سعيد سليمان: الفلاح الفصيح إرهاصة نطرق بها باب التراث الفرعوني

سعيد سليمان: الفلاح الفصيح إرهاصة نطرق بها باب التراث الفرعوني

العدد 617 صدر بتاريخ 24يونيو2019

يطرق دائما باب النفس البشرية يغوص في الروح وما يمكن أن تشعر به من معاناة أو نشوة، يبحث عن الذات من خلال البحث في الروح لأنها الملاذ والخلاص للإنسان من كل ما يؤرقه، فهي عودة لطبيعته الفطرية بعيدا عن المكتسبات الحياتية، كما اعتدنا منه في جميع عروضه سواء التي كتبها بنفسه أو أخرجها لمؤلفين آخرين، دائما يضع لمسته الروحية والتأملية تأثرا بدراسته لليوجا والتأمل، بالإضافة لعلم النفس والفلسفة التي ساهمت في فهمه للتكوين الإنساني الذي ساهم في جعله قادرا على التعامل مع الممثلين وتدريبهم على شتى الفنون من تمثيل، عزف، ورقص، خصوصا مع إيمانه الكامل بنظرية الممثل الشامل، بعد أن قدم «شامان» وهي حالة للعلاج النفسي الذاتي للأفراد، و»الإنسان الطيب»، يقدم لنا اليوم «ترنيمة الفلاح الفصيح» ذلك الطقس المسمى بالأوبرا الطقسية الفرعونية، في محاولة منه لاسترداد الكيان الإنساني المسروق.. فكان لـ»مسرحنا» مع المخرج سعيد سليمان هذا اللقاء.
بداية حدثنا عن «ترنيمة الفلاح الفصيح»؟
النص تأليف وأشعار محمد حمد وهو نص يعتمد على شكاوى الفلاح الفصيح، الشكاوى الفرعونية المعروفة، سرقة قافلة من قِبل البلاط الملكي تعود للفلاح الفصيح الذي رفض هذه السرقة، وبدأ يتقدم بعدة شكاوى للبلاط الملكي والملك، وسط سعادة البلاط بأسلوبه الفصيح، فسمي بالفلاح الفصيح، كانوا يستمتعون بفصاحة شكواه فتركوه لبعض الوقت قبل أن يعيدوا له حقه، في العرض استبدلت سرقة القافلة بسرقة كيان روحي وإنساني عام، متمثل في الفكر، والمشاعر والروح الإنسانية، استبدلت قافلة القمح والشعير بالمخ والقلب والروح التي هي إله لدى الفراعنة، وبالتالي يحاول العرض من خلال حالة وليس قصة أو حكاية، استرداد ما سرق من هذا الفلاح، ومحاولة العثور على كيانه الروحي، وسط عالم يُغيب العقل والفكر، باسم الدين أو المجتمع ويغيب المشاعر الإنسانية تحت العنف السائد، بحيث تتبلد المشاعر الإنسانية ويموت القلب، فيصبح إنسانا متبلدا، وبالتالي يحاول أن يعرض الفلاح الفصيح هذه الحالات في شكل مرئي وواضح للناس والنور، فيقول كل ما يعرض في النور يصبح نورا، لأن تلك الأشياء قد تكون مخبأة داخل العقل الباطن، لقد أصبحنا أشبه بالآليين، نسير بشكل ميكانيكي، وعاجز، وغير آدمي، نعرض هذا العنف، وهذه السرقة للدماغ والمشاعر الإنسانية والروح، وتلك هي التيمة الرئيسية في العرض.
هل هناك ما يسمى بالأوبرا الفرعونية الطقسية أم أنها ابتكارك؟
نعرف أوبرا عايدة باعتبارها مستوحاة من الجانب الفرعوني، لكننا نقدم شيئا جديدا يمكن أن نطلق عليه إرهاصة أو تجربة خوض في هذا المجال، فلماذا لا نطرق هذا الباب التراثي الفرعوني الجميل بشكل أوبرالي وتجربة أوبرا فرعونية تقوم على شيئين أساسيين، أولا الموضوع لأن الموضوع نفسه مأخوذ عن الفلاح الفصيح الفرعوني، وثانيا الطقوس الفرعونية كالتحنيط والطقوس الجنائزية الموسيقية أو طقوس السبوع التي أساسها فرعوني، وظفت جميعها كشكل موسيقي وشعر عربي، ففكرت لماذا لا نقدم أوبرا فرعونية كاملة، وسبق أن قدمت تجارب تشبهها ولكن أوبرا شعبية في ياسين وبهية، لكن يختلف الأمر هنا لأن الديالوج والمونولوج جميعها مغناة، بعد أن طلبت من المؤلف أن يحول النص كاملا إلى شعر، فحولناه لألحان موسيقية مغناة بالكامل باسم الأوبرا.
