رحل سامي عبد الحميد وظل عطاؤه الفذ وإرثه العظيم خالدين

رحل سامي عبد الحميد وظل عطاؤه الفذ وإرثه العظيم خالدين

العدد 633 صدر بتاريخ 14أكتوبر2019

فقد المسرح العراقي، مع رحيل الفنان سامي عبد الحميد صباح الأحد 29 سبتمبر 2019 في بغداد، آخر الأسماء الكبيرة من جيل المؤسسين بعد حقي الشبلي وإبراهيم جلال وجعفر السعدي وجاسم العبودي ويوسف العاني وبدري حسون فريد. وقد عمل الراحل مع هذه النخبة ممثلاً ومخرجاً منذ نهاية أربعينات القرن الماضي، وشاركها في بناء أسس أكاديمية سليمة للمسرح، خاصةً عقب دراسته في أمريكا وبريطانيا.
ولد عبد الحميد، لأسرة من أصل تكريتي، في مدينة السماوة جنوب العراق عام 1928، حيث كان والده يعمل هناك مديراً لمؤسسة مالية، وكانت المرة الأولى التي اعتلى فيها خشبة المسرح في مدينة تكريت، إبان السنوات الأولى من الأربعينات، حينما عرض عليه مدرس اللغة العربية في متوسطة “التفيّض” بمدينة سامراء  دور البطولة في مسرحية عنوانها “أنا الجندي”، ولم يكن وقتها يعرف شيئاً عن المسرح، ولم يكن قد قرأ نصاً مسرحياً أو شاهد عرضاً مسرحياً لأن المسرح آنذاك “لم يكن يتحلى بسمعة جيدة، بل يرتبط بالمنتديات الليلية، وما فيها من فجور وعربدة” كما يقول في كتابه “تجربتي في المسرح”. كما أن المخرج لم يكن يعرف شيئاً عن المسرح، ولذلك فقد كان يرشد فقط إلى كيفية إلقاء الجمل وأداء بعض الحركات البسيطة. ثم مثّل دور والد “كليانت” في مسرحية “البخيل” لموليير التي أخرجها مدرس اللغة العربية في احدى المدارس الإعدادية بمدينة الديوانية. ولم يمضِ وقت طويل حتى بادر مدرس مادة الرسم إلى إخراج مسرحية “في سبيل التاج” للفرنسي فرانسوا كوبيه، وترجمة مصطفى لطفي المنفلوطي، وأسند إليه دور الملك الذي يُقتل ويُقام له تمثال في ساحة المدينة.
عندما دخل كلية الحقوق طالباً، أواسط الأربعينات، عرف عبد الحميد أن يوسف العاني قد شكّل مجموعةً مسرحيةً من طلبة الكلية أسماها “جمعية جبر الخواطر” هدفها تقديم مسرحيات قصيرة داخل الكلية وخارجها، لكنه بقي متردداً مدةً في الانضمام إلى هذه الجمعية اعتقاداً منه بأن أعضاءها من طبقة اجتماعية أعلى من الطبقة التي ينتمي إليها، ما دفعه إلى التقرب من طالب يحب المسرح أيضاً اسمه محمد منير آل ياسين، أراد أن يدخل في منافسة مع جمعية يوسف العاني، فاستدعى المخرج والممثل المعروف آنذاك إبراهيم جلال ليخرج مسرحية “تاجر البندقية” له ولزملائه، فاختار جلال، من بين من اختارهم، سامي عبد الحميد ليؤدي دور “أنطونيو” فيها. ومنذ ذلك الحين وجد في جلال مخرجاً مقتدراً له رؤاه وأسلوبه الجذاب في توجيه الممثلين، وإيصال معلوماته عن الشخصيات وعن علاقاقاتهم ودوافعهم.
