قبل الثورة .. عرض مسرحي مصري معاصر

قبل الثورة ..  عرض مسرحي مصري معاصر

العدد 643 صدر بتاريخ 23ديسمبر2019

الثورة المصرية كحد فاصل لما قبلها وما بعدها كبوابة عبور من عالم لآخر. هم نفس البشر ونفس مشاكلهم ونفس أخبارهم ولكن وقع كل هذا أصبح غريب، كم كبير من الفوضى في المشاعر ينتاب كل من شارك في الثورة أو عاصرها وتأثر بها، فوضى المشاعر تأتي  تحديدًا بعد انهيار الحقيقة. كل من شارك في الثورة لديه قناعة أنه لديه حقيقة ما، وحتى أعداء الثورة لديهم حقائق مضادة وأحيانا تتقاطع الحقائق لتعبر عن تناقض هذا الكائن المصري العجيب (المعروف بجبروته) طغيان تناقضاته. هل هو شعب مميز جدا لجمعة بين تناقضات كبيرة أم هو مشوه أو ممسوخ لنفس هذه التناقضات. هذه المقدمة هي مدخل لفهم وتحليل عرض مسرحي اسمه “قبل الثورة”، وموضوعه عن قبل الثورة وأنتج وتم عرضه بعد الثورة .
عرض “قبل الثورة” هو أحد العروض الحديثة  للمخرج المسرحي أحمد العطار إنتاج 2017، وربما يمكننا القول أنه العرض المسرحي الأخير عن الثورة والأخير هنا بمعنى الأحدث إنتاجًا، والذي يدور حول الثورة ولكن لا يتعرض للثورة نفسها.
العرض ببساطة هو سرد لأحداث حدثت قبل الثورة.
بناء النص في عرض قبل الثورة مقسم على أكثر من مستوى: الأخبار العادية التي كنا نسمعها في ذلك الوقت أو مايمكن أن يطلق عليه (المانشيت) بلغة تقريرية وصحفية ربما يكون الكاتب قام بتجميعها وتكثيفها.
المستوى الثاني هو أخبار الوفيات في الحوادث وهو ذكر اسم الضحايا والحادثة واسم المدينة أو القرية التي ينتمي لها الشخص الذي راح ضحايا الحوادث المروعة التي مرت على مصر في الفترة من سنة 2000 حتى 2010، والتي تعد كوارث مفجعة مثل حوادث قطارات الصعيد المحترقة، وحادث العبارة الغارقة، التي كانت مملوكة لرجل أعمال مقرب من النظام الحاكم .
وهنا يجب أن أشير أن هذه الطريقة الافتتاحية لعرض مسرحي أحالني إلى عرض مسرحي مصري آخر وهو (لا وقت للفن ..تحية للشهداء) وهو عرض مسرح وثائقي قائم على شهادات حقيقية لممثل تم القبض عليه واحتجازه وشاب هرب من السجن أثناء أحداث ثورة يناير وشاب ذهب للتجنيد وكان لا يعلم شيئا عما يحدث واستخدمت  بشكل مختلف حيث كانت توزع ورقة على المتفرجين بها اسم الشهيد ويقوم كل متفرج بقراءة اسم الشهيد وسبب الوفاة . المستوى ثالث هو أخبار العمليات الإرهابية الناجحة مثل إغتيال الكاتب والمثقف فرج فودة ومجزرة معبد حتشبسوت بالأقصر. المستوى الرابع هو حبكة المسلسلات التلفزيونية قبل الثورة ويختار الكاتب نموذجين نموذج لرجل الأعمال فاسد يفقد الذاكرة ونموذج لصعود طبقي لفتاة فقيرة من خلال الزواج برجل أعمال يكبرها في السن.
المستوى الخامس وهو كتابة خيالية عن مواقف بين زوج وزوجة من طبقة متوسطة في أثناء شجارهما وتوبيخهم بعضيهما وتعبيرهم عن الكره الشديد والاحتقار وموقف أخر لرجل يستغل خادمته ويجبرها بحكم سلطته عليها لممارسة الجنس الفموي معه.
هذه المستويات جاءت من خلال تتابع يبدو غير مترابط، هو تتابع غير خطي لا يؤدي الى تصاعد درامي تقليدي ولكن كل جملة من الممثل والممثلة تحمل شحنة درامية قليل من التوتر تدفعك للتورط في اللعبة وانتظار السطر القادم أو الحوار بين الممثل والممثلة الذي سوف يبتر بغتة بذكر أحدهم خبر ما ليس له علاقة بالحوار بينهما وكل هذا يحدث بسرعة فلا توقف ولا تغيير للمنظر المسرحي من خلال المزج / الخلط بين الخيالي والغير الخيالي، ينقل هذا العرض الجمهور إلى اللحظة التي تسبق الغليان الحتمي(الثورة)، مما يسمح لهم بفهم وشعور الأسباب التي أدت إلى الثورة، ضمن بيئة بصرية وتصميم صوتي خاص.