ما زال بإمكاننا أن نقاوم وسلاحنا الكلام.. فهل الكلام سلاح قاتل وحينٌ آخر طوق نجاة؟
نعم، بالتأكيد فالعنف لا يحقق النتائح، وفي كل الثورات إذا كنت تحمل بداخلك ما تريد الإفصاح عنه وحقيقي، فقله، سلاحنا الكلام لا تصمت عما يصيبك من جمود وسلبية ومن عالم يفرض ما هو عنيف ومبتذل ومستهلك، فيحولك إلى أداة مستهلكة وآلة، ولا أقصد الصمت عن الحق السياسي بل عن الحق الإنساني بشكل عام.
هل فعلا المسرح الطقسي لا يعتمد على الشخصية والحبكة؟ وعلى ماذا يعتمد؟
نعم، المسرح الطقسي حالة مختلفة عن المسرح الدرامي والكلاسيكي المتعارف عليه، لكن ليس شرطا ألا يعرض صراعا، فهناك صراع ولكنه مختلف، المسرح الطقسي ملهم لشكل الصراع نفسه وليس أدواته الجمالية فقط، بمعنى أن الإنسان قد يوضع في بؤرة عالم مغيب أو عالم يسلبه إنسانيته، هنا صراعه روحي صوفي مختلف من الداخل، يحاول إثبات إنسانيته في جوهرها، وبالتالي إما ينغمس في طقوس ضد أو مع هذه الغيبوبة، بمعنى طقوس تنويرية تجعله يخرج من هذا العالم الذي يسلبه، فيقوم بطقوسٍ مبتكرة لإثبات وجوده الإنساني، ولهذا فالقول عنه كثير جدا، فطقس التحنيط مثلا يُعرف بأنه عبارة عن تفريغ الجثة من كل أحشائها، لتصبح مومياء وتوضع في التابوت، هنا كانت فكرة كيفية توظيف الطقس الدرامي فوظف الطقس بأنه تفريغ العقل والقلب والروح متمثل في عصفورة، فأصبحت مومياء لكنها على قيد الحياة لا تُدفن فقط مُفرغة من هذه الأدوات، وطقس السبوع: «الهون»، والغناء، والإيقاع حول الطفل، نعلم أن كل ذلك حتى يتمكن الطفل من السماع، هنا استبدلنا «بالهون» المخ فكل ما حول المخ يريد من المخ سماعه هو فقط، فوظف الطقس بأن أدمغتنا لم تعد ملكنا بل ملك لمن حولنا يبثوا فيها آراءهم الآيديولوجية، فأصبح مجرد سلبي يتلقى. الطقوس جمالية ودرامية لكن كيفية توظيفها هو الذي يحمل الكثير من القول.
هنا من يتفوق في المسرح الطقسي الجسد أم الكلمة والكلمة قد تكون منطوقة أو قد تكون إضاءة أو حركة أو إيقاع؟
الكلمة منذ نشأة وجودها مرتبطة بالمنطق ومخاطبة الفكر، الطقس كصورة وإن كان يحمل بعض المفردات الكلامية فالمفردات الكلامية تتحول لكلمات أشبه بالتعاويذ والأناشيد والترانيم، وبالتالي الطقس يخاطب الوجدان والمشاعر التي تريد إيصالها أي لا يمنطق الأشياء، مشاعر تنتفض بالتمرد وبالحب أيا كان، والطقس يجب أن يكون مشاركا بشكل أو بآخر سواء على خشبة المسرح أو إيقاع، ومن يعمل على هذا الطقس لا بد أن يكون من المتفرج أو هذا المشارك يشارك وجدانيا، وليس شرطا مشاركته الجسدية مع الطقس المعروض الذي أصبح جزءا منه، وبالتالي سيخرج الجمهور بعد العرض منتشيا ومتفائلا لأننا وضعناه في قلب الحالة الطقسية، وبالتالي أصبح جزءا منها، وليس شرطا أن يعمل معنا بجسده ولكن كيف يشارك وجدانيا وهذا يحتاج لخبرة وتكنيك وتدريب مختلف.
