الواقعية النقدية واستراتيجيات الأداء المسرحي (2-2)

الواقعية النقدية واستراتيجيات الأداء المسرحي (2-2)

العدد 619 صدر بتاريخ 8يوليو2019

وكما يلاحظ ماكوناتشي، تسيطر تخطيطات صور ومجازات معينة على الهيمنة الثقافية أو تحافظ عليها خلال الفترات التاريخية. (ويوضح مثال القرون الوسطى هذه الفكرة). ويؤكد أنه أثناء الخمسينات، كانت صورة الاحتواء هي المفتاح. وربما كان على صواب في هذا، رغم أنني أشك أنها طفت إلى السطح فوق عدة تخطيطات أخرى كانت أكثر أساسية ثقافيا ومن أجل فعاليات الأداء المسرحي، ولكنه هو نفسه يعترف بأنه قدم بدايات لتحليل تاريخي كامل فقط. وباقتراح الاحتواء كمجاز أولي، يستخدمه ماكوناتشي لبحث مكانية الأداء المسرحي، والسرد، والتمثيل. وفي إطار حددته سابقا، فإن هذه الأشياء تنتمي إلى المستويات المسرحية والنصية والدرامية للمسرح (على التوالي).
وقد تم أداء عرض «حفنة من المطر» في خشبة مسرح إيطالية نموذجية. ويلاحظ ماكوناتشي أن مع صور الاحتواء نظّم محيط المركز والقرب والبعد هذا الفراغ جيدا. وبالاعتماد على الأصول التاريخية لخشبة المسرح الإيطالية في مباني عصر النهضة مثل “تياترو فارنيز Teatro Farnese”، يكتشف ماكوناتشي أن هذا الفراغ يعزز نظرة ديكارتية موضوعية. فالقاعة المظلمة تساهم في هذا التأثير بتزويد المشاهدين بتجربة أكثر خصوصية. وطبقا لماكوناتشي، تشجع العلاقة المكانية بقوة ما يسميه لاكوف وجونسون «الإسقاط الاستشاري Advisory Projection». والإسقاط الاستشاري هو الطريقة التي يضع بها الناس أنفسهم مكان آخرين، وفي هذه الحالة تجسيدا لعبارة “لو كنت مكانك، لفعلت كذا”. فالبديل هو «إسقاط التعاطف Emphatic projection»، الذي نتبنى فيه وجهة نظر الآخر أو تجربته، كما في حالة «أفهم لماذا تشعر بهذه الطريقة». ولا يستبعد ماكوناتشي احتمال التقمص في خشبات المسرح الإيطالية، رغم ذلك، ويتحول إلى صور أخرى للعرض ليجد مزيدا من الأدلة.
تقدم الحبكة وتلقيها النقدي بعضا من هذه الأدلة. فالمسرحية تركز على «جوني» أحد المحاربين القدماء في الحرب الكورية انقلبت حياته إلى الحضيض بسبب إدمان الهيرويين، وعلى الرغم من مضايقات مروجي المخدرات يحاول التخلص من الإدمان ويحافظ على روابطه الأسرية، ولكن في النهاية تضطر زوجته إلى استدعاء الشرطة لنقله إلى المستشفى. ويجد ماكوناتشي بعض علامات من المراجعات بأن عدة صور من المسرحية أثارت القلق عن أدوار نوع الجنس، بينما أشارت العناصر المرتبطة بها إلى مخاوف من الانهيار من الداخل. وقد ارتبط الخطران غالبا بخطاب الحرب الباردة. فالهدم يثير صورة الاحتواء، في حالة الجوهر الداخلي هذه. وبتحفيز هذه المخاوف داخل المشاهدين، يجادل ماكوناتشي بأن مسرحية “حفنة من المطر” شجعت الإسقاط الاستشاري تجاه “جوني” التي تتهدد مصداقتيه وجوهره النفسي بالانهيار.
