان يكتبها ويمثلها فنانون هواة واستخدمت فيها الديكورات والمناظر.
قدم أحد الباشوات ممن اندهشوا بالأفكار الأوروبية في منزله عرضا لمسرحية ساخرة على نحو يثير الاستياء عرضها شخص ضخم الحجم، تاجر محلي أمام نخبة مدعوة من المجتمع السكندري، وقام بعض الأتراك والمصريين من الطبقات العليا المتعلمة تعليما أوروبيا بتشكيل جزء من جمهور هذا المسرح الأوروبي في مصر.
أما أول عرض إيطالي قدم في الإسكندرية كان في يوم التاسع من أكتوبر عام 1841 قدمته فرقة زائرة محترفة وكان  أوبرا دونيسيتي (إكسير الحب).
وفي عام 1842 عرضت على الأقل ثلاث أوبرات في الكرنفال بالإسكندرية، وكان هذا الكرنفال معلما مألوفا من معالم الاحتفال بالمدينة مثل العديد من مدن البحر المتوسط، والأوبرات الثلاث هي : (كيارا من روزنبرج) لريتشي، و(لوتشيا من لاميرمور) لدونيتسيتي، و(بليزارو) لدونيسيتي. وفي العقد الخامس من نفس القرن كانت تقام مسرحيات هزلية من ضمن فقرات الكرنفال.
في العقد الرابع كانت توجد فرقة إيطالية تقدم من آخر لآخر أوبرا ما على نحو سيء، وأحيانا كانت تقدم مسرحيات كوميدية لجولدوني، وذلك في المسرح الصغير الذي كان يقع في المحطة  التجارية الإنجليزية في ميدان القناصل. وكانت الفرقة تحصل على أجرها من اكتتابات المشتركين. وكانت الإسكندرية قد حظيت باختيارها ضمن المدن التي تعرض الأوبرا بشكل منتظم لكنها صادفها سوء العروض بالإضافة إلى أنها كانت عنصر جذب للفرق المسرحية الأقل شأنا.
وقد عرضت الأوبرا الإيطالية (الجدة) التي ألفها بلليني في نوفمبر 1849 على المسرح الصغير بالإسكندرية (الأوبرا) وقد شاهدها الكاتب الفرنسي جوستاف فلوبير. والذي شاهد أيضا في يوليو 1850 المسرحية الهزلية (برونو) المنافق التي كتبها الإخوان كونيارد بالإيطالية.
وفي ربيع عام 1855 عرضت بالإسكندرية أوبرا (اللقيط) لفيردي، وفي عام 1856 أصدر سعيد باشا توجيهاته بعرض الأوبرا والمسرحيات للحي الأوروبي قرب قصر القباري بالإسكندرية كجزء من الاحتفال بذكرى توليه العرش.
كما عرضت بالإسكندرية عام 1862 تراجيديا من خمسة فصول بعنوان (جيرولا موسافونا رولا) كتبها لويجي تشامبي. وكان ذلك على مسرح زيزينيا.
وفي صيف عام 1863 كانت توجد فرقة فرنسية من الممثلين الجوالين قدمت عروضها على مسرح هزيل شيد على الرمال أمام قصر الإسكندرية في قطعة أرض مستديرة ومحاطة بالخشب ومشيدة تشييدا هزيلا وقدموا عروضهم أمام الباشا الذي سعد بهم وكافأهم وكانت عروضهم ممتزجة بالرقصات.
أما أول إشارة لمساهمة مصرية بالإسكندرية في أنشطة مسرحية اجنبية فكانت في العقد السادس من القرن التاسع عشر فقد عرضت في مسرح بالهواء الطلق مسرحية إيطالية كانت البطلة فيها مصرية سمراء الوجه لكنها باللغة الإيطالية.
كانت العروض المسرحية الإيطالية، هي العروض الأولى، التي تم عرضها على مسرحي زيزينيا وروسيني عند افتتاحهما في ديسمبر 1864. وظلت العروض الإيطالية هي المهيمنة على هذين المسرحين طوال الثلث الأخير من القرن التاسع عشر.
وفي شتاء عام 1868 انشغل مسرح (روسيني) الذي كان يعرف أيضا بمسرح (ديباني) ومعه مسرح (زيزينيا) بعرضين للأوبرا الإيطالية لفرقتين قادمتين من إيطاليا. كما عرض على مسرح (روسيني) عروض دراما وكوميديا لمجموعة مسرحيات إيطالية.
وعلى مسرح تياترو زيزينيا في مارس 1871 تم عرض الأوبرا الكوميدية (ماسات التاج) في ثلاثة فصول، من تأليف دانيال أوبر، وهي الأوبرا التي عُرضت لأول مرة في باريس عام 1841.