هذا مثل البحث عن ممارس لهذه الطقوس لذلك تشرك الجمهور؟
أحاول وضع الجمهور في هذه الحالة من خلال جسده ومشاعره وليس الفكر والدماغ، لأنه سيفكر فيما بعد بماذا كان يشعر، وهذه هي المشاركة التي أتحدث عنها، أن جميع الأدوات سواء على مستوى الحركة، أو مستوى الأداء أو الموسيقى والإضاءة والمنظر المسرحي كله بشكل عام مسخر لخدمة مخاطبة هذا الكيان وهو الجمهور، وفي النهاية نصل للفكر عن طريق المشاعر لتصبح الرسالة أقوى من مخاطبة الفكر مباشرة، وهذا له علاقة بعلم النفس وسيكولوجيات الجماهير، والطقس جزء منه، وهناك مقولة لحكيم صوفي بوذي «لا مانع من غسل الدماغ» - وجميعنا ضد غسل الدماغ - طالما أن الدماغ مليئة «بالصراصير» فلننظفها، وباعتباري مهتما بالصوفية والبوذية والتأمل، فتلك الجملة تصلح للجمهور، ولكنني لن أقدمها في شكل مقولة فكرية أو نصيحة، ولكن بشكل فعلي مادي معناه إن تضخمت هذه الأشياء ستأكل كيانك الإنساني والروحي كله، فأنبهك لهذا الخطر، وهذا هو المسرح والطقس، أفتح الدماغ وأخرج «الصراصير» على هيئة وحوش تلتهمك وتفقدك إنسانيتك فيصيبك الرعب من هذه الوحوش ويظهر على جسدك في شكل قشعريرة.
إذا ففكرة استخدامك للقاعات الصغيرة لرغبتك في مشاركة الجمهور بالعرض؟
إلى حد كبير أحب الحميمية مع الجمهور، وعلى الرغم من أن الفلاح الفصيح على خشبة مسرح ولكن لا يمنع من الاحتفاظ بحالة مشاركة الجمهور، المشاركة الوجدانية والفكرية والعاطفية بأساليب مختلفة منها الموسيقى أو التشكيل أو الصور، بحيث لا يكون العرض في عالم والجمهور في عالم آخر كما يحدث في كثير من العروض.
هل يعتمد المسرح الطقسي في ديكوره على اللجوء لديكور من التراث أو من الحضارات السالفة أم يمكن تقديمه بديكور عصري؟
يمكن تقديم هذه الحالة بديكور عصري أو بدون ديكور من الأساس بأبسط الإمكانيات، فعصا قد تتحول لعدة أشكالٍ، لأن الطقس جوهره التحول، فعلى مستوى العالم أفريقيا أو آسيا الطقس في البلدة أو القرية أو المعبد من يدخل المعبد ويمارس الطقس هنا يحدث له تحول ليخرج مختلفا، التحول سر الطقس، وقد تتحول الأدوات نفسها كما يتحول الإنسان، تتحول العصا لحصان ثم لمبنى أو سيف، وبالتالي تثير خيال الجمهور من خلال عدة طقوس تمارس على العصا، أيضا هناك ما يسمى بطقوس العبور وهي العبور من حالة لأخرى مثل الانضمام لمجموعة أو طائفة أو اتجاه ما فيقومون بعمل ممارسات تتماشى مع هذه الطائفة أو المجموعة، وبالتالي أعبر من إنسان لا ينتمي إليهم لإنسان ينتمي إليهم، وهذا للأسف موجود على سبيل المثال في التيارات الدينية المتشددة، يتم مسح الأدمغة ولكن بشكل سلبي، بينما نحن نقدمه بشكله الإيجابي.