وقد شكل مخطط الاحتواء الأداء الذي قدمه الممثل بن جازارا Ben Gazzara الذي لعب دور “جوني”. فقد كان “جوني” في أداء بن جازارا الإنسان الدمث الطيب في الداخل، ولكنه أخذ شكل الوحش المدمن من الخارج (وفقا لتعبير ماكوناتشي) الذي هدد بأن يسحقه. علاوة على أن أسلوب تمثيل جازارا نفسه كان مبنيا بشكل انفجاري حول صورة الكفاح الذاتي الداخلي للتحرر وأحيانا وجد أن الأداء الناتج كان صادقا بشكل مكثف، وتعاطف مع «جوني» وجهده لاستعادة أسرته وصحته. مثل هذه الشخصيات يمكن أن يكونوا ضحايا يحتاجون التعاطف ورفاق يعانون.
ومع إبراز ترابط الفراغ والسرد والتمثيل في عرض “أمطر بغيضة”، والترابط المبني حول صورة مخطط الاحتواء والهيمنة فيما وراء هذه المسرحية، يتناول ماكوناتشي مفهوم استراتيجية الأداء. ولكن تعاطف النقاد مع «جوني» يثير بعض الأسئلة. لأن مثل هذه التعبيرات لا تشير بالضرورة إلى الإسقاط الاستشاري. إذ يستطيع المشاهدون أن يتعاطفوا بشكل مفهوم مع غليان «جوني» العاطفي لأنهم تخيلوا أنفسهم في نفس الظروف النفسية، من داخل تجاربه ونظرته للعالم في نوع من الإسقاط العاطفي. ويلاحظ ماكوناتشي مبدئيا أن المشاهدين عايشوا “أمطار بغيضة”. بالطبع، هناك حدود لما يمكن أن نغطيه في مقالة واحدة، فهو يهدف إلى تحديد منهجية. فماكوناتشي يسرد تنويعة من الأسئلة تبقى طويلا – أكثرها أساسية، أنه بينما تستطيع أن تساعد مخططات الصورة المؤرخ لوصف وتفسير الثقافة السائدة، فإنها تفسر القليل عن المكان الذي أتت منه الثقافة، أو لماذا تهمين مخططات بعينها. وقد تحتاج دراسة هذا الأمر مناقشة مستفيضة يمكن أن تتجاوز حدود الدراسة الحالية. وأستطيع، رغم ذلك، أن أتأمل كيف ولماذا يمكن أن تمتزج أشكال الإسقاط وكيف تمتزج في مسرحية “أمطار بغيضة”، من خلال تقديم مفاهيم معينة من الواقعية النقدية ومن الفهم النقدي الواقعي للأداء المسرحي.
الخطوة الأولى هي إعادة تقييم فراغ مسرح برودواي. صحيح أن نظامه الأساسي نشأ مع مسارح عصر النهضة مثل تياترو فيرنيز. واستمر هذا التصميم مستخدما لعدة قرون، مع بعض التعديلات المتواضعة. ولكن أثناء منتصف وأواخر القرن التاسع عشر دخلت بعض التغييرات الأساسية لكي تشكل خشبة المسرح الحديثة. ويتم استبدال منظور المشهد، باستخدام جناح وأخدودأو نظام عربة وقضبان مدعمة بأشياء ثلاثية الأبعاد غالبا ما تحاط بغرف بدون حائط رابع. وكان الجمهور يغرق في الظلام أثناء العروض. وقد استبدلت القاعة المبنية علي هيئة حرف U، بتدرجها الاجتماعي الصريح والتجاويف والصناديق والدهاليز، بصفوف مقوسة بأوركسترا علي شكل مروحة وشرفة. وظلت بقايا العمارة القديمة غالبا، ولكن يبدو أن نوعا مختلفا من من فراغ المسرح قد ظهر، والذي هيمن بحلول الخمسينات – ومعه، تفاعلات مختلفة بين خشبة المسرح والجمهور.
