تأملات حول أداء الآلات في المسرح

تأملات  حول أداء الآلات في المسرح

العدد 622 صدر بتاريخ 29يوليو2019

 «يقولها بعض الناس مع الزهور، ويقولها بعضهم مع لويد. لكنك لا تجد كثيرين يحاولون أن يقولوا مع الروبوت»
فرقة بونزو دوج الموسيقية، «رقعة الروبوت»

كان عرض «سيرجي شتوف» «العداد Abacus» في الجناح الروسي في بينالي فينسيا الدولي التاسع والأربعين للفن (في الفترة من 10 يونية إلى 4 نوفمير 2001) هو الموضوع المتكرر في النقاش خلال المؤتمر الصحفي الافتتاحي للمعرض، الذي حضرته بصفتي ناقدا للفنون البصرية. ويتكون عرض «العداد» من أكثر من أربعين رقما مرسومين بالأسود، في مواجهة باب مفتوح وصلاة بعدة لغات تمثل أنواع متعددة من أشكال الإيمان أثناء عمل حركات توقير ملائمة للصلاة. وبالقرب منها شاشات فيديو تعرض نصوص الصلاة بلغاتها المتعددة. وقد تكلم الناس عن الأداء في الافتتاح في الجناح الروسي، وسألني زميل صحفي يعلم أن العرض هو الموضوع الرئيسي لبحثي النقدي إن كنت أعتبر هذا العمل أداء. فأجبته بكل سرور أجل، وقد أدركت فيما بعد أنني اتخذت موقفا يحتاج مني مريدا من التأمل.
وسبب كل من سؤال زميلي ورغبتي في مزيد من تأمل هو أن النماذج التي تؤدي في عرض «العداد» ليسوا من البشر – فهم آليون مبرمجون بواسطة حاسوب للانغماس في حركات هي نوع من الصلاة المصحوبة بأصوات مسجلة، وتسليما بأن النماذج تعد تثبيتا نحتيا متحركا، وليس أداء – فإنه يوصف بأنه تنصيب في كتالوج البينالي.
(يمكن اعتبار النماذج أيضا إنسان آلي، أو يمكن أن يُرى النظام ككل باعتباره جهاز تشغيل، وهي احتمالات سوف أتأملها لاحقا). وأفضل أن أفكر فيه باعتباره أداء، رغم ذلك، ليس لأنني أعتقد أن الآلات تستطيع أن تؤدي بل أيضا لأن عمل مثل «العداد» باعتباره أداء باستخدام الآلات يقدم إمكانيات كبيرة لتفسيره.
فعلى المستوى الأساسي، فإن سؤال «هل تستطيع الآلات أن تؤدي؟» يمكن الرد عليه بالإيجاب. في النهاية، المعنى الأساسي لفعل «يؤدي Perform» هو «يفعل Do». فبقدر ما تفعل الآلات (أو البشر) أشياء، فهي تؤدي. والانتقال من المستوى الأساسي إلى سياق ممارسات الفن، رغم ذلك، يثبت تعريف الأداء Performance بأنه سياق محدد، وليس سياقا عاما، إذ إنه يتغير وفقا لشكل جمالي وتقاليد محل اعتبار. فمعنى أداء عمل موسيقي كلاسيكي ليس هو نفس ما يعنيه أداء موسيقى الجاز، ولا التعريف الموسيقي للأداء قابل للتطبيق على المسرح والرقص أو فن الأداء. وأحد مجالات الفرق الحاسمة هي العلاقة المفترضة بين المؤدي والنص الذي يؤدي: فعلاقة الموسيقي الكلاسيكي بالعمل ليست هي نفسها علاقة موسيقى الجاز بالنسبة للموسيقى التي يؤديها، مثلا، وعلاقات الممثلين الخاصة بالمسرحيات وعلاقة الراقصين بفن الرقص تضع متغيرات أخرى داخل المسرحية.