كيف أثرت دراستك لليوجا والتأمل على عملك بالمسرح؟
بالتأكيد أثرت على عدة مستويات أولا تساعد على فهم الإنسان وكينونته وعلاقته بالكون، علاقة تكتشف أنها ليست علاقة صراع أو مجابهة لكن علاقة اتحاد وحب مع الكون، وبالتالي يمكن صناعة دراما لا تقوم على الصراع التقليدي بقدر قيامها على محاولة الاتحاد وعلى العلاقة مع الطبيعة هذا جوهر التأمل واليوجا، ومن جانب آخر يلهمك بأشكال مختلفة فحين تدخل لعالم التأمل العميق تكتشف أن دماغك التي هي جزء من العالم الكوني لا تعبر عنك بل محملة بعدة أفكار آيديولوجية وضعت بها سواء دينية أو سياسية أو أيًا كانت، وتتساءل أين فطرتك الحقيقية التي إن وصلت إليها ستكتشف أنك لست ما أنت عليه الآن، على الرغم من إيمانك ببعض الأشياء لكن جوهرك الحقيقي لا يميل لهذه التيارات بينما تماشيت معها وأصبحت جزءا منها، وهنا يأتي دور التأمل ليفصلك عن الجزء المُملى عليك وبين ما أنت عليه بشكل حقيقي، أيضا أثرت على مستوى التكنيك أثناء ممارستها، فمعروف عني اهتمامي بحركة الممثل على المسرح بشكل كبير، وبالتالي لا أستعين بكريوجراف في عروضي لأنني ممارس لليوجا، أدرب الممثل تدريبات بدنية وتحضيرية للعرض مستلهمة من اليوجا بكل أشكالها، وأضعهم في حالة تأمل، أفادتني الدراسة على المستوى الجمالي والإنساني والتكنيكي مع الممثل.
أستشعر من حديثك أنه يمكن تدريب الممثل على أي من العناصر كالغناء والرقص مثالا حتى وإن لم يتقنها؟
لكن لا بد أن يكون هناك مفردة من المفردات أهمها «الودن» بمعنى أنه مستمع جيد ويميز ما يسمعه، فليس مطالبا أن تكون جميع الأصوات جيدة ولكن سيوظف صوته في العرض، كذلك العزف إذا لم يكن عازفا نعلمه العزف على الآلات الإيقاعية، أيضا لا بد أن يمتلك جسدا لينا بمعنى أن لديه الاستعداد لبذل جهد كبير، فالمهرج مثلا أؤمن أنه لا يبهرنا فقط بما يقدمه من حركات بل بما يجعلك تشعر أنه يستطيع تقديمه، فقد يشعرك أنه سيحلق طائرا على الرغم من أنه لن يطير، فقط الاستعداد الحركي يجعل المتفرج يذهب بخياله لأبعد مما يشاهده، لأن لياقة المؤدي البدنية واضحة جدا وهذا ما نفعله على مستوى الآلات الموسيقية والغناء بينما الطرب لا بد أن يمتلك صوتا جيدا حقيقيا.
جميع عروضك تغوص في النفس البشرية معنى ذلك أنه يمكنك استخدام المسرح كعلاج نفسي؟
سبق وقدمت هذا من خلال عرض «شامان» كان علاجا ذاتيا وشخصيا للفرد بنفسه من الأمراض النفسية، أؤمن بالعلاج النفسي من خلال المسرح وأسميه العلاج الروحي، لأنه أعمق، وهناك فرق بين النفس والروح فالنفس مكتسبة بينما الروح طبيعية، النفس تكونت من خلال مكتسابتنا التي نعيشها مع الأسرة والمدرسة والمحيطين، الروح في جوهرها الحقيقي بفطرتها، والتأمل يجعلك تصل للروح وليس النفس، وحين تصل إليها تخلق علاقة مع النفس فتنقيها وتهذبها من خلال الروح، نعم مؤمن بالعلاج الروحي ومعظم عروضي تهتم بالعلاج الروحي.
المدنية هي السبب في تدمير الطاقة الروحية للإنسان كما قال «أنطوان آرتو»؟
تحدث آرتو عن ذلك في الثلاثينات عن أوروبا، ولكن قد يلمسنا الآن باعتبار أن التكنولوجيا تعممت بدليل الهواتف التي تفصلنا ليس فقط عن النفس والروح ولكن عن المحيطين بنا، وبالتالي فتنطبق المقولة علينا بشكل معاصر، ولكن ليست التكنولوجيا فقط السبب إنما الآيديولوجيات الاجتماعية والسياسية والدينية التي تقتل الروح، الآراء الرجعية والخطب الجاهلة، الطغيان، وليس شرطا أن يكون سياسيا، بل قد يكون داخل الأسرة أو المدرسة أو في الشارع، فوسائل كسر الروح متعددة في عالمنا المصري والعربي بشكل عام.
