التنظير والتنفيذ للمنودراما التعاقبية

التنظير والتنفيذ    للمنودراما التعاقبية

العدد 639 صدر بتاريخ 25نوفمبر2019

لعلّ العرض الثاني المنودرامي (لا أحد يطرق بابي تأليف عبدالرزاق الربيعي)  الذي قدمته داخل الكنيسة حيث وظّفت جغرافيتها وكورالها الإنشادي للعرض كان أول القدح في إمكانية تقديم عرض منودرامي مغاير ومختلف من حيث الحلول البصرية والفكرية، ولكن شرارة القدح لم تكن كافية في ولادة الفكرة بصورة واضحة، اذا كانت محاطة بالتساؤلات التي فتحت شهية القراءة لتاريخ المسرح والمنودرامي منه بشكل خاص مروراً بمحاولاتي المتواضعة ومشاهداتي السابقة لتجارب مبدعين مسرحيين منودراميين كل هذه دفعتني أكثر إلى الوقوف عند السائد العرض المنودرامي وطرح تساؤلات حول بنيته البصرية والمضمونية، وهل من الممكن تغيير هذه البنيّة تغييراً جوهرياً وجديداً في النص والأخراج والتمثيل وتأثيث الفضاء المسرحي؟؟؟
وفي مقابل هذا التساؤل كان ينتصب أمامي تساؤل مغاير : هل هذا التغيير الذي بدأت التفكير به يتحول إلى مشروع عملي يمكن تنفيذه كعرض مسرحي لا يتناقض مع تسمية العرض المنودرامي، وبالعكس من ذلك يتخلص من النمطية والثوابت ويضيف إليه حيوية بصرية ممتعة ومؤثرة ومشحونة بالجمال والمعرفة.
ومع سيل من التساؤلات التي كنت أطرحها ومازلت على نفسي كانت أراء وعناوين ومواقف معارضة، مشككة، غير مقتنعة لحضور العرض المنودرامي لا تغادر ذهني لاحظت أن هذه الأراء رغم تباين مستويات أو لرفضها العرض المنودرامي، إلا أنها تؤكد لادرامية المنودراما، بمعنى أنها تفتقد للصراع الذي يعتبر أهم جوهر في أي عرض مسرحي، ومثلما قلت سابقاً أن مثل هذه الأراء المعارضة للمنودراما هي أيضاً كانت الدافع المحرّك في تواصلي لتغيير البنية البصرية والمضمونية للعرض المنودرامي، حيث يكون السرد أو أحاول أن يتخلص من جغرافية الماضي والإستذكار والإستحضار ويتناول الحاضر والأني وليصبح أكثر فعالية وتصادماً ومثيراً ومحرضاً لوعي المشاهد وبل دافعاً له نحو المشاركة في العرض وبل المساءلة حول أحداثه أوشخصياته المتعددة .
يشير تاريخ التجديد في المسرح إلى أسبقية التنفيذ للتنظير، لكن مشروعي بدأ بالتنظير ومن ثم ذهب صوب التطبيق،وبعد نشري لنص التنظير كتب عنه مسرحيون وكتّاب وباحثون عراقيون وعرب، ومع أهمية وحميمية تلك الكتابات أقف هنا عند بعضها، حيث يقول الباحث المصري الدكتور أبوالحسن سلام إذ يقول في بحث طويل عن المنودراما التعاقبية : (هي مونودراما الحدث الواحد، المتباين فيما بين استعادته مرتين أو على جزئين، الجزء الأول من خلال أحد أطراف الصراع، والجزء الثاني يدّخر للطرف الثاني من الحدث، وهذا اللون من المونودراما يوازن بين عرضين لحدث درامي واحد من خلال طرفي الصراع؛ ليترك للمتلقى حق تقدير ما يعرض عليه، ومن ثمّ يضعه أمام الصورتين المستعادتين من خلال رؤيتين متناقضتين؛ تزعم كل منها أنها تعرض حقيقة ما حدث) ويضيف قائلاً: (هذا تجديد برأيي يعادل تجديد أسخيلوس لإضافة الشخصية الثانية ) ويؤكد أهمية المشروع المنودرامي التعاقبي الذي(إبتكر شعرية منودرامية جديدة تتوافق مع ثقافة التعدد لعرض المنظور الأخر في مواجهة إنفرادية المنو) وعن المشروع تحدث الكاتب العراقي المعروف علي الزيدي قائلاً : (يعاني جنس المونودراما الكثير من الخلل في بنيته وطريقة كتابته وعرضه على خشبة المسرح، وتحول في الأغلب من تجاربه على مستوى الكتابة والعرض معا الى ثوابت من الصعب تجاوزها بسبب