إذا اعتمد تعريف الأداء على السياق، فكذلك الحال بالنسبة لتحديد ما هو المؤدي. وللسؤال عما إذا كان الروبوت في عرض «العداد» يجب أن يعد عنصرا في التنصيب النحتي أو إنسان آلي، أو أجزاء من نظام تشغيل التسجيلات أو المؤدين بأنفسهم، فإنني أقدم إجابة شاملة: أنهم كل هذه الأشياء. ويمكن تقديم الحجج المقنعة لكل من هذه التطابقات، فالتصنيفات ليست حصرية (يمكن أن يكون الإنسان الآلي عنصرا في تثبيت أو جزء من نظام تشغيل مثلا). فكيف نختار أن نصف الروبوتات في المقام الأول بأنهم ليس لهم خصائص جوهرية ولكن تقاليد فنية نرغب في استيعابها. وفي هذه الدراسة، فإن التقاليد الفنية التي أضع فيها الربوتات في النهاية هي تقاليد فن الأداء.
فالاعتبارات المختصرة من ربوتات عرض «العداد» هي أجزاء من نظام تشغيل أو تشغيل إلى سوف يساعدنا في إلقاء الضوء على ما هو على المحك في تحديد تطابقهم كمؤدين. وفي دراسته التقديرية عن الأداء الموسيقي التي سوف أشير إليها بشكل متكرر هنا، يميز ستان جودلفيتش Stan Godlovitch تشغيل التسجيلات عن الأداء: «تشغيل التسجيلات ليس أكثر من أداء الصورة للشيء المصور.. ففي التسجيلات أسمع صورة صوتية للأداء المقدم بالضرورة في زمن ماض». ومن وجهة نظر تقنية، فإن عرض «العداد» هو بالطبع صيغة تشغيل مفصلة: توظف الروبوتات ونظام الصوتيات لجعل تشغيل برنامج الحاسوب مفهوما للمشاهد بطريقة مشابهة لما يقوم به مشغل الأسطوانات المضغوطة بتحويل المعلومات علي القرص إلى موسيقى مسموعة. ولكن عرض «العداد» ليس صيغة لتشغيل التسجيلات من النوع الذي يصفه جودليفيتش لأن أفعال الروبوتات لا تعيد إحياء أداء مسبق: على الرغم من أن «العداد» هو عمل تمثيلي، وهو ليس سجلا لتجميع نماذج سوداء حدثت في زمن سابق. فعرض «العداد» كصيغة تشغيل، في هذا السياق، هو ما أسميه تقنيات التقديم وليس التوليد.
بينما من السهل بالقدر الكافي أن نوافق مع جودلفيتش أن تشغيل تسجيلات ما قبل الأداء ليس أداء في ذاته، وسؤال ما إذا كان عرض «العداد» يولد أداء ليس واضحا حتى عندما يٌري باعتباره جهاز تشغيل. ولتحديد المشكلة، اقترح الاختبار التالي الذي اعترف أنه ليس علميا. فبينما نرغب في تسجيل الأداء يمكن أن يكون لدينا القليل من الأسباب لتسجيل التشغيل لتسجيل لأداء موجود لإنتاج نسخة طبق الأصل لمصدر التسجيل. (تسجيل الصوت المسجل أثناء التشغيل أو أثناء فيلم سينمائي أو فيديو مصور الشاشة أثناء عرض سينمائي أو تشغيل تسجيل – طريقة واحدة يتم بها إنتاج أفلام الفيديو المهربة – يمكن أن تكون مثالا لهذه النسخ المطابقة). فلو كان عرض «العداد» يقدم من جهاز تشغيل من النوع الذي يصفه جولوفيتش، النوع الذي يقدم وسيلة لتسجيل إعادة التشغيل لأداء مسبق، فقد تؤسس إعادة تشغيل لنسخة أخرى من التسجيل. وهذه ليست هي الحالة بوضوح – تشغيل تسجيل فيديو عرض «العداد» ليس مجرد نسخة من برنامج كومبيوتر يعاد تشغيله، إنه بالأحرى، تسجيل لسلوك كائنات آلية أثناء ظهور هذا السلوك – فالنشاط الفعلي للروبوتات هو لحظة ما قبل الأداء المصورة في الفيديو. لذلك فإن تسجيل الفيديو لعرض «العداد» ممتع وذو قيمة لنفس الأسباب التي يكون فيها تسجيل أي أداء ممتعا وذا قيمة. وهذا يوحي ولو بشكل مباشر أن عرض «العداد» أشبه بالأداء الذي يمكن أن نرغب في تشغيله بأكثر من صيغة فضلا عن تشغيل أداء مسجل.