وقد نمى أسلوب مسرح فيرنيز نظرة موضوعية جزئيا لأن منظور إعداد المشهد يمكن أن يصطف بشكل صحيح إذا شوهد من مكان واحد خاص، وهو حيث يجلس الحاكم. ولم يقتصر الأمر أن يكون لباقي الجمهور منظورات مشوهة، ولكن شكل ترتيب الجلوس علي شكل حرف u قدم تكريما كبير للحاكم وكذلك لخشبة المسرح. وإبقاء المسرح مضاء كان جزءا من تلك العلاقة. لذلك فان الحاكم الجالس فعلا في نقطة التميز المنسوبة إلى أرشميدس، وحده امتلك المنظور الصحيح. فقد كان الموقف الموضوعي هو وجهة نظر الحاكم، وكانت موضوعاته هي وجهات نظره الذاتية. وأتفق علي كثير من هذا مع ماكوناتشي، وأن إطفاء أضواء المسرح لا يشجع علي معايشة العمل المسرحي جماعيا، وينمي التجربة الفردية الخاصة بدلا من ذلك.
ولكني لست مقتنعا بأن الفعاليات الموضوعية لأسلوب مسرح فيرنيز قد عملت بهذه القوة في دور المسرح الحديثة. فقد كانت هناك إغراءات باتجاه الذاتية، ويمكن أن تكون أقوى من الميل المعاكس. فإعادة ترتيب شكل المقاعد حتى يكون متاحا لكل المشاهدين رؤية مباشرة لخشبة المسرح، والانتقال إلى المجموعات ثلاثية الأبعاد التي لن تعاني أبدا من المنظور المشوه، أو التقسيم الصريح إلى أجنحة، كان يعني أن رؤية الجميع متساوية، ولا أحد له الوضع المفضل. علاوة علي ذلك، فان الرؤية الموضوعية الممنوحة للحاكم في نوع مسرح فيرنيز كانت معترف بها عموما، من جانب المشاهدين المواجهين للداخل والآضاءة – وهذا ليس احتمال في المسرح الحديث، حيث بقيت النظرة الشخصية فحسب.
وقد كان الميل إلى الإدراك الذاتي بارزا أيضا خارج المسرح، وكان واضحا في كل من الدراما والتمثيل. وقد بدأ اتجاه نحو النزعة الفردية مبكرا في عام 1600م في الثقافة الغربية، وهو اتجاه له أفكار رئيسية (مخططات صورة في الواقع) تولدت بواسطة الرأسمالية. وبحلول عام 1950، انتشرت هذه النزعة في جميع أنحاء الولايات المتحدة الأميركية. إذ اكتسبت في القرن التاسع عشر سمة نفسية (مرتبطة بالفلسفة الوضعية، التي جسدت الإدراك)، وبحلول عام 1900 ارتبطت بخطة احتواء ممتدة لتقديم مفاهيم العمق النفسي، اللاشعور المدفون في مناطق الوصول السفلية إلى العقل (عقل داخل عقل) والنفس العميقة المرتبطة بفرويد، والتي تم تعميمها في الخمسينات في أمريكا. وفي المسرح، قدمت هذه التطورات أساس نشأة الواقعية النفسية في الدراما والتمثيل. ولذلك، كما يلاحظ ماكوناتشي، لقد سعت مسرحية «أمطار بغيضة «إلى العمق الرأسي لنفسية «جوني»، والمصادر الحقيقة لمشكلات جوني غارقة في البحث عن الأم التي لم تكن لديه أبدا والعنف الأوديبي الذي ما زال يشعر به تجاه أبيه.