إذن نحن كمجتمعات عربية في حاجة لتلك العروض التي تلعب على النفس البشرية؟
هذا حقيقي، هذه النوعية مهمة جدا، ومنذ كنت طالبا في المعهد أهتم بعلم النفس والفلسفة، وأؤمن أن أي فنان يجب أن يهتم بهم، لأن كل التيارات العالمية قائمة عليهم، فالفن التشكيلي في أوروبا الذي قامت بعده المدارس المسرحية، قائم على الفلسفة، والقصد من الفلسفة هو مفهومك لمعنى إنسان ومعنى الله والكون والطبيعة، وما هي علاقتك بالفضاء الخارجي، أدعي أننا لا نعلم شيئا عن علم النفس والفلسفة، وما هو معنى التأمل، حين درست علم النفس اكتشفت أن التأمل أعمق منه، حيث إن أبرز علماء النفس السويسري «يونج» اتجه في آخر أيامه للتأمل كمصدر أساسي لعلم النفس لأن التأمل يفتح مدارك لا حدود لها، وهنا الفنان سواء كان ممثلا أو مؤلفا أو موسيقيا يتعامل مع الجمهور، وبالتالي كيف سيتعامل مع الإنسان وهو لا يعرف العلوم الإنسانية، فالأمر لا يجعلك عميقا فقط في رؤياك ولكن ستضع يدك على ما ينتاب المتفرج المعاصر.
يوفر المسرح شاشات لذوي القدرات الخاصة من الصم والبكم وبما أنهم أكثر من يمر بصراعات داخلية ونفسية ألا تفكر في تقديم عرض خاص لذوي القدرات عموما؟
فكرة الشاشات للمخرج عادل حسان وإسماعيل مختار رئيس البيت الفني للمسرح، وبالتأكيد فكرت في تقديم مشروع خاص بذوي القدرات الخاصة، وهناك مشروع كنت أجهزه لكن الفلاح الفصيح شغلني بعض الشيء، وهذا الأمر ليس مهما فقط بل أعتبره تحديا، لذلك يجب أن أفهمهم وأدرسهم بشكل علمي، وأقرر بأي لغة سأحادثهم، بالإضافة لحرصي ألا تُحمل التجربة بالسبوبة وتقدم بشكل صادق، حين أخوضها سأدرسها على المستوى النفسي والفكري والخبرة الحقيقية مع هؤلاء.

هل يختلف العمل على مؤلفات آخرين عن العمل على مؤلفاتك؟
بالطبع يختلف الأمر كثيرا لأنني أنظر للشكل الباطني وبشكل جوهري للنص مثلما فعلت مع هذا النص وحولت الكلمات لشعر، واستبدلت القافلة بالكيان، أنظر لما وراء الكلمات والتيمة والشخصيات، كما فعلت في بعض من عروضي التي قدمتها مثل «ماكبث» فقد اختصرت منه الكثير، لكن حين أكتب النص فأكتبه مختصرا وأدخل للجانب الباطني مباشرة.

درست تمثيل وإخراج سينمائي بإحدى ورش رأفت الميهي فكيف استفدت منها على خشبة المسرح؟
أفادتني في الكادر الجمالي، أو ما يسمى بعمق الكادر، العمق وتطبيقه على المسرح، بمعنى ألا يكون الكادر مسطحا، وأنا أعتبر المسرح نفسه كادرا، فهناك مستويات متعددة من العمق على خشبة المسرح، أيضا المونتاج أرى أنه يصلح للمسرح وهذا أمر جديد على المسرح، فالإضاءة أعتبرها مونتاجا لأنها تغير زوايا الرؤية، فقد تكون زاوية عميقة وتنتقل لأخرى فيما يسمى بالقطع والقطع مونتاج، أيضا تعرف متى تغير كيوهات الإضاءة، القطع عند الضرورة وكذلك المسرح ألا أحرك الممثل طيلة الوقت بسبب وبدون سبب لأنه حين يتحرك تتغير زاوية الرؤية، الكتلة والفراغ والفضاء المسرحي والسينوغرافيا هي المونتاج، أداء الممثل في علاقته مع المجموعة والحركة الجماعية أو الفردية مونتاج، وبالتالي نلعب لعبة القطع على خشبة المسرح وهذا جزء مهم جدا، حتى على المستوى الأدبي بالنسبة للسيناريو وكتابته ودراسة الشخصيات تحديد الشخصيات أعمق ومفصل في السينما عن المسرح، مما يجعل هناك عمق في التعامل مع الممثل.