وفي منتصف العقد السابع بالتحديد في مارس 1875 تبرعت إحدى الجمعيات الخيرية بليلة مسرحية في الذكرى الثالثة لوفاة الزعيم الإيطالي (جوسبي ماتزيني) من أجل توزيع ريعها على خمس أسر فقيرة. وفي هذا الليلة قدمت في تياترو زيزينيا مسرحية (الزوج في الريف) مع عزف موسيقي بين الفصول من قبل فرقة باولو فيراري.
كما قدم الفنان التراجيدي الإيطالي الكبير (إرنستو روسي) بصحبة فرقة مكونة من أربعين ممثل وممثلة في يناير عام 1881 اثنى عشر مسرحية لمدة شهرين، بمسرح زيزينيا، حيث بدأها بمسرحية (كين)،  وكان منها المسرحية الكوميدية (أبناء كورالي) ل”أ.ديلبيت”، ومسرحية (لويس الحادي عشر). وقد لاقت تلك  العروض نجاحا كبيرة وحازت شهرة عظيمة لدرجة أن أهالي القاهرة شعروا بالغيرة من أهالي الإسكندرية، وطالبوا بحضور الفرقة لتعرض عروضها في الأوبرا الخديوية بالقاهرة، وهو الأمر الذي حدث بالفعل.
وفي مارس 1881، جاءت الفرقة الإيطالية – التي كانت تعرض في الأوبرا الخديوية – إلى الإسكندرية، وعرضت في مسرح زيزينيا مسرحية «لوسيادي لامرمور». كما قدمت مسرحية أخرى، خُصص دخلها - والذي بلغ عشرة آلاف فرنك - لمدارس البنات الإيطالية. وفي مايو ويونيو 1881، عرضت الفرقة الإيطالية بقيادة المسيو (اليبراندي) عروضا مسرحية في الإسكندرية، بصورة تبادلية بين مسرحي زيزينيا وروسيني.
في موسم سنة 1881، احتلت فرقة (المسيو اليبراندي) مسرح روسيني خمسة أشهر: من مايو إلى سبتمبر. قدمت خلالها عدة مسرحيات منها مسرحية «تريز راكين»، ذات أربعة فصول، والتي عُرضت بعدها مسرحية ذات فصل واحد بعنوان «حمام بارد»  (والمعروفة عربيا بالفصل المضحك)، ومسرحيات (كوزي أدافيني)، و(ابن كورالي)، و(مقاتلة النساء)، و(جويف أران). وتُعدّ مسرحية (الكونت دي مونت كريستو)، مسرحية فريدة في عرضها؛ حيث عرضتها الفرقة على مدار أربعة أيام، كل يوم فصل من فصولها الأربعة.
وفي  مارس سنة 1882، احتفلت الجالية الإيطالية بعيد ميلاد ملك إيطاليا (هومبرت الأول)، وذلك بإقامة احتفال فني كبير في تياترو زيزينيا، اشتمل على عروض مسرحية وفقرات راقصة.
كما قدمت فرقة المسيو كاستابنا الإيطالية عروضها على مسرح البوليتياما في أوائل 1882 لمدة أربعة أشهر من يناير وحتى إبريل وبلغ عروضها حوالي ثلاثين ليلة عرض، وكان من ضمن العروض مسرحية (إرناني). وتعد تلك أول فرقة إيطالية تقدم عروضها على مسرح البوليتياما.
وفي أواخر عام 1882، أصيبت بعض المدن الإيطالية بطوفان، أسفر عن جرحى ومصابين، فقامت الفرقة الإيطالية بمسرح البوليتياما، بعرض ثلاثة عروض مسرحية، خصصت دخلها لمساعدة الجرحى والمصابين في إيطاليا من جراء هذا الطوفان.
كما يجب أن نذكر الجوق التركي وهو أحد الفرق التركية التي كانت تزور مصر في القرن التاسع عشر، حيث حضرت عدة فرق أطلق عليها نفس الاسم، ومنها فرقة حضرت إلى الإسكندرية وقدمت بها مسرحية (ليلة بدجي خورخور أغا) في 27/4/1885. وفرقة أخرى بقيادة الممثل بنليان في مارس 1888، ومثلت في نفس الشهر رواية (جيروفليه جيروفلا) في 27/3، و(الزيبك) في 29/3، و(البلبيجي خوخور أغا) في 31/3.
 كما حضر إلى مصر في يناير 1886 الجوق الإيطالي (مناسة) ومثل في مسرح زيزينيا وقدم روايات منها (بارب بلو) في يناير 1886، و(ترافياتا)، و(له دروادي سنيور) و(ريجوليتو).