فالنزعة الفردية، والنزعة النفسية، والنزعة الذاتية التي ولدتها القوى الاجتماعية في المسرح والدراما يمكن أن تتخذ عة أشكال. الأول هو الظهور الواضح الذي دخل في القرن الثامن عشر مع نشأة الكوميديا العاطفية والدراما العاطفية. والثاني لمس الدراما الرومانتيكية، ولكنه تغذى علي مختلف أنواع الميلودراما، التي أثارت أيضا أولية الفردية. وما زالت الفعاليات الحية للاستجابة العاطفية حية فعليا. إذ كان أهم تطور، رغم ذلك، هو الواقعية النفسية في أواخر القرن التاسع عشر. وأخذت الدوافع النفسية وعملياتها والتجربة - وهو المجال النفسي - مكان الصدارة علي خشبة المسرح. ومن هناك لم يكن ذلك سوى خطوة بسيطة نفسيا إلى الدراما الرمزية والمسرح التعبيري والعروض السيريالية، والألغاز المنسوبة إلى بيرانديللو حول سلامة العقل/ الجنون، والحقيقة/ الإيهام، ومسرحيات الذكريات وأمثالها التي عرضت جنبا إلى جنب الشكل الطبيعي الموضوعي للواقعية النفسية. ولم يكن شيئا ذا بال أن نكسر عناصر من الكثير من هذه الأنماط في مسرحية واحدة. ولذلك، سمحت مجموعة من تخطيطات الصور بتشكيلة واسعة من التبديلات (الانقلاب والانعكاسات وتغيرات المنظور وانتقال المركز) التي تقترب دائما من منظور ذاتية الفرد. فقد وضعت الفرضية والواحدة، والمخطط المعقد للنفس العميقة الأساس للكثير من استراتجيات الأداء – أو ان كنت تفضل، أن المخطط كان هو الاستراتيجية، وكان الباقي كله تكتيكات.
لقد ولدت القوى الاجتماعية الذاتية في الأداء المسرحي وقدمها في الجمهور. فالمسرح يعمل كنموذج للمؤسسة الاجتماعية. ففي العصور الوسطي كان العامل يٌفهم باعتباره أنواعا أخلاقية، وكانت المؤسسة في أمريكا في القرن العشرين (لعدة سنوات وما زال) يٌعرّف باعتباره الذات، الناشئة أساسا من خلال (أو باعتبارها) عمق نفسي. إذ شكلت استجابة المشاهدين على هذا الأساس – يملك الأداء المسرحي باعتباره كيان طارئ، القوة التي تؤثر علي مشاهديه وتستطيع بشكل أساسي أن تغير مفهومهم للمؤسسة، ولكنه يظهر علي أساس نموذج العامل الموجود بالفعل. علاوة علي ذلك، فان المسرح هو الكلية الفرعية التي تتعلق بالانعكاس الذي ينشأ من كليات انعكاسية فرعية أخرى. فقد تم التعبير عن الانعكاسية الدينامية المرتبطة بالمتلقين المتعلقة بمفهوم الداخل الفردي في نظرية العاطفة التي وجهت مسرحيات القرن الثامن عشر. فقد افترضت رد فعل لرؤية السلوك، والحكم علي الشخصية، والاستجابة بشعور تلقائي. وبهذه الطريقة استلهمت عواطف الشخص مشاعر متعاطفة في المراقب. وفي نسق الاستبطان هذا، يكمن معنى المظهر الخارجي في الاستجابة الداخلية للمراقب. لقد أصبح انعكاس العواطف هو انعكاس الذات الداخلية للمراقب. وقد عملت دينامية مماثلة للانعكاس بشكل خشن ووجهة نزر التبديل الجدلية في أداء التيار الرئيس في القرن العشرين، ولكن الذات الآن تجلت مع داخليات كامنة، في أعمق كتلة غاضبة من مشاعر تتقاتل مع القشرة الأخلاقية للهروب، داخل ذات جلسة في الظلام بمنظورها الصحيح.