إعادة التقديم، إذن، هي أحد الأمور المهمة هنا، التي أتناولها بمناقشة إمكانية أن يكون عرض «العداد» من جهاز تشغيل. فالجماعة وتفويضها هما أيضا القضايا المركزية التي يمكن طرحها من خلال عرض «العداد» في علاقته بفن العرائس. ومن خلال التمييز بين الإنسان الآلي والعرائس يجادل ستيف تيليز Steve Tillis بأن السمة المميزة بين التشغيل الآلي هي أن احتمالات حركته مغلقة. أما في حالة العرائس من كل الأنواع.. فإن طبيعة ومدى كل حركة مفتوح أمام سيطرة لاعب العرائس. وفي إطار هذه المعايير، فإن الربوتات في عرض «العداد» هم بالتأكيد آليون فضلا عن أنهم عرائس: لا يتم التلاعب بهم في وقت فعلي بواسطة مشغل (لاعب) بل يتم التحكم بهم بواسطة الكومبيوتر. وكل ما يفعله المشغل (اللاعب) هو ضبط الأداة في الحركة بتشغيل البرنامج. ويستمر تيليز قائلا إن الآليين يجب أن يعتبروا نحتا حركيا فضلا عن أنهم عرائس، مما يعني كما أظن أنه يجب استبعاد الآليين من التقاليد الفنية المرتبطة بالأداء والمخصصة إلى تصنيف خاص داخل تقاليد فنية مرتبطة أساسا بأشياء جامدة. وجداله الضمني هو أن يتأهل كأداء، وحدث يجب أن يكون تلقائيا فضلا عن أنه مبرمج. فالعروض كما توحي هذه المناقشة تضع الطاقة الإنسانية في العرض حتى لو كان العامل خفيا، مثل لاعب العرائس. فالآليون من الناحية الأخرى هم حالات لما تسميه جين جودال Jane Goodall «قوة نقل» حيث القوة مفوضة للآلات بواسطة البشر الذين انتهى عملهم قبل أن تضطلع الآلة بحركاتها. وتقترح جودال أن حالات وقود القوة المنقولة تدعم القلق الثقافي على إمكانيات التكنولوجيا لاغتصاب سلطة البشر، وربما حتى هوية البشر. إذ تعكس أغلب التعريفات التقليدية للأداء هذا القلق بتأكيدها على الحيوية والمقاومة الضمنية لمؤدين الآلة.