نذهب للمسرح التجريبي.. هل ما يقدم في مصر مسرح تجريبي؟
تلك المسألة نسبية فمثلا أنطوان آرتو الذي ذكرتيه شاهد عرضا إندونيسيا وقال عنه «تجريبي»، والعرض كلاسيكي جدا، وليس له علاقة بالتجريب، لكن لكونه لا يوجد في أوروبا أصبح بالنسبة له تجريب، أيضا الكوميدية دي لارتي وهي من التراث حين تقدم في إيطاليا لا تشكل فارقا، بينما إن قدمت في آسيا تصبح مدهشة ومختلفة، وهنا في مصر المحبظاتية أو الشكل الشعبي للذِكر سيكون مختلفا وملهما وجديدا في أوروبا، وهذه أنواع مسرح تختلف من بلد لآخر، أما المجرب فهو يستلهم من كل هذه الأشياء ويعمل عليها، وهناك بعض الاجتهادات المهمة والحقيقية في التجريب، وأخرى غير حقيقية، لكن التجريب مطلوب ومهم، فالمسرح مرتبط بالإنسان وتطوره الحقيقي لذلك يجب أن يكون متطورا أيضا، وبالتالي يصبح هناك أدوات مختلفة لهذا التطور، لأن الأدوات الجمالية تتغير، فمثلا التطور التكنولوجي في أوروبا سيكون هناك مسرح تجريبي مبهر لأنه يرتبط بحضارة صناعية متطورة. على الجانب الآخر نذهب لغروتوفسكي في بولندا يخاطب المسرح الفقير فيخاطب الإنسان وحده وليس له علاقة بالأدوات المبهرة، تلك التجارب لم تقم بالصدفة بل دراسة ووعي لماذا أجرب وما علاقتي بالمتفرج، وما الذي أخاطبه، وهنا الأدوات مستلهمة من أدواتك الخاصة في التراث أو ممزوجة ببعض التراث على مستوى العالم كله، لننظر لتكنيك الممثل في المسرح الآسيوي كان عنصرا جاذبا للمنظرين في العالم كله بدون استثناء بدءا من بريخت، كان أداؤهم مستفزا بالنسبة للمنظرين الذين عملوا على دراسته، بينما بالنسبة للآسيويين لا يشغلهم فهو مجرد تراث.
وما هي فلسفة التجريب؟
التجريب فلسفة تحتاج لعلوم كثيرة، فلا أؤمن بالتجريب في الإضاءة أو الديكور أو أي من عناصر العمل، التجريب يبدأ من العمق ثم الأدوات الجمالية بحيث تكون مطابقة لهذا العمق، وأنا ضد مقولة التجريب في الإضاءة أو الحركة، لكن هناك فلسفة للتغير والتطوير قائمة على علاقتك مع الإنسان بكل أهوائه الفكرية والنفسية، كل هذا تضعه في الاعتبار أثناء التجريب.
هل يُؤصل سعيد سليمان لمدرسة مسرحية للأجيال القادمة؟
لا أسعى لذلك أعمل بروح الهواة جدا أبذل جهدا وأستمتع بالبحث والتنقيب والأشكال المسرحية في العالم، وكيف نقدم شكلا خاصا لا نقلد بل يكون لدينا خصوصية الطرح، كل ذلك قد يشكل شيئا ما، لكن الصراحة والصدق لا أدعي أن هناك مدرسة، قد تكون لكنها ليست ملموسة قد تتضح خلال السنوات القادمة، وأنشر ذلك بنفسي، لأن معظم المنظرين في العالم خبروا عن أنفسهم وقدموا نظرياتهم.


روفيدة خليفة