ما نوع الإسقاط الذي تنميه صور دار مسرح برودواي؟ يمكن أن تعني الذاتية في النهاية تطبيق قيمنا وتجاربنا على أفعال الآخرين، وهو ما يسمى الإسقاط الاستشاري. ورغم ذلك، فإن الذات الجالسة في الظلام هي ذات خاملة: الممثلين علي خشبة المسرح فعالين، ولذلك، فان الظلام شجع المتلقين علي تخيل مؤسستهم من خلال الشخصيات، بشكل مسئول. وقد تقوى ذلك الباعث بواسطة الواقعية النفسية، التي احتاجت من المشاهدين علي تجميع المعلومات والإشارات معا لكي يفهموا ماضي الشخصية ودوافعها للتمثيل، ويفسرون الحدث الدرامي من وجهة نظر الشخصية. أوصت طريقة التمثيل أن يضطلع الممثلون بأنشطة مماثلة من أجل الدخول في قلب الشخصية. فقد استخدمت ذاكرة العاطفة تجارب الممثل الخاصة ليس من أجل تقييم الشخصية، ولكن لمعايشة مشاعر الشخصية من خلال تفويض. وقد غذت عناصر النص هذه الميول أكثر. والرمز الأوضح في المسرحية ينشأ عندما يتذكر والد جوني كيف عثر علي جوني ذات يوم، وقد كان صبيا صغيرا آنذاك، يحفر حفرة كبيرة في المطر. وقد أخذ “جوني” تصريح والده حرفيا بأن “الطريقة الوحيدة للحصول على المال هي العمل”. وعندما أقنعه والده أن يتوقف عن تعاطي المخدرات، التقط قبعته وانهمر فوقه. وبكلمات والده «لقد عمل بجهد كبير وكل ما حصل عليه هو أمطار بغيضة». تدفع القصة المتلقين إلى ماضي «جوني» وأن يتخيلوا العالم كما عايشه «جوني»، وتسمح لهم أن يفهموا سياق سلوك «جوني». على المستويات المسرحية والدرامية والنصية كانت هناك إغراءات في اتجاه الإسقاط المؤكد.
ويمكنني أن أحتج عندئذ أنه في عرض مؤثر لمسرح التيار الرئيس في الخمسينات مثل “أمطار بغيضة”، فإن الاستجابة إلى الإسقاط المؤكد لم تكن استثناء في عرض كان مرجحا بقوة في اتجاه الإسقاط الاستشاري. ويبدو أن الأكثر احتمالا أن الصيغة الدينامية لمخطط الاحتواء الذي اعتمدت عليه هذه المسرحية، في ما يتعلق بالصراع بين المحتوى والشيء الذي يتم احتواؤه، يمكن أن يشجع المشاهدين بشكل منهجي أن يشعروا بكل من الإسقاط المؤكد والإسقاط الاستشاري (حتى لو لم يكونا بمعيار متساو). وقد تعلق انعكاس المسرح هذا بالتقمص والحكم تجاه الذات والآخر أيضا. والصراع بين نوعي الإسقاط، والمزج بينهما أو تبادلهما، أضافت جزءا كبيرا لجودة الإنتاج. وتحقق معنى المصداقية لكل من الشخصية وتجسيد جوني الذي نشأ في المقام الأول من إدراك المشاهدين بأن «جوني» إنسان مثلهم تماما، ولم تنشأ من امتلاكه حياة مماثلة، ولكن بمعنى امتلاكه جزءا باطنيا مكسورا في داخل ذاته. وصدق كل من المؤدي والشيء الذي يتم أدائه – نوعية الحقيقة والواقع – هي وظيفة عملية المسرح كنموذج للمؤسسة الاجتماعية. وقد اعتبر ممثلو منهج التمثيل، كما يوضح ماكوناتشي، مشاركين بذواتهم. فربما كانت نرجسيتهم مبالغة لما كان يحدث في مكان آخر في المجتمع، أو مجرد مبالغة من أجل الشهرة، ولكن كان هناك انغماس ذاتي لامفر منه مع هذ النوع من المؤسسة السائدة في ذلك الوقت. وبالنسبة للمشاهدين، قدم لهم الأداء فرصة للانغماس الذاتي لدرجة أن التقمص – الرؤية من منظور الآخر – يمكن أن تخدم كانعكاس لمحاولة ملء ذاتنا المفرغة. فالمؤسسة هي عملية تغييب الغياب، وجهد لتجاوز المشكلات، والعقبات والحاجات. وفي الحالة الحاضرة، كانت هناك هوة داخل المؤسسة نفسها، منصوص عليها في الكثير من الداخليات، والانفصال المطلوب بواسطة مخطط الاحتواء. في أمريكا ما بعد الحرب كانت المؤسسة هي مشكلتها. فقد نمطتها استراتيجيات الأداء لأن هذا ما يفعله الأداء المسرحي، الموجه إلى حلها لأن هذا ما تفعله المؤسسة، وحاولت أن تفعل ذلك بتقويته وتمجيده رغم ذلك، لأن القوي الاجتماعية التي لا مفر منه قد رسخت أن الذاتية هي المؤسسة.
