«يوم أن قتلوا الغناء».. عناصر إخراجية مبهرة وفكرة حماسية وقتية

«يوم أن قتلوا الغناء».. عناصر إخراجية مبهرة وفكرة حماسية وقتية

العدد 637 صدر بتاريخ 11نوفمبر2019

 السلام والهدوء وسكينة النفس والأمان و الطمأنينة, هي غاية كل كائن في الوجود, خلق الله الكائنات كلها كي تعزف موسيقى الحياة في القلوب, كي تسعد وتتعاون من أجل البناء والاستقرار, وعليها أن تحيا بحب وألفة, وأن تنبذ الصراع والوحشية وشهوة السلطة و السيطرة, فالحياة خلقت كسيمفونية متكاملة ينظمها إيقاع واحد للوجود تأنسه الكائنات من حيوان وطيور وأشجار وإنسان وشمس وقمر ونجوم, لا يستطيع أحد أن يمنع موسيقى الكون من العزف والغناء, أو يحرم كائنا ما مثل عصفور رقيق من الشدو بصوته الجميل, أو يمنع حفيف الأشجار أو هدير الأمواج وخرير الماء, كل شيء في الكون يغني للجمال و السلام. هذا ما خلقنا الله عليه. فهل نمنعه نحن؟ هل يمكن تصور أن يتوقف الإنسان عن الحب والموسيقى والغناء, أودعنا الله المشاعر والإحساس , فكيف نقتلها نحن؟ هكذا كانت صرخة عرض (يوم أن قتلوا الغناء), هي صرخة ضد الظلام والأفكار الهشة التي تصيب الأمم بالجهالة, وتنشر الدماء والقهر, هي ثورة ضد من يعانون الأمراض النفسية و يفرضون سطوتهم على عقول دمروها من أجل تحقيق سلطة أو شهوة مال. (يوم أن قتلوا الغناء) انتفاضة ضد الفكر الداعشي, الذي انتشر كالنار في الهشيم بين عقول بعض الشباب دون وعي وقد ألغوا إدراكهم, هذا الفكر المتطرف الذي استغلته قوى الشر في العالم بالأخذ بقشور مغلوطة تسللت به  إلى العقول من أجل السيطرة على الأمة العربية وزرع الفتن والحروب في العالم الثالث والشرق الأوسط, .. (يوم أن قتلوا الغناء) أب يبحث عن سر الكون, مات وقد تركين أخوين متضادين في الفكر, أحدهما ينشد السلام و المحبة ويدعوا الناس للبناء بالحب والغناء والتعاون, والأخ الآخر غشيت عيناه بالخرافات الأساطير والمجهول فصار قاسيا سفاحا غارقا في التسلط والظلم والقهر. يفرض سطوته على الناس بجهله وفراغة عقله. يمنع الناس من الألفة و الغناء والحب. ظنا منه أن قوته وجبروته لهم النصر في النهاية. صنع لنفسه إلها من جهله وخوفه وضعفه وبات يعبده, فصار الخوف والجهل يحكمان عقله وحياته بل ويحكم هو من خلالهما الناس من حوله, لكن على الجانب الآخر كان أخوه محبا طيبا جميلا بين الناس يدعوهم لبناء سفينة الحياة بالحب و الغناء سر الكون والوجود, تلك الفكرة المستمدة من سفينة سيدنا نوح عليه السلام, فالحب و السلام هو رسالة الأنبياء, سفينة النجاة التي يحلم بها الجميع لبناء مستقبل أفضل يسوده السلام بين الجميع. ورغم محاولات أخيه ذو الفكر الداعشي المظلم لهدم سفينته والقضاء على كل من يحاول أن يحب أو يفكر بالغناء, إلا أن إرادة الله للحب والحق الغناء وعمار الأرض هي الغالبة لتنتصر في النهاية قوى الخير و الجمال, فلن يستطيع أحد أن يقتل الغناء. نلحظ هنا أن الدراما قد سارت في خطين متوازيين, في حالة استاتيكية, وعندما تلاقى الخطان لم تتشابك العقدة الدرامية بشكل قوي, وسرعان ما فك المؤلف خيوطها بشكل درامي تقليدي مأخوذ من تيمات درامية قديمة وتقليدية.
 رؤية إخراجية دسمة لفكرة ناعمة تتلاعب بالمشاعر والقلوب, شكلت فيها خطوط الحركة المركبة عاملا مهما, فكانت مثل شبكة حركية معقدة, ما بين التمثيل في عمق المسرح ومقدمته وعلى جانبيه بمستويات عدة, أضفت منظورا بصريا للسينوغرافيا قادها المخرج بوعي فني عال, لاسيما حينما تتداخل معها تشكيلات الدراما الحركية المعبرة و الرائعة التي وضعها (عمرو باتريك). وكان لدخول المعبرين عن قوى الغناء والحب من الصالة بين المتفرجين في النهاية تأثيرا عميقا لتدعيم الفكرة, وأيضا لحظات النهاية بتقدم السفينة على الخشبة نحو الصالة وهي تحمل كل المحبين بقيادة نبي الغناء (ياسر صادق), أثرت بقوة بمشاعر المشاهدين قوبلت بحرارة التصفيق. لم يشب العرض سوى بعض الإطالة في المشهد الكوميدي الخاص بعامة الناس في لهوهم في حياتهم العامة.