وقبل المضي إلى أبعد من ذلك، أريد أن أوضح أنني على الرغم من أنني أتمنى بوضوح أن أوجد حالة لرؤية الآلات كمؤدين، فإنني لا أقترح أن الآلات تستطيع أن تؤدي بكل الطرق التي يؤدي بها البشر. وأحد العناصر المشتركة بين معظم تعريفات الأداء هو التأكيد على طاقة المؤدي باعتباره مفسرا لنص من نوع ما والفنان الذي يعبر عن شيء خاص به من خلال التفسير. وفي نقاشه للأداء الموسيقي، الذي يعرفه بأنه نشاط بارع، يقدم جودلوفيتش تمييزا مفيدا بين نوعين من المهارات التي قد يملكها المؤدي: مهارات تقنية، ومهارات تفسيرية. ففي حين أن المهارات التقنية (في حالة الموسيقى) تتضمن المهارات التقنية التي تتسبب في تأثيرات صوتية محددة وقابلة للقياس بشكل موضوعي، فإن المهارات التفسيرية تنطوي على مؤثرات جمالية ليس لها أي مقياس كمي واضح، وتؤكد التعبير بشكل نموذجي. وعلى الرغم من أنه من الصعب عمليا تمييز لحظات الأداء التي تعكس ممارسة المهارات التقنية عن تلك المهارات التي تتطلب مهارات تفسيرية، ولا سيما من منظور المشاهدين، فإن تمييز جودلوفيتش بين الاثنين له قيمة تحليلية. ولنقل تحليل جودلوفيتش من السياق الموسيقي إلى سياقنا الحالي، فإنني يمكن أن أجادل بأن الروبوتات في عرض «العداد» تمتلك مهارات تقنية لأن حركاتهم تسبب التأثيرات التي تنشئ مضمون العمل. (بالطبع أعي أن شوتوف، الفنان الذي ابتكر هذه الروبوتات وبرمجها، هو السبب الأساسي في حركاتها. ومع ذلك، فإن الربوتات نفسها هي السبب المباشر – فهم يخلقون رغم حركاتهم التأثيرات التي يراها المشاهدون). وباستخدام النظير الموسيقي، فمن المغري أن نجادل بأن شوتوف هو المؤدي والروبوتات هي وسائله. والمشكلة هنا هي لأن شوتوف ليس حاضرا لكي يحرك هذه الوسائل، إذ ليس تلاعبهم البدني الماهر من الناحية الفنية هو السبب المباشر لتأثير العمل. وفي إطار التناظر الموسيقي، فإن شوتوف أقرب إلى المؤلف الموسيقي الذي يعتمد على المهارات الفنية للعازفين لجعل عمله متاحا للمشاهدين.
ومع أنني مصر على أن الربوتات تمتلك مهارات أداء تقنية، فلن أزعم أن تلك الربوتات يمكنها أن تمتلك مهارات تفسيرية. وهذا، على ما يبدو لي, هو الفرق الحاسم بين المؤدين الآليين والمؤدين البشر: على الرغم من أن الربوتات قادرة على تنفيذ مهام تقنية، فينقصهم الوعي والذكاء والعواطف – كل المكونات التي من المفترض أن تساهم في تطوير المهارات التفسيرية. لهذا السبب، وأكثر من أن ذلك بسبب القيود التقنية، لا توجد آلة قادرة على تقديم أداء لمسرحيات مثل «سوناتا الشبح» أو «هاملت» أو «بحيرة البجع» من شأنه أن يجتذب حشدا من الجماهير ذات الصلة. وربما لن يكون هناك هذا النوع من الأداء.
إذا كان المؤدون من الآلات مقيدين بذخيرة تحتاج مهارة تقنية فقط وليس مهارة تفسيرية، التي قد تكون أقل من الحد الذي تبدو عليه. على الرغم من أن تعريفات الأداء التي تنشأ من السياق التقليدي لفنون الأداء تستتبع عموما مفاهيم تفسير وتعبير تستبعد الآلات من اعتبار أنهم مؤدون، فإن تاريخ كل من فنون الأداء يمنح أمثلة يستدعي من خلالها المؤدون البشر لممارسة مهاراتهم التقنية وليس مهاراتهم التفسيرية. (وسوف أشير إلى هذا النوع من النشاط باعتباره «أداء تقني»). ومثل هذه الأعمال، أساسا، يمكن أداؤها إما بواسطة البشر الذين لا يستخدمون مهاراتهم التفسيرية الكامنة أو بواسطة الآلات التي تنقصها مثل هذه المهارة ببساطة ولكنها تمتلك القدرات التقنية المطلوبة. وقد حلل و.ب. وارزين W.B. Worthen استخدام العرائس الحداثية والآليين، والميكنة واسعة الانتشار للمؤدين البشر في مسرح القرن العشرين، من خلال تحديد تاريخ ذلك الباعث بداية من جوردون كريج والمستقبليين الإيطاليين وفيسفولد مايرهولد وصولا إلى أنطونين آرتو وصامويل بيكيت وروربرت ويلسون. وقد تأسست فرق رقص «بنات تيلر» Tiler Girles في عام 1890 بواسطة جون تيلر وهو رجل أعمال من مدينة مانشستر، وهو الذي قدم الأسلوب المنسوب إلى تايلور في الإنتاج الضخم في عالم التسلية والترفيه، وهو مثال للأداء التقني من مجال التسلية الجماهيرية فضلا عن مجال الفن الطليعي.