تقييم استراتيجيات الأداء:
استراتيجيات الأداء بطبيعتها علاقات ترابطية ودينامية. وهذا هو المفتاح لقيمتها في تحليل المسرح. فهي تختص في النهاية بإنشاء وتدريب المؤسسة الاجتماعية، وتبتكرها العوامل لإنجاز أهداف معينة، وحل مشكلات معينة، وتجيب علي أسئلة معينة حول ما هو العامل. ورغم ذلك، كما هو الحال في أي محاولة أخرى، تتبنى العوامل استراتيجيات في ظل ظروف ليست من صنعهم. وسواء كان الأمر خلاف ذلك، فلا داعي للاستراتيجيات علي الإطلاق. فالعوامل تكون الاستراتيجيات لعبور الانقسام بين القصد والظروف الحالية، للصراع مع الحاضر وتغيير الواقع. فالاستراتيجيات دائما هي مسألة صراع، وخلاف بين القوى والقوى المضادة (لأن كل الأشياء الحقيقية لها قوة سببية)، وهي دائما في مواجهة احتمال الهزيمة. تتعلق استراتيجيات الأداء بالهدف المتجاوز، وخطة لتحقيقه، وخطوات وسيطة تحتاج معايير معينة. وعلي المدى الأوسع يمكننا أن نفكر في شروط مظلة الاستراتيجية بموجبها تكون الاستراتيجيات الفرعية المختلفة ممكنة. ومن المحتمل أن يكون ذلك الطريقة المباشرة لتأمل الصلة بين الطبيعية والرمزية (فرضا)، والتعبيرية في الدراما: فهم يستخدمون مختلف المناهج في التقديم علي خشبة المسرح وإعداد الشخصيات، مع أنها تفترض بشكل أساسي نفس مفهوم المؤسسة. فهم يمثلون مختلف استراتيجيات الأداء التي تشترك في أساس أو هدف مشترك، ومن هذا المنظور، يمكننا أن نتأمل المسرحيات الفردية والعروض باعتبارها تكتيكات (التي قد تكون ناجحة أو فاشلة).
مثل هذا التنوع ممكن لأن شروط الفعل دائما تهدم الأحداث المضطلع بها. وعلي الرغم من أن البنيات الاجتماعية تضع ضغوطا هائلة علي الناس لكي يتصرفوا بطريقة معينة، وتبقي دائما البدائل والاختيارات: فالناس ليسوا مجرد حاملين لعلاقات اجتماعية، أو عرائس ماريونيت تتلاعب بها القوى الاجتماعية – فهم عوامل حقيقية يتخذون قرارات حقيقية لها نتائج حقيقية تختلف عن عما يمكن أن يأتي من اختيار آخر. والبدء بالفهم السائد للمؤسسة ليس إجباريا: هناك مفاهيم أخرى للمؤسسة، تستلزم استرتيجيات أداء أخرى. وبالطبع، علي نفس المنوال، فإن اختيار مسار بديل يعني السباحة ضد التيار.
وفي داخل التنوع، يسمح مفهوم استراتيجيات الأداء لنا ا، الخيوط المشتركة بين التناولات المتشعبة، ونحدد الترابط بين العناصر المختلفة مثل التمثيل والسرد والتقديم علي خشبة المسرح والملابس وخلافه، ليس فقط علي مستوى الفكرة الرئيسية، بل أيضا علي المستوى الإدراكي المتضمن الذي يصبح جزءا لا يتجزأ من جسم الممثل. أو عدم الترابط:لا داعي لأن تنشأ المستويات المسرحية والدرامية والنصية دائما في نفس مخططات الصورة. بل يكونون كما هم عموما، بسبب الهيمنة الاجتماعية لمجموعة من المخططات. إذ يوجد بعض التنوع في القواسم المشتركة لأن الانقلابات وتغيرات المنظور تمكن مجموعة من المكونات المفاهيمية من وضع استراتيجيات مختلفة (مكملة) بشكل أساسي علي الجانب الإدراكي الآخر. فكثير من مخططات الصورة تسمح بتغيرات هذا المنظور، علي سبيل المثال بين المحتوي والشيء المحتوى. وانقلابات هذا النوع لا توجد فقط في التخيل: فهي تنشأ من التجارب الحسية مع الأشياء الفعلية، وتنتمي إلى مستلزماتها. فقد تصنع التضمينات المجازية أو تطبيقات مخططات الصور معنى للحقائق غير المجازية.