محدودية الفعل وآليات التعبير وسواها، مشروع الصديق الجميل فاروق صبري يحاول كسر هذه الثوابت من خلال تطوير آلية كتابة وعرض مسرحية المونودراما، وهو مشروع اجده هاما مادام يهدم الثابت باتجاه بناء ماهو جديد، واعتقد ان فعالية الاخراج واعني تطبيق هذا المشروع من الممكن جدا ان يكتشف استاذ فاروق اشياء جديدة ايضا لمشروعه المثير للجدل مسرحيا) وفي نفس السياق قال المخرج العراقي مقداد مسلم (إطلعت على مشروعك و مقترحاتك لتقديمه، وهو مشروع جيد جدا وقد أعجبني، ويذكرني ببعض المشاهد في عدد من مسرحيات برتولد بريشت  حيث تروى القضية من وجهتي نظر شخصيتين مختلفتين لكن في مشروعك بعض التطوير لما طرحه بريشت)، ومن سوريا سجل الكاتب والناقد المسرحي عبدالفتاح قلعجي رأيه في نص المشروع التنظيري رأيه قائلاً :( هذا المشروع يضفي حياة جديدة على المونودراما التقليدية وينقلها من دائرة العرض للحدث أو الشخصية إلى دائرة البحث في الحدث أو الشخصية. ب‌- كما أنه – أي المشروع - يخفف مما تتهم به المونودراما بأنها تقدم شخصية مريضة مأزومة، هذا إن أحسن معالجة النص. ت‌- يخفف من الملل الذي يشعر به المتفرج حين حضوره بعض المونودرامات. ث‌- يحقق دراما الصدمة بنقل المتفرج فجأة من رتابة العرض إلى أفق جديد في عرض الموضوع أو الشخصية. ج‌- إذا تم تطوير المشروع فإنه يمكن أن تنتقل “الدراما التعاقبية” إلى مرحلة “ الدراما التوليدية” بمعنى توالد الأفكار من بعضها بعضاً وتوالد موشوري أو تطويري للشخصية أو الشخصيات. وهذه المرحلة صعبة جداً ولكنها ممتعة.) وقال الكاتب محمود جميل قادر المشرف على القسم الثقافي لجريد الرأي الاردنية : (التعاقب فكرة تستحق النقاش.. وصولاً إلى لحظةِ تزامنٍ تعبيريةٍ أدائيةٍ تتصدى خلالها كل شخصية لِمَنَصَّةِ البوح يسردان ويتداخلان ويستمع النظارة ويشتُّ النظارة ويركزُ النظارة ويختارُ النظارة الصوت الأكثر تأثيراً المسكون بإحساسٍ عميقٍ بصدقيته وسكون الحقِّ فيه...
أفكارك هنا حول تطوير الصيغ القائمة لمسرح المونودراما جديرة بالنقاش وتبادل الآراء والعصف الذهني )، وأختم هذه الوقفات مع المشروع عند رأي المخرج النيوزلندي ديفيد كنكتون حيث قال :
 I ma to take it in a am really intrigued with your endeavour to modify the format of Monodranew direction.The idea of viewing the same situation from the perspective of 2 different characters has real appeal. We always see situations from our own perspective which then becomes our absolute truth but when viewed from another persons perspective can be seen in a totally different light.I would really like to see you pursue this and see what eventuates from it. I totally endorse your endeavours.
Regards
David Coddington
Head of School of Performing Arts @ Manukau Institute of Technology Assoc. Director South Seas Film
and TV School
Director The Real Theatre Company Lt

والترجمة إلى العربية : أنا أعتبر أن الأمر مستغرب للغاية في سعيكم لتعديل تنسيق اتجاه Monodranew. إن فكرة عرض الموقف نفسه من منظور شخصين مختلفين لها جاذبية حقيقية. نرى دائمًا مواقف من وجهة نظرنا الخاصة والتي تصبح بعد ذلك حقيقتنا المطلقة، لكن عند النظر إليها من منظور شخص آخر، يمكن رؤية ذلك من منظور مختلف تمامًا. أود حقًا أن أراك تتابع هذا وترى ما الذي يحدث من ذلك. أنا أؤيد مساعيك تمامًا.
