تاريخ المسرح.. لا يكتبه إلا المسرحيون

تاريخ المسرح.. لا يكتبه إلا المسرحيون

العدد 644 صدر بتاريخ 30ديسمبر2019

تاريخنا المسرحي جزء مهم من تاريخ الوطن وحضارته وتاريخ أبنائه، ولذلك فإن العبث به - سواء عن جهل أو عمد - خط أحمر. وحينما نتحدث عن بدايات المسرح في أي زمان ومكان سيدرك الجميع على الفور - حتى ولو هواة للمسرح مبتدئين - بأننا نقصد الظاهرة المسرحية ككل، التي لا تكتمل إلا بتضافر عناصرها الثلاثة معا، وهي: الفكر (النص)، ومن يقوم بتقديمه (وما نطلق عليه العرض)، والجمهور المشاهد للعرض، الذي يجتمع مع مقدمي العرض في مكان يضمهم معا (المسرح). وبالتالي لا يجوز الحديث عن بدايات المسرح إلا بتكامل تلك العناصر الثلاثة.
 - المغالطات المتتالية:
هذه الحقائق البديهية غابت للأسف على بعض أساتذة الأدب - وفيما يلي بعض الحقائق التي لا تحتاج لجدال.
1 - محاولة إلغاء خمسة وثلاثين عاما من تاريخ المسرح في بلادنا بزعم أن الفرق الشامية التي قدمت لمصر منذ عام 1876 (بداية بفرقة سليم النقاش) لم تكن فرقا مصرية! وأن أول فرقة مصرية كانت باسم «سلامة حجازي» عام 1905، هذه المزاعم في حقيقة الأمر مغالطات كبرى غير مقبولة. فنحن إذا تناولنا الأمر من خلال مفهوم المسرح بعناصره الثلاثة، نقرر أن تلك الفرق قدمت للجمهور المصري وعلى مسارح مصرية نصوصا تتناول قضايا تهمه، وبالتالي فقد توفرت العناصر الثلاثة كاملة، خاصة إذا ما قررنا أن الحدود الجغرافية والجنسيات بين بلادنا العربية (التي ظهرت بعد معاهدة سايكس بيكو عام 1916) لم تكن موجودة آنذاك، وأن جميع الدول العربية التي لا تفصلها الحدود كانت تحت سيطرة الدولة العثمانية، وهذا بخلاف أن عددا من الممثلين والفنيين بتلك الفرق الشامية كانوا أيضا من المصريين.
2 - محاولة الحديث عن «المسارح» (دور العرض) وتجاهل الحديث عن «المسرح» بوصفه ظاهرة متكاملة، أمر في غاية الغرابة، فتلك المعلومات الموثقة يعرفها الجميع، وهي: أن أول مسرح حديث شيد في الأزبكية باسم «مسرح الجمهورية والفنون» أيام الحملة الفرنسية عام 1800، وأن أول مسرح خاص في مصر هو مسرح «زيزينيا» بالإسكندرية الذي تم افتتاحه عام 1864 (الذي هدم وبني مرة أخرى عام 1925، وأطلقوا عليه اسم “تياترو محمد علي” ثم سمى فيما بعد باسم “أوبرا سيد درويش”)، وأن أول مسرح حكومي بني في مصر عام 1868 وهو مسرح «الكوميدي الفرنسي» (الذي استمر يعمل لعشرات السنين ثم تحول إلى مقر لجنود الاحتلال ثم إلى قسم للشرطة ثم مصلحة للبريد ومكانه الآن مكتب بريد العتبة)، وأن «الأوبرا الخديوية» شيدت عام 1869، ولكنها جميعا مجرد دور عرض تقدم عروضا أجنبية للترفيه عن أفراد الجاليات الأجنبية، وبالتالي لا تندرج تحت مسمى «المسرح المصري» (والحديث عن ظاهرة مسرحية متكاملة). ويجب التنويه في هذا الصدد بأن الحديث عن أول نص مترجم نشر باللغة العربية عام 1868 وهو أوبرا «هيلين الجميلة» لرفاعة الطهطاوي، أو عن أول نص مؤلف وهو مسرحية «نزهة الأدب في شجاعة العرب المبهجة للأعين الذكية في حديقة الأزبكية» للأديب محمد عبد الفتاح عام 1872 هو أيضا حديث خارج إطار الظاهرة المسرحية.