 «شيء مساو لاختيار تايلور العلمي يقوم على معيار، وكان مرتبطا باختيار تيلر للمؤدين. الأطفال الأربعة الذين كان يجب أن يظهروا في عرض العمل كانوا متطابقين في الطول وبنية الجسم. ولكي يؤكد فكرة تعدد النسخ أعطاهم جميعا عرائس متطابقة وصمم رقصات نموذج هندسي لحركات متزامنة تم رسمها من من الصباح إلى وقت متأخر في الليل».
وفي نهاية المطاف، قام الكثير من فناني فرق تيلر الذين أعدوا الرقصات بالتبادل بجولة حول العالم.
وليس من الصعب إيجاد أمثلة للأداء يوظف فيه المؤدون البشر مهاراتهم الفنية ويطلب منهم التنازل عن الجزء الحيوي من طاقتهم لشخص آخر بدون أن يشيروا إما إلى الطليعة الحداثية، أو مثل هذه الظواهر المميزة مثل «فتيات تيلر». فالموسيقي الأوركسترالي كما يصفه عالم الموسيقى ومصمم الرقصات كريستوفر سمول Christopher Small هو هذه الحالة:
 «المهارات الموسيقية المطلوبة من عازف الاوركستر المحترف هي بدون سؤال ذات مستوى عال: ففي الأوركستر الجيد الأخطاء الفادحة في النغمات تكون نادرة والانهيارات تكون غامضة. وفي نفس الوقت تكون تلك المهارات متخصصة وتقع في داخل مجموعة محدودة، تتكون من المهارة الفنية، والقدرة على القراءة بمجرد النظر والاستجابة بسرعة إلى إشارات إيماءات المايسترو علاوة على التناغم الذي يؤديه العازف مع الفرقة... وحتى التفكير الموسيقي طويل المدى فإنه متروك لقائد الأوركستر. وأتذكر دهشتي عندما قال لي عازف الباس المزوج ذلك عندما كان يؤدي كونشرتو قرأ دوره ميزان موسيقي بميزان موسيقي ولم يستطع غالبا أن يتذكر الميزان الموسيقي الذي لعبه توا».
لقد استشهدت بهذا المقطع الطويل لكي أؤكد أن سمول يصف بوضوح مهارات أداء الموسيقيين باعتبارها مهارات فنية (البراعة والقراءة بمجرد النظر والاستجابة السريعة والتناغم) فضلا عن المهارات التفسيرية في طبيعتها. (وإذا تأملنا التفسير باعتباره إجراء تأويليا يتعلق بالأجزاء المرتبطة بأجزاء شيء بالنسبة إلى الكل، عندئذ فإن عازف آلة الباص الذي يصفه سمول لا يمكن أن يشارك في التفسير أنه يؤدي هذا الميزان الموسيقي دون وعي بالمقاس الموسيقي الذي يسبقه أو التالي له). وكما يشير سمول، فإن معنى العمل وتعبيريته متروكان إلى المؤلف الموسيقي وقائد الأوركسترا، فمهام الموسيقيين تتكون من تقديم الأصوات المطلوبة. عازفو الأوركسترا مشابهون لفرقة «بنات تيلر» في أن المطلوب منهم فقط تنفيذ تفسير شخص آخر للنص الموسيقي. ولا تزال بعض الحالات التقليدية الأخرى أقرب إلى حالة «بنات تيلر» من الموسيقى السيمفوني لأنها تتضمن ربرتوار ثابت علاوة على مطلب أن يمارس المؤدون مجموعة واحدة من المهارات. فالعازفون الكلاسيكيون، سواء عازف منفرد أو عازف ضمن مجموعة، لا يتطلب إليهم عادة أن نفس الموسيقى كل ليلة، أو حتى كل موسم، ولكن العازفين في أوركسترا برودواي ولاس فيجاس يفعلون ذلك غالبا. ومرة أخرى، يكون التأكيد على المهارات الفنية – يتحكم المخرجون الموسيقيون وقائدو الأوركسترا في تفسير النوت الموسيقية: وظيفة الموسيقيين تكرار تعليماتهم بالضبط بأقصى ما يمكن في كل أداء. ومثل «بنات تيلر» يطلب إلى الأوركسترا السيمفوني وعزفي موسيقى العرض مبدئيا أن يجعل اختيارات شخص آخر الجمالية المفهومة للمشاهد.