ويمكن أن يوجد مثال تغيير المنظورات في مخططات الصورة في المفارقة بين الإسقاط الاستشاري والإسقاط المؤكد. ويقرر لاكوف وجونسون أن الفرق بين نوعي الإسقاط يرتكز علي ما إذا كنا نطبق قيمنا أو قيم شخص آخر. وذلك التحليل يقدم نوعا واحدا من تغير المنظور، ولكن هناك مستوى أعمق. إذ لا تعتمد مشاركة المنظورين الاستشاري والمؤكد علي تضخيم الذات المفعم بالحيوية في الخمسينات: جعلت الظروف الاجتماعية الثقافية العلاقة بينهما خشنة مع توترات وتناقضات الذات الفردية (اكتشاف كل من الذاتية والموضوعية)، ولكن حدوثهما معا له أساس في المجازات المتجسدة – إذ يمكن أن يكون الاثنان متوافقان. والإسقاط الضمني (كما يوحي المصطلح) هو مخططات صورة الحركة علي طول المسار. ولذلك لا يتعلق نوعا الإسقاط فقط بتغيرات المنظور علي أساس القيم (قيمي مقابل قيمك)، بل أيضا علي أساس مخطط صورة مسار هدف المصدر. فالصورة توضح كيف أن الإسقاطين هما علي الأقل متكاملان أو يمكنهما ذلك. ورغم ذلك يوحي هدف مسار مصدر التخطيط أن تحت العنصر القيمي، فإن التمييز بين الإسقاطين الاستشاري والمؤكد له أساس معرفي (يتعلق بإطارين تجريبي وتنبؤي). وتدعم الواقعية النقدية هذا الاقتراح عندما تجادل بأن القيم لا تخلو من نظرية: فالقيم تتأسس في النظريات، والنظريات عموما تستلزم القيمة علاوة علي الأحكام العملية. إذ تربط الخلفية الأبستمولوجية للإسقاط نوعيه بجدليات المنظور والتغيرات ونسبية الأحكام المكملة في اتجاه أنساق قيمة مع نسبية معرفية فيا يتعلق بقيم الأفكار المتضمنة في ما يتعلق بالعالم الموجود بشكل مستقل الذي يجعل الأحكام ضرورية. بمعنى آخر، يرتبط تكامل الإسقاطين المؤكد (الاسترجاعي) والاستشاري (المتوقع) بتمايز الواقعية النقدية بين النسبية المعرفية (التي تفهم أن كل النظريات يتم إنتاجها بشكل اجتماعي تاريخي) ومنطقية سرعة الحكم (تأكيد الأسس لتزكية نظرية فضلا عن الأخرى) واندماجها معهما.
ويمكن أن أجادل بأن هناك أسس لتأمل مفهوم استراتيجيات أداء أكثر قدرة من مفهوم النوع علي تقديم تفسير قابل للتطبيق وتحليلات. فاستراتيجيات الأداء تقوم على علاقات اجتماعية تاريخية ومصادر وديناميات وعمليات تؤكد أو تقدم الحسية والتجارب الاجتماعية التي تلعب دور أساسيا في تنظيم أفكار وفن ذلك المجتمع. يستطيع الباحث أن يدرس ما هي البنيات التي لها الجزء الأكبر في عمل مخططات صورة بارزة بعينها، وكيف أنجزوا ذلك بالضبط. علاوة علي ذلك، تعكس استراتيجيات الأداء الاختيارات التي يصنعها الناس داخل ظروفهم الاجتماعية. ولذلك يختص مفهوم استراتيجيات الأداء بالعلاقات بين البنيات والعوامل وأنواع الخطاب – كل الانطولوجيا الاجتماعية.