مع تحياتي
ديفيد كودنجتون
رئيس مدرسة الفنون الأدائية بمعهد مانوكاو للتكنولوجيا. مخرج فيلم البحار الجنوبية
والتلفزيون المدرسة
مدير شركة المسرح الحقيقي

ومما لا شك فيه ان مشروعي المنودرامي التعاقبي لا يتكئ على الفراغ ولا على التنظير التجريدي، إنه يستند على ميراث المعرفة التنويرية والذي غامر منتجوه في صناعة الجديد وبل والتسابق في تجاوز التابوات والقواعد والأنماط  وإنجاز رؤى واساليب وعوالم وفضاءات غير مسبوقة، وفي تاريخ المسرح ومسيرته الطويلة الغنية نجد مبدعين حاولوا خلق بصمات خاصة وتأسيس تيارات مازال البعض منها يتواصل ويتجدد من جيل إلى جيل ومن بلد إلى بلد أخر ولعل هذا الأمر جوهر الإبداع وهاجس ضروري يمتلكه المبدع المعرفي .
ومع أهمية هذه الكتابات المهمة حول المشروع من المفيد والضروري أن أسجل فرحتي لأن يكون معي الكاتب المبدع صباح الأنباري (المقيم في استراليا ) مشاركاً في تنفيذ مشروع المنودراما التعاقبية حيث كتب ثلاث نصوص(أسئلة الجلاد والضحية، القاص والقنّاص، القتيل والقاتلة)، وفي أولى تجارب التنفيذ إخترت نص (أسئلة الجلاد والضحية) بعد دعوة الجمعية الثقافية العراقية الكندية لي عام 2016، بدأت البروفات في تورنتو- ماسيسكا، وبعد شهرين كان العرض المنودرامي التعاقبي، كتب الناقد العراقي جمال شريف المقيم في كندا عن العرض في موقع إيلاف إذ قال عنه بأنه قدم (بشكل مونودرامي تعاقبي تألق مخرج المسرحية فاروق صبري في توجيه العمل بتكتيك بريختي وتقليدي في آن معا حيث استطاع ان يفرض على الجمهور متابعة العرض في اجواء تفاعلية دون ملل كونها مسرحية غير تقليدية يغيب عنها البناء القصصي التقليدي وما يسمى “Plot” أو الحبكة وكذلك كونها بعيدة عن الاجواء الكوميدية التي اعتادها الكثيرون بل انها مسرحية ناقدة تستعرض مأساة أمة باتت تتكرر لنصل إلى قناعة بان الضحايا يتحملون مسؤولية صناعة جلاديهم من خلال وجهتي نظر النقيضين سواء كان الجلاد ام الضحية) وختم شريف قراءته النقدية للعرض قائلاً (لمسرحية اضافة درامية جديدة للمسرح العربي جديرة بالمشاهدة تظافرت فيها جهود جميع العاملين فيها باشراف مخرج لديه فكر مسرحي متميز اوصلت ثيمة المسرحية بأسلوب فني مبتكر و ممتع في آن معا ) وقد كتب الأستاذ الجامعي الكاتب تيسير عبدالجبار الألوسي ( المقيم في هولندا) كتب عن هذه التجربة(التنظير والتطبيق) مقالً نقدياً مهماً لجهة رؤيته الأكاديمية، أستقطع منه هذه الفقرات (ولابد من التذكير أيضا أنّ صاحب بيان المونودراما التعاقبية قد طوَّر اشتغاله بالتوكيد على مونودراماأولى تعقبها ثانية بطريقة تندمج وتتحد بها وتكون اتجاها متقاطعا معها في ثنائية التعاقب الزمني والسببي بطريقة تفصح عن مسوغات التسمية وآلية التجسيد بوفها جنسا دراميا ربما سيضع خصوصية هويته واستقلاليته ومن هنا أضع هذه الإضافة ايضا لاستكمال القراءة وتحديثها بما يتفق واتجاه العمل التنظيري من جهة ومحاولة تنفيذه تطبيقيا عمليا بمونودراما أسئلة الجلاد والضحية ) وفي نهاية مقاله النقدي قال الألوسي (كانت مونودراما (أسئلة الجلاد والضحية) حفلة عرض مسرحي تنتمي إلى الذاكرة العريقة للمسرحية العراقية ومفرداتها ومن هذه الجذور الموحية نستنطق مضوموناً حاولت المونودراما به اختراق الهوية المحلية لتنتقل إلى الإنساني الأشمل في تغطية وجودنا وفي استيلاد منجز جمالي لفن ملتزم إنسانياً ) .......