ومن المثير في هذا السياق أن جودوفيتش يصف مهارات الأداء، جزئيا، بأنها القدرة على تقديم وإعادة تقديم نتائج معينة عند الطلب. ولأن المؤدي الذي يفعل الشيء مرة واحدة ولا يستطيع أن يكرره ليس له قيمة كبيرة في فنون الأداء التقليدية – أو في أغلب مجالات السعي الإنساني – القدرة على تكرار النتيجة هي معيار المهارة. فنحن نطلب من المؤدين البشر نفس المصداقية التي نطلبها من الآلات ونقيس مهارتهم وفقا لهذه الشروط. وبهذا المعنى التوظيفي، لا يختلف الموسيقيون الذين أناقش عملهم عن ربوتات شوتوف، مع أننا لا يمكن أن نرفض أن نسميهم مؤدين عادة.
وعلى الرغم من أن الأداء التقني هو قوت المؤدين المحترفين في كثير من التصنيفات، بما في ذلك الممثلون الذين يؤدون في المسرحيات الطويلة والموسيقيون الذين ناقشت أعمالهم، فحقيقة أن كثيرا من الأداء الفعلي في الأنواع الغربية التقليدية هي روتينية وآلية، فيتم غالبا تجاوزها من أجل صور تفسيرية فردية للأداء. وربما، كما يقترح جودال، «بين المؤدي والآلة صلة غريبة تحرك المخاوف الثقافية بأن تصبح تلقائية». ووصف جودلوفيتش لكيفية تعريف المهارة في الأداء قد يقدم مفتاحا لتلك الصلة الغريبة – بمعادلة مهارة الأداء بالقدرة على إعادة تقديم النتائج بشكل صادق، ونعرف مهارة الأداء ضمنا في إطار آلي. وحقيقة أننا نؤكد بشكل عادي التفسيري أكثر من التقني في الأداء قد يكون آلية دفاعية، وطريقة لعدم مواجهة الخوف الناتج من إمكانية أنه بسبب مفاهيم الأداء والمؤدي نفسيهما يستتبعان غالبا القدرة على إعادة تقديم نفس المؤثرات عند الطلب، ويمحوان ضمنا الفواصل بين البشر والآلات.
 - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -  - - - - - - - - - - فيليب أوسلاندر يعمل حاليا أستاذا في معهد الأدب والاتصالات والثقافة وأهم كتبه هي «من التمثيل إلى الأداء: مقالات حول الحداثة والأدائية» - - «الحيوية: الأداء في الثقافة الوسائطية».
وهذه الدراسة تمثل الفصل الرابع من كتاب «فلسفة الأداء المسرحي: التقاطع بين المسرح والأداء والفلسفة» الصادر عن جامعة ميتشجان 2009 إعداد (ديفيد كريزنر) و(ديفيد سولتز).


ترجمة أحمد عبد الفتاح