  كما كان لديكور د.(محمد سعد) دور كبير وتواجد قوي من خلال كتل ديكورية ضخمة استولت على مساحة المسرح كله وامتلأت بها جنباته بتشكيلات صخرية توحي بجمود الفكر وتحجره, يكملها في عمق المسرح قناع لإله وهمي بداخل معبد يفتح فمه ببلاهة للدلالة علة ضعف ووهن اتباع هذا الفكر, يحيطه مجموعة من الطواطم أو تماثيل لحيوانات التي توحي بالجو المخيف داخل المعبد مما يزيد رعب التابعين لهذه السلطة  الداعشية, يقابل ذلك في مشهد العامة في ساحة القرية خلقيات متموجة ذات ألوان رمادية تعبر عن وضع عامة الناس الذين في خوف من حاكمهم وتردد, وتوحي بالكبت الذي يعيشونه فظاهر حياتهم يختلف عما يجيش بصدورهم من رغبة في الحرية و الغناء والحب. أما المنظر الثالث لبناء السفينة, فقد استخدم فيه موتيفات بسيطة بأحجام متوسطة أضيفت لخشبة المسرح, عبرت بفاعلية عن البناء والرغبة في السلام لدى هؤلاء المحبين الراغبين في الغناء. تكاملت الملابس لمروة منير مع الديكور, فكانت جيدة ومناسبة ومتناسقة مع العصر الأسطوري للحدث ومع التشكيل السينوغرافي العام للعرض وللشخصيات المؤدية.
 تضافرت الإضاءة الموحية و المعبرة مع الديكور في تشكيل سينوغرافيا بصرية جميلة أدت دورها الدرامي كما يجب, قام بتصميمها (أحمد عبد المعبود) واستطاعت أن تبرز المدلولات الدرامية والانفعالية في كل حدث, فكان لها تأثيرا حسيا ومنظورا جماليا معبرا بصدق في العديد من المشاهد مع إجادة استخدام توزيعات الألوان وخطوط الإضاءة المحسوبة بدقة جمالية رائعة, فجعلت المتلقي يتعايش مع الحدث منذ بداية العرض حتى نهايته. لكن فقط شابها قليل من الإسراف في إسقاط الألوان لبعض اللحظات تحتاج للترشيد لإظهار الحدث التمثيلي وبيان وجوه الممثلين المؤديين (ولعل هذه الملحوظة انتشرت كثيرا في معظم العروض هذه الأيام) حيث نرى اهتماما كبيرا بتوزيع ألوان الإضاءة باستمرار ومبالغة, وكأنها مسرحية درامية موازية وليست من ضمن نسيج الحدث المسرحي.
 لم يقل دور الموسيقى المؤثرة والتي صممها (أحمد نبيل) عن دور الديكور والإضاءة, فاستحقت أن تحتل مكانا كبيرا في الحدث الدرامي لا تنفصل عنه فظهرت كموسيقى تصويرية تأثيرية, مع استعمال آلات قوية معبرة مثل التمباني, في مقابل آلات نفخ بسيطة ذات شجون, فكانت كلها سيمفونية رائعة متكاملة , شكلت وحدها نصف إمتاع العرض المسرحي.
 وكان التمثيل من أجمل عناصر العرض وكأننا نشاهد دروسا في التمثيل من أبطال العرض بقيادة القدير (ياسر صادق), فتمكن ياسر صادق بصدق مشاعره وإخلاصه لطبيعة الدور أن يسيطر على مشاعر المتلقي ويجعله يندمج معه في رسالته نحو البناء و الحب والغناء, فكان رزينا جادا معبرا, له مذاق خاص في أداءه وخبرة يتعلم منها من يشاهده, وكل الممثلين بلا استثناء مناسبين ومجيدين لأدوارهم, فأحسن المخرج توظيف كل منهم في دوره شادي سرور، طه خليفة، ألحان فؤاد، حماده شوشة، محمد ناصر، هايدي رفعت، ويذكر أن الأداء صوتي للنجم نبيل الحلفاوي قد أضفي تأثيرا خاصا للعرض.
 (يوم أن قتلوا الغناء), عرض كبير وقوي, يناقش فكرة كبيرة ليست هينة, حول الانقلاب الواقع في العالم الآن, كل حروبه وصراعاته, لماذا؟ وكيف؟ وكيف يتوقف؟ لكن لم يتعمق الكاتب في مناقشة الفكرة, لم يناقش المضمون, إنما تناول قشورها من الظاهر, فالتطرق لمناقشة المضمون مهم كي تصل  الفكرة بتأثير أقوي للمتلقي, وكان البناء الدرامي لها متواترا, مثل مصفوفة متباعدة القطع, تحتاج لشيء من التأني والتأمل وتعميق وتشابك التكوين الدرامي للأحداث, رغم ذلك استطاع المخرج أن يبرز شكلا فنيا ضخما ورائعا بفنه وخبرته, أبهر به المتلقي, نحو تأثير وقتي  قوي على المشاهد يمتعه ويسلب عقله ومشاعره أثناء زمن التلقي فقط.


أحمد محمد الشريف

ahmadalsharif40@gmail.com‏