بعد تخرجه في كلية الحقوق التحق عبد الحميد إلى معهد الفنون الجميلة أواخر عام 1950، وكان إبراهيم جلال رئيساً لفرع التمثيل ومدرساً للمادة، ومنه سمع أول مرة باسم ستانسلافسكي، وكان يلامس، في توجيهاته للممثلين، طريقته، على نحو أو آخر. وعندما عاد المخرج جاسم العبودي من بعثته في معهد شيكاغو الفني ليعمل مدرساً في المعهد منتصف الخمسينات، اعتمد طريقة ستانسلافسكي وتطبيقاته، لكنه كان شحيحاً في منح الطلاب المزيد من المعرفة عنها وعن أسسها وتفاصيلها، وقد مثّل معه عبد الحميد دوراً رئيساً في مسرحية “الحقيقة ماتت” لعمانوئيل روبلس. ولذلك يعُد عبد الحميد نفسه أول من فتح الباب في العراق لطريقة ستانسلافسكي عندما ترجم مع زميل له أجزاءً من كتاب ديفيد مكارشاك عن الطريقة ونشرها بحلقات في جريدة “السينما” التي كانت تصدر في منتصف الخمسينات.
انظم سامي عبد الحميد إلى فرقة المسرح الفني الحديث، وهي من أهم الفرق المسرحية الأهلية في العراق، أسسها عام 1952 كل من إبراهيم جلال ويوسف العاني وعبد الرحمن بهجت ويعقوب الأمين. وأضفى تأسيسها على الحركة المسرحية العراقية زخماً ودفعاً للأمام، من خلال صياغتها مضامين وأشكالاً ميزتها وأعطتها تفرداً عن السائد من الأشكال المألوفة. وقد أخرج عبد الحميد لهذه الفرقة مجموعة مسرحيات ليوسف العاني هي: “صورة جديدة”، “لو بسراجين لو بالظلمة”، “الخان وأحوال ذلك الزمان” “المفتاح”، “الخرابة”، و”نجمة”، كما أخرج “في انتظار غودو” لبيكيت، و”تموز يقرع الناقوس” و”الخيط” لعادل كاظم، و”الجرة” لبيرانديللو، و”هاملت عربياً”، و”بيت برنارد ألبا” للوركا، و”الملا عبود الكرخي” (من إعداده وإخراجه)، و”جيفارا عاد افتحوا الأبواب” و”جد عنواناً لهذه التمثيلية” لجليل القيسي، و”الصديقان” لمحيي الدين زنكنة، و”إلى إشعار آخر” و”الكفالة” و”شكراً ساعي البريد” لعبد الكريم السوداني، و”الرهن” تكييف عبد الأمير شمخي عن رواية “الوجه الآخر” لفؤاد التكرلي.
ومثّل عبد الحميد في الفرقة مسرحيات “أغنية التم” لتشيخوف، و”آني أمك يا شاكر” و”أهلاً بالحياة” و”الشريعة” ليوسف العاني، و”النخلة والجيران” تكييف وإخراج قاسم محمد عن رواية بنفس العنوان للروائي العراقي غائب طعمة فرمان، و”حكاية صديقنا بانجينو” تأليف أزفالدو دراغون وإخراج صلاح القصب، و”رحلة في الصحون الطائرة”، للألماني كارل مترلنجر، وإخراج إبراهيم جلال، و”نفوس” (عن مسرحية “البرجوازيون” لغوركي)، و”بغداد الأزل بين الجد والهزل” (كلاهما من إخراج قاسم محمد).
كما أخرج عبد الحميد مجموعة مسرحيات في معهد الفنون الجميلة، وكلية الفنون الجميلة، والفرقة القومية منها (أنتيجونا، الحيوانات الزجاجية، تؤمر بيك، إيراد ومصرف، أوديب أنت اللي قتلت الوحش، مهاجر بريسبان، حلم ليلة صيف، القرد كثيف الشعر، بيت القشبة، كلكامش، ثورة الزنج، فصيل على طريق الموت، السود، جزيرة الماعز، ليلة من ألف ليلة وليلة، الليالي السومرية، وعطيل في المطبخ).
يُعدّ سامي عبد الحميد من المخرجين الذين تعددت أساليبهم الإخراجية، فلم يقف عند أسلوب مسرحي واحد، لذلك أخرج عدداً من المسرحيات ذات التوجهات النصية المختلفة، انطلاقاً من نزوعه إلى التجريب والتجديد الذي يعني بالنسبة له الابتكار والإبداع، وهكذا أتسع أفق تجاربه اتساعاً واضحاً، ما جعله من المخرجين الطليعيين في المسرح العراقي.