وكانت التجربة التنفيذية الثانية للمشروع عام 2017 في بغداد ومن إنتاج وزارة الثقافة –دائرة السينما والمسرح، وبعد شهور من البروفات ولد العرض وقدم على صالة الرافدين والذي حظي بالعديد من المتابعات والكتابات النقدية، هنا أشير إلى الناقد الشاب في عقليته أمجد ياسين، كتب عموداً ومقالة  في جريدة الصباح ففي عمده تحدث عن ثلاثة نماذج لعروض مسرحية طرحت أفكارها بجرأة وحدّية، قال ياسين (الانموذج الثالث كانت مسرحية “مانيكانات “للمخرج فاروق صبري، والتي دارت حولها ضجة كبيرة، شملت نصها وبعض المشاهد فيها وفكرة العمل عموما) إذ كانت (كان اكثر وضوحا وجرأة ولم يقتصر على مشهد واحد فقط، وهذا هو احد الاسباب التي جعلت سهام النقد تتجه نحوها بقسوة، حتى تحولت من المسرحية كعمل وعرض لتطول الجانب الشخصي للمخرج. ليس الغرض من هذه المشاهد في المسرح الجاد استقدام الجمهور مثلاً، ولكن فكرة العمل استوجبت ذلك، وفق رؤية الاخراج بالتأكيد)، أما في مقالتع فقد قال الناقد أمجد ياسين (يستعير المخرج فاروق صبري ثيمة المانيكات ليلبسها أثوابا واقعية، بعدما كانت مجرد حاملة للأزياء، ها هو يخرجها من صمتها البصري ويحركها باتجاه ان تحمل رسالة تبلغها لنا، لقد حملت المانيكانات طاقة رمزية يمكنها أن تنقل صورة عن الواقع عندما توضع في سياق فني، هذه الاستعارة  دلالة على الانسان المستلب، المجرد من إرادته، ليلبسه الآخرون ما يشاءون من ملابس أو أفكار، ، ولأنها لا  ملامح محددة  لها او عنوان، تصبح دمى تتفرج على الجمهور، منتقلة من واجهات محلات الملابس، التي تقع عليها رؤية المشتري، إلى واجهة المسرح محملة بخطاب توجهه للجمهور )، وختم مقالته قائلاً (شاهدنا معالجة اخراجية مختلفة نوعا ما عن ما شاهدناه في اعمال مسرحية سابقة، لا يحس المشاهد بان هناك حاجة لتلاقي الممثلين على الخشبة او في مشهد مشترك، فقد نجح صبري في منحنا هذا الاحساس، بعد ان استعاض بحضور الاخر كخلفية او صوت او حركة مكررة ادتها الشخصية الاخرى في مشهدها الخاص، لنكن في زمانين ومكانين مختلفين،فكانت كل شخصية تحاور نفسها – ذاتها- وتبرر  او تنفي ما قيل عنها او ما سيقال)، والكاتب الديناميكي أحمد جبار غرب كتب في جريدة الزمان العراقية مقالين عن العرض، حيث يقول (وهنا سواء كان الجلاد أو الضحية لا تمثلان شكلا فرديا للجلاد والضحية و أنما ينعدم الزمان والمكان ليكون في فضاء العالم المترامي الإطراف مع إشارات ذات مغزى لواقع ما تقبع خلفه السوداوية والعنف ونتيجة لذلك تفقد الضحية سلوكها الطبيعي وتتجه للجنون  نتيجة الممارسات الوحشية للجلاد ) ويضيف (   العرض المسرحي المشوق وفيه جماليات المكان والقسوة والرعب والإيقاعات الهيتشكوكية )....
ومن المهم أن نذكر بأن التنفيذ العملي للمشروع يتطلب إقامة ورشة فنية لمدّة لا تقل عن أسبوع كامل يشارك فيها كتّاب وممثلون وفنيون وطلاب وقد وضعت برنامجاً كاملا لهذه الورشة الفنية ويمكن خلالها مناقشة وطرح معلومات ومعطيات تخص تجارب العرض المنودرامي وقراءة نص المشروع بصورة تفصيلية تخص الرؤية الأخراجية والأداء التمثيلي وفضاء المسرح وتأليف النص...
هناك مقولة لا تهدأ في روحي وتتماوج مع نبض القلب، المقولة هي : لابد أن أن نحلم، وأنا أمارس الحلم كهواء أتنفسه وأحاول وهذا هو الأهم، وفي هذه الأيام حلمي أن أتواصل  تنفيذ مشروعي “ المنودراما التعاقبية” عبر ورشات فنية  ينجز خلالها المبدعون المسرحيون خلالها عروضاً ونصوصاً  مسرحية منودرامية متعددة التعاقب ومختلفة المضامين والرؤية ....


فاروق صبري