أما جوق كوكلن الفرنسي فقد حضر إلى مصر في عام 1888 بإدارة المسيو كوكلن الممثل الفرنسي، وقدم عروضه بالإسكندرية بمسرح زيزينيا، منها رواية (الدون سزار) ورواية (الباريزيان)، ثم انضمت إليه الممثلة والمطربة سارة برنار وقدمت عشر روايات في تياترو زيزينيا في عام 1889.
ومن أنشطة الفرق الإيطالية المسرحية بمسرح زيزينيا عام 1890، عرض جوق إيطالي مسرحية «كليوباترا ملكة مصر» بطولة مدام البونورة روز، التي مثلت دور كليوباترا.
كما حضر الجوق الفرنسي  إلى الإسكندرية  بإدارة المسيو شارل ديلير والممثلة ماركورين ومثل بمسرح زيزينيا عدة مسرحيات في أوائل عام 1890 ومنها (الفافوريت) في مارس 1890،  ثم رواية(كارمن)، ثم رواية (مينيون).
ثم في مارس 1892 قدم على مسرح زيزينيا رواية (كارمن)، ورواية (باؤييه دي سيفيل) في بطولة الآنسة فيليس أرنو، ثم رواية (كافاليري روستيك)، ورواية (شفالير روستيك) و رواية (المتر دي شابيل)، ورواية (مانون)، ورواية (أرناني).
وفي مارس 1898، أقامت جمعية محب الفقير اليونانية حفلة خيرية في مسرح زيزينيا، وعرضت فيه الفرقة الإيطالية مسرحية «الحمامتين». وفي الشهر نفسه احتفلت الجمعية الخيرية للروم الكاثوليك، بإحياء ليلة باهرة في مسرح زيزينيا. مثل فيها الجوق الإيطالي رواية من نخبة رواياته.
وقد تشجعت المسرحية العربية في إقامة تعاون فني غير مسبوق مع الفرق الأجنبية.  ففي عام 1894، قام سليمان القرداحي صاحب الفرقة المسرحية الشهيرة باسمه – وعلى مسرحه – بتمثيل دور البطولة في مسرحية (عطيل)، التي عرضتها الفرقة الإيطالية. حيث مثلت الفرقة باللغة الإيطالية، ومثل القرداحي دور البطولة فيها باللغة العربية.
والتعاون الآخر غير المسبوق أيضا، تم في عام 1897 بين فرقة إسكندر فرح وفرقة إيطالية، اشتهرت بتقديم الفصول المضحكة والبانتومايم والفقرات الراقصة بين فصول المسرحية، أو بعد انتهائها. حيث قدم إسكندر فرح مدير الجوق العربي على تياترو عباس بالإسكندرية مسرحية (حفظ الوداد) بطولة الشيخ سلامة حجازي، وتخلل فصول المسرحية فصل رقص بعنوان (العفريت الأسود)، قدمته الفرقة الإيطالية، وهو الفصل الذي قُدم مرة أخرى بعنوان (الشيطان الأسود، وأتبعها إسكندر فرح بتسع روايات أخرى تخللها فصول رقص وبانتومايم، تقوم بها الجوقة الإيطالية، منها روايات (صلاح الدين الأيوبي)، و(شهداء الغرام)، و(لوسيفيروس دواندا)، و(الشيطان الأسود)، و(السر المكنون)، و(عظة الملوك).
كانت تلك بعض الإرهاصات التي سجلت ووثقت عن نشاط الفرق المحترفة الزائرة والتي اختص بمشاهدتها الجالية الأجنبية بالإسكندرية.
 بالإضافة إلى ذلك كانت هناك أنشطة مسرحية للهواة تم تقديمها من خلال جمعيات أهلية واجتماعية.
(يتبع)
المراجع:
- فيليب سادجروف، المسرح المصري في القرن التاسع عشر، ترجمة د. أمين العيوطي، سلسلة دراسات في المسرح المصري، المركز القومي للمسرح والموسيقى، 2007.
- إيطاليا والمسرح في مصر في القرن التاسع عشر، أ.د. سيد علي إسماعيل، جريدة مسرحنا، العدد 623 صدر بتاريخ 5أغسطس2019.
- تاريخ المسرح في مصر في القرن التاسع عشر، أ. د. سيد علي إسماعيل، مكتبة الأسرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1998.
- تاريخ مسرح زيزينيا بالإسكندرية، أ. د. سيد علي إسماعيل، جريدة (مسرحنا) - عدد 469 - 8 أغسطس 2016.


أحمد محمد الشريف

ahmadalsharif40@gmail.com‏