وكان يتدخل في النصوص المسرحية التي يختارها إلى درجة تحويرها أكثر من مرة، بما يشبه عمل المونتير، في محاولة لتطويعها لمتطلبات الخشبة، وفقاً لرؤيته الخاصة التي قد تختلف قليلاً أو كثيراً عن رؤية المؤلف. وفي هذا الصدد يقول المخرج الراحل فاضل خليل “هو واحد من القلة الذين يراهنون على قدراتهم الإخراجية، لاطمئنانه إلى الخبرة التي يمتلكها، ولذلك فهو يعتقد بأن أية مسرحية، أياً كان كاتبها، هي في متناول قدراته الناجحة... ولأنه واثق من قدراته راهن على تقديم أجمل عروضه مع طلبة المسرح... ولم يغير أسلوبه ولا طريقة عمله في المسرح، بشكل عام حين يعطي العاملين معه حرية التدخل في العملية الإخراجية، والحرية للجميع ليقولوا له رأيهم ومقترحاتهم. لكنه لم يدع الرأي طليقاً للتنفيذ قبل أن يمر على مجساته الواعية ليفلتر هو ما قدموا له من آراء ومقترحات، فإن كانت تلائم خطته يأخذ بها، وإن لا يهملها. وربما هو يتفرد بهذه الميزة كونه يؤمن بأن العمل المسرحي عمل جماعي والنجاح فيه والفشل من حصة الجميع”.
ويضيف خليل أن سامي عبد الحميد، كان كغيره من أبناء أبناء جيله يفضّل النص العراقي إذا ما توفر له ذلك النص. وهو بهذا ينطلق من حرصه على تطوير العروض المحلية، ابتداءً من النص وحتى آخر مهمة من مستلزمات العرض التي يتمنى أن تكون جميعها عراقيةً. لكنه، رغم ذلك، كان يهرب في الكثير من الأحيان– بسبب شحة النص المحلي- إلى النص الآخر غير العراقي، عربياً أكان أم أجنبياً”.
في سياق نزوعه التجريبي نقل سامي عبدالحميد المسرح من العلبة الإيطالية إلى فضاءات متعددة منها “المسرح الروماني” في آثار بابل حين قدم كلكامش، أو حديقة “الجمعية البغدادية” حيث قدم مسرحيتي “في انتظار كودو” و”بيت القشبة”، أو كافتيريا دائرة السينما والمسرح، حيث المطبخ يطل على صالة المطعم، تناغماً مع رؤيته الإخراجية التي افترض فيها “عطيل” رئيساً للطباخين (شيف)! بدلاً من كونه ضابطاً في الجيش الإيطالي، وياغو وكاسيو وزملاءهما طباخين أيضاً، في حين افترض دزدمونة نادلةً، ووالدها مديراً للفندق أو للمطعم. وحذف من النص الأصلي كل ما من شأنه أن يشير إلى الأمكنة والمهن، ووزع الأحداث على  المطبخ والمطعم، وجعل اللونين الأسود والأبيض علامتين مهيمنتين على كل شيء طوال العرض، ابتداءً من أغطية الموائد، ومروراً بالصحون والقدور، وانتهاءً بالمواد الغذائية التي تطبخ، فالباذنجان، مثلاً، أسود، والقرع أبيض. ويبدأ العرض بمشهد ياغو، ورودريغو وهما يحضران طبخةً من تينك المادتين، أشارةً إلى تآمرهما للإيقاع بعطيل. وفي المشهد الذي يتخيل فيه عطيل أن زوجته دزدمونة قد ضاجعت كاسيو استخدم عبد الحميد (البيبسي/ أسود، والسفن آب/ أبيض) من خلال قيام عطيل بمزجهما حينما تمر أمامه عربة الطعام المحملة بزجاجات من ذينك المشروبين. وهكذا استثمر المخرج الكثير من العلامات اللونية في بناء سيميائي جدلي لتوكيد رؤيته الإخراجية، وفرضيته المتخيلة لطبيعة الصراع في العرض. وكانت ذروة استثماره في مشهد مقتل دزدمونة، فبدلاً من قيام عطيل بخنقها في الفراش يدخل إلى وسط الصالة وهو يحمل بيده “بيضةً”، ويقول: “تلك هي العلة يانفسي”... إلخ، وهي علامة على الاتصال الجنسي المتوهم بين دزدمونة، وكاسيو، وحينما يصل إلى لحظة الخنق يعصر البيضة بيده ويكسرها. وهنا أجرى عبدالحميد تغييراً حاداً في حبكة النص الأصلي، إذ تظهر دزدمونة حيةً، وتكتشف المؤامرة، وينسحب ياغو من المكان فاشلاً مخذولاً بعد أن تفضح أميليا سر المنديل. وهكذا يتبدد وهم عطيل حول خيانة زوجته البريئة.