لو تم مزج هذه المستويات بتكثيف سوف تحصل بالطبع على سياق ما معرفي أو عاطفي إذا كنت تقرأ ترجمة النص والعربية ليست لغتك الأولى. سوف يتوفر لديك كم من المعلومات عن الحوادث التي مرت بمصر بتواريخ مع بعض الفواصل الدرامية عن المسلسلات المصرية أو المواقف التي كتبها الكاتب على نفس نمط المسلسلات ولكن حملت مفارقة أكبر في إستخدام السلطة كمشهد السيد والخادمة وممارسة الجنس الفموي وهذه المواقف التي قد لا تفهمها من المرة الأولى وعلاقتها بالمعلومات عن مصر ولكن مع التكرار والنسق ستتمكن من الربط في النهاية، والسياق الثني هو العاطفي وهو يتكون مع تذكيرك بكل هذه الحوادث التي مرت عليك كل هذه الوجوه والأسامي المشاهد المروعة ومانشيتات الجرائد المصرية الجافة التي تذكر أرقاما وإجراءات. يبدأ العرض بكلمة قبل الثورة وتتكرر الجملة كثيرا قبل الثورة كان في مسلسل عن رجل أعمال فقد الذاكرة ويلي ذلك وصف لبعض أحداث المسلسل، وبعد ذلك مانشيتات أو اسم شخص مات في أحد الحوادث الآنف ذكرها أو بعض معلومات من ويكيبديا عن حادثة الأقصر أو جزء مقتطع من أقوال قتلة فرج فودة ربما يكون المصدر ويكيبيديا أو جرائد مصرية أو مصادر أخرى، وأثناء العرض يصاحبه مقطوعة موسيقية إلكترونية في الخلفية طول الوقت محكمة ومعدة بعناية، لتؤكد على وحدة هذا العرض, المقطوعة من تأليف حسن خان وتدفعك للبقاء في توتر وترقب .الممثل المصري (رمزي لينر) كان مميزًا في أداء المقاطع الجافة التوثيقية، في أحيان كثيرة كان يُحملها شحنات غضب كهتاف، ولكن نبرته كانت أشبه  بهتاف الجنود النمطي، أو إعلانات على الملأ في حشد، ولكن كان مكتوما، كان محاكاة تمثيلية وهذا بالطبع كان تقنية تمثيلية، ناندا محمد الممثلة السورية كانت تتكلم باللهجة المصرية طوال الوقت وكانت أيضا مساحات التمثيل متنوعة مابين الزوجة الساخطة والخادمة مميزة جدا في نقل الشخصية المسطحة \ النمط وتحميل الحوار بمشاعر مختلفة وظهر هذا بوضوح في مشاهد الزوجة ومشاجرتها مع الزوج وأيضا في الغناء أحيانا أغنية الألتراس والذي بذكر أغنياته يحيلنا بالضرورة للصراع السياسي بعد الثورة  ودور هذه  المجموعات من المشجعين  في الصراع السياسي بعد ثورة  25 يناير، لذلك يعد العرض بانوراما أحداث ومشاهد شكلت الغضب والذي هوالإرادة الحرة * للفعل المسرحي إذا أعتبرنا أن كل فعل مسرحي يحتاج إرادة حرة وإرادة أخرى مضادة لحدوث صراع .
على مستوي المنظر المسرحي نجد أن التصميم البصري للمنظر على خشبة المسرح جد بسيط حيث يرتدي الممثل والممثلة نفس الزي بنطلون رمادي وقميص أبيض وبابيون حمراء للمثل ويقفون داخل قطعة ديكور مستطيلة مليئة ب المسامير تلك القطعة التي ترتبط بالسحرة الهنود الذين يرقصون مع الأفاعي بالمزمار الطويل وينامون على مسامير حادة بدون أن يتأذوا تسمى سرير المسامير. وهذا المشهد لا يتغير على مدار العرض لمدة ساعة، الممثل والممثلة متجاوران لا يوجد بينهما أي تواصل جسدي ينظران في اتجاه الجمهور طوال الوقت، وصوتهما هو الذي يحمل الشحنات الدرامية، أو يكون محايدًا وكأنها مسرحية إذاعية. ولكن لا يمكن أن تغمض عينك وتتلقى العرض بنفس الطريقة لأن الصورة حتى لو كانت ساكنة هي أساسية لأن تحدث عليك تلك السطور المسرودة الوقع المناسب والذي سيختلف من متلقي لآخر. العرض لذلك لا يمكن إغفال الصورة من هذا العرض وبالطبع اختيار السكون هو اختيار فني ليعبر عن سكون المجتمع قبل الثورة، الممثل والممثلة نموذج للطبقة الوسطى المصرية انفعالاتهم وطريقة السباب وتراكيب الجمل وقوة الصوت أو ضعفه حدته  التي لا نعرف أيهما أسبق هل هذه الطريقة تكونت من التليفزيون أم التلفزيون هو معبر حقيقي عن الشعب ولغته والتليفزيون أقصد به الدراما التليفزيونية والبرامج الحوارية هل هذا المزيج هو ما كون شخصية شفافة نلبسها كلنا، شخصية الطبقة الوسطى حتى لو لم ننتمي إليها، لا أعرف إن كان العرض يريد أن يدفع المتفرج لذلك ولكن هذا هو الأثر المهم لتجربة مشاهدة هذا العرض هو أن هناك شخصية ما كانت تعبر عن الطبقة الوسطى وأعتقد إنها تنتمي لعالم قبل الثورة، وأن الشخصيات بعد الثورة تمتلك تراكيب لغوية مختلفة وهيئات متعددة أكثر تطرفا .
قبل الثورة لا يتخذ جانبا سياسيا أو يقوم بالحكم على عصر ماقبل الثورة هو يكثف ظواهر رآها الكاتب تمهد للثورة وبما أنه لم يتطرق للثورة فلا يوجد حكم على الثورة، فقط هي محاولة رصد مرحلة الغليان الفريدة التي يحاول الكثير تفسيرها أو إعادة تخليقها .
هوامش
* الإرادة الحرة من تفسير أوجوستو بوال لكيفية بناء الشخصية ص 40 البناء الجدلي لتفسير الممثل لأحد الأدوار
كتاب العاب الممثلين وغير الممثلين تأليف أجوستو بوال  Augusto Boal  ترجمة وتقديم وليد أبوبكر إصدار مسرح عشتار 2005
 

 


عادل عبد الوهاب