الأداء المسرحي إذن، ليس فقط مسألة علامات وتمثيلات وأساليب أو أنواع خطاب. ولا يمكن اختزاله في الناس الذين يفعلون أشياء. إنه كلية فرعية مركبة تتكون من مختلف العلاقات الاجتماعية والعمليات والمنتجات والعوامل، التي نشأت من كلية اجتماعية أكبر وفي داخلها. وقد نظمت بنيتها الطبقية الخاصة بها في سياق ظروف طبقية المجتمع الانطولوجية. وتتضمن بنيتها مختلف مكونات الكليات الفرعية مثل الترتيب المادي والنصوص والممثلين والمشاهدين. والمسر باعتباره كلية ناشئة، فإنه يمتلك قوى فريدة، ولكن كيفية تجربة هذه القوى، وماذا يمكن أن تكون مؤثراتها النهائية، يعتمد علي التفاعل الحقيقي لهذه العناصر المتعددة.
والنوع، بالمقارنة، هو مفهوم أسلوبي أو شكلي. ويتوظف علي المستوى المنطقي وحده، بدون أي علاقة ضرورية بأفعال الناس، أقل بكثير من ديناميات اجتماعية. علاوة علي ذلك، فان الحدود المفاهيمية للنوع غامضة بشكل خطير: الكوميديا نوع يضم اريستوفانيس وبرنارد شو، والطبيعية هي نوع له أمثلة جادة وكوميدية. ولكن مع ذلك، لا داعي أن يجيب مفهوم استراتيجيات بالضرورة علي كل سؤال البحث: فهو قابل للتطوير، بمعنى أنه يسمح بمستويات استراتيجيات أوسع وأدق، ولكنه قد يكون مؤثرا لفهم طبيعة الكوميديا بما هي كذلك، عبر استراتيجيات أداء مختلفة. وسوف تثبت المزيد من الجهود لتحليل المسرح في إطار استراتيجيات الأداء مدي فائدته. وفي نفس الوقت، يظل مفهوم النوع مفيدا، علي الأقل في تحيد عائلة التشابهات المفككة بين المسرحيات أو مقاربات الأداء، رغم أنها ربما لا تكون أداة تحليلية حقيقية.
تظل كثير من الأسئلة الأخرى أيضا. وهناك الكثير لنقوله عن كيف تصنع البنيات الاجتماعية مخططات صورة مركزية لعصر معين بدقة، وكيف ولماذا تتغير المخططات السائدة، سواء احتاج الأداء المسرحي لضبط المخططات السائدة بطريقة ما، الخ. تحتاج طبيعة وعلاقات الأساليب المتزامنة (مثل الطبيعية والرمزية) نقاشا مفصلا. فالبنيات الاجتماعية المختلفة مثل الجنس والنوع والطبقة لها مؤثرات علي تجربة المشاهدين التي يجب أن تؤخذ في الاعتبار. وتقدم الواقعية النقدية إطارا فلسفيا قويا لدراسة هذه المسائل من خلال التمسك بكل من حقيقة العالم في خارج العقل والسمة الاجتماعية لأفكارنا عنها، وبتجاوز الهوة بين العالم والعقل دون هدمهما معا.
توبين نيلهاوس (Tobin Nilhaus) يعمل أستاذا للدراما والدرسات المسرحية في جامعة يال بالولايات المتحدة الأمريكية. وقدم الكثير من الدراسات في تاريخ المسرح ونظرية الأداء والواقعية النقدية.
......................................................................................توبين نيلهاوس (Tobin Nilhaus) يعمل أستاذا للدراما والدرسات المسرحية في جامعة يال بالولايات المتحدة الأمريكية. وقدم الكثير من الدراسات في تاريخ المسرح ونظرية الأداء والواقعية النقدية.
وهذه الدراسة تقع في الفصل الثالث من كتاب “فلسفة الأداء المسرحي: تقاطع المسرح والأداء والفلسفة” Staging Philosophy: Intersection of theater، performance and philosophy - الذي صدر عن مطبوعات جامعة ميتشجان عام 2009... تحت إشراف (ديفيد كريزنر David Crazner) و(ديفيد سولتز David Saltz)


ترجمة أحمد عبد الفتاح