ألف سامي عبدالحميد ونشر كتباً وابحاثاً عديدةً في حقل المسرح منها: “فن الإلقاء”، “فن التمثيل”، “فن الإخراج، “الملامح العربية في مسرح شكسبير، “السبيل لإيجاد مسرح عربي متميز”، “العربية الفصحى والعرض المسرحي”، “صدى الاتجاهات المعاصرة في المسرح العربي”، و”تجربتي في المسرح”. وترجم مجموعة كتب منها: “العناصر الأساسية لإخراج المسرحية” لألكسندر دين، “تصميم الحركة” لأوكسنفورد، و”المكان الخالي” لبيتر بروك. ونال الكثير من الجوائز والأوسمة منها: جائزة التتويج من مهرجان قرطاج، ووسام الثقافة التونسي من رئيس جمهورية تونس، وجائزة الإبداع من وزارة الثقافة والإعلام العراقية، وجائزة أفضل ممثل في مهرجان بغداد للمسرح العربي الأول.
ورغم تقدمه في السن فقد ظل سامي عبد الحميد شامخ الروح، باحثاً عن الجديد في المسرح، دائب الحركة، متكأً على عصاه التي رافقته في أعوامه الأخيرة، بعد تعرض إلى حادث سيارة في عمّان، مهرجان هنا ومحاضرة هناك، مشروع مسرحي يداعب مخيلته، مقالات في المسرح تزين صفحات الجرائد، وبقي متمسكاً بالعمل والبحث الجاد عما يرتقي بالمسرح العراقي والعربي.
وإلى جانب المسرح، رافق مسيرة السينما العراقية منذ بواكيرها الأولى، وكان بطلاً في أفلام: “من المسؤول؟” (1956) إخراج عبد الجبار ولي، “نبوخذ نصر” (1962) إخراج كامل العزاوي، وهو أول فيلم عراقي ملون، “المنعطف” (1975) إخراج جعفر علي، “الأسوار” (1979)  و”المسألة الكبرى” (1982) و(الفارس والجبل) (1987) للمخرج محمد شكري جميل، و”كرنتينا” (2010) للمخرج عدي رشيد.
وكان آخر ظهور للراحل سامي عبدالحميد في مهرجان “الفلوجة المسرحي الأول” الذي أقيم خلال الفترة من 22– 25 سبتمبر 2019 في مدينة الفلوجة، وقد سميت الدورة باسمه، ولأنه كان مريضاً لم يستطع حضور المهرجان، لكنه أرسل رسالةً مصورةً عرضت يوم الافتتاح عبّر فيها عن عميق سروره لإقامة مهرجان مسرحي في مدينة عانت الكثير من ويلات الحروب، وقدم عميق امتنانه لكل الجهود التي بُذلت من طرف مسرحيي الفلوجة، لأجل أن يزيحوا عن وجه هذه المدينة ما علق فيها من غبار الحروب والآلام عبر الفن المسرحي.
رحيل عميد المسرح العراقي وأستاذ الأجيال سامي عبد الحميد خسارة كبيرة لا تُعوض، لكن عطاءه الفذ وإرثه العظيم سيظلان خالدين. 


عولد علي