3 - التشكيك في الدور الرائد للمسرحي المصري يعقوب صنوع وإنكار إسهاماته أو محاولة تقليص دوره أو تجريده من الجنسية المصرية غير مقبول الآن (وهو المصري الأصيل بميلاده ومواقفه الوطنية وجميع كتاباته طوال حياته وحتى بعد وفاته حيث رسمت المسلة الفرعونية على مقبرته بباريس)، ولا أعرف لمصلحة من يتم ذلك؟! فإذا كان شيخ المؤرخين لمسرحنا المصري الحديث د. محمد يوسف نجم قد أكد ريادته ووثق تاريخه وحقق بعض نصوصه، وأن كل الأساتذة النقاد والباحثين ومن بينهم على سبيل المثال فقط لا الحصر الأساتذة: محمد تيمور، فؤاد رشيد، زكي طليمات، د. علي الراعي، فؤاد دوارة، محفوظ عبد الرحمن، محمد أبو العلا السلاموني، قد أقروا بدوره الرائد، وبالتالي فإن محاولة الإيحاء بأنهم جميعا قد اعتمدوا على مذكرات «يعقوب صنوع» نفسه يجب أن تنتهي فورا، خاصة بعدما تم نشر تلك الوثائق المهمة والإعلانات عن عروضه - التي تضمنها أحدث إصدارات د. نجوى عانوس الصادر بعنوان “يعقوب صنوع رائد المسرح المصري ومسرحياته المجهولة” - التي قطعت باليقين كل شك، حيث أجابت على جميع الاستفسارات الخاصة بعناوين عروضه بمصر وأسماء الممثلين المصريين بفرقته.
ويطيب لي في هذا الصدد أن أؤكد أننا جميعا لا نختلف على إسهامات الرائد البناني سليم النقاش بدءا من عام 1876 وبالتالي لا أجد مبررا لتشتيت الحوار وإقحامه في نقاط الخلاف الخاصة بالبدايات قبله.
4 - بعيدا عن اسم «يعقوب صنوع» ومشاركته الريادية، فإن من المعلومات الموثقة عن بدايات «المسرح المصري» تؤكد أن المسرح العربي في مصر قد بدأ بفضل مشاركات وجهود مجموعة من الشباب المصريين الذين مثلوا مسرحية «الإسكندر في الهند» عام 1870، وأن عائلة «قطاوي باشا» كانت راعية لمجموعة مسرحيات عربية وفرنسية، وتقوم بعرضها في قصورها واحتفالاتها بدءا من عام 1870 أيضا، مما يؤكد أن هواة المسرح الذين شاركوا يعقوب صنوع عروض فرقته أو بتقديم مسرحية «الإسكندر» أو بعروض عائلة «قطاوي باشا» قد بدأوا واستمروا منذ عام 1870، وقد يكون من بينهم بعض العناصر المشتركة بين التجارب الثلاث، وبالتالي كان لهم فضل تمهيد المناخ لاستقبال فرقة «سليم انقاش» عام 1876 التي وجدت الجمهور المتذوق والمتعطش لعروضها.
المهم أن ما سبق يؤكد أن البداية الحقيقية للمسرح المصري الحديث كانت عام 1870 سواء بفضل «يعقوب صنوع أو غيره»، ويكون عام 2020 هو عام «المسرح المصري» احتفالا بذكرى مرور 150 عاما.
وتجدر الإشارة في هذا الصدد إلى أن عدم اكتمال التجارب الأولى لا ينفي وجودها ولا تاريخ بداية كل منها، وإلا سنضطر إلى نفي الريادة عن كل الرواد الذين نعترف بريادتهم المسرحية، وفي مقدمتهم: مارون النقاش (لبنان عام 1848)، وأبو خليل القباني (سوريا عام 1856)، وسليم النقاش (مصر 1876)، فجميع تلك التجارب لم تستمر للأسف، هذا مع التأكيد على أن المساحة الفارقة بين الهواية والاحترف آنذاك لم تكن قد تحددت بعد، وبالتالي اتخذت جميع تلك التجارب صفة «الهواة».
ويطيب لي في النهاية أن أؤكد أن استمرار المسرح المصري - الذي انطلق إلى جميع الدول العربية الشقيقة - لم يكن بفضل «سليم النقاش» ولا عن طريق الفرق الشامية القادمة من الشام فقط، ولكن كان بالدرجة الأولى بفضل تلك الأرض الخصبة التي احتضنت هذا الفن وذلك الجمهور المتذوق الذي تكون سريعا بفضل الشباب من هواة المسرح الذين مارسوا هوياتهم منذ عام 1870، وبعد ذلك بفضل الرواد خلال الربع الأول من القرن العشرين (سلامة حجازي، جورج أبيض، أولاد عكاشة، سليم وأمين عطا الله، نجيب الريحاني، علي الكسار، يوسف وهبي) ومن بعدهم فاطمة رشدي.


د.عمرو دوارة

esota82@yahoo.com‏