سأموت في المنفى.. بدل فاقد حينما يصبح الفن أداة للمقاومة

سأموت في المنفى.. بدل فاقد  حينما يصبح الفن أداة للمقاومة

العدد 610 صدر بتاريخ 6مايو2019

لا تهرب! اصطدم بكل قوتك! فلحظة كسر الأشياء لها رنين خارج عنا، لكنه يمسنا نوع ما، فإن ذلك الرنين بالضرورة يحدث صدعا بداخلنا، يجبرنا على اختراق الصمت والمقاومة. تمرد! فقبولنا لبعض الأفكار أحيانا يساوي قبولنا للقتل دون حدود. تمرد! لا يمكن أن تستهلكنا سلطة الإذعان والقبول. تمرد! ولو بالفن الذي قد يعمق إحساس الصدع بداخلنا، فيحفزنا على التمرد. الفن نوع من المقاومة - كيف يمكن الحديث عن القضية الفلسطينية دون أن يتصدرها فعل المقاومة؟! إنها مقاومة من نوع آخر سلاحها الكلمة والإيماءة والمعنى. الفن قادر على إثارة لحظة الكسر على الدوام والاحتفاظ بها، لتظل حية دائمة لا تندمل، نعرفها ونورثها لأبنائنا وأحفادنا، أن تظل تلك اللحظة الحاضرة، ذلك المطلوب دائما بالنسبة للقضية الفلسطينية، فلا بد أن تظل تلك اللحظة حية، لحظة التفتيت واستلاب الأرض بإعطاء من لا يملك لمن لا يستحق.
“على كل فلسطيني أن يروي روايته”، كما يقول إدوارد سعيد.
تلك الجملة مفتاح الولوج إلى عرض “سأموت في المنفى – بدل فاقد” الذي عرض في الهناجر وفي جامعة القاهرة وفي شرم الشيخ والكثير من الدول العربية، “سأموت في المنفى” من تأليف وإخراج غنام صابر غنام، بمعنى المقاومة يمكن مواجهة شبح النسيان المهدد الدائم للذاكرة، شبح نسيان الماضي، حتى يبقى الوضع رهن ذلك الحاضر الذي يطرحه المخرج المؤلف عن فلسطين ضمن حكايته في نوع من الكشف، والتذكير، حيث يقول “سنتان من 1948 إلى 1950 لم يبقَ هناك شيء على الخريطة اسمه فلسطين، الاحتلال الإسرائيلي أخذ جزءا وسماه إسرائيل، ونحن محينا الباقي، الجيب في جنوب المتوسط ألحقه بالإدارة المصرية وأسماه قطاع غزة، شوية شمال غور الأردن ألحقه بسوريا وصار اسمه الحنة السورية، والأرض خلف وغرب الأردن الضفة الغربية للملكة الهاشمية، محوها من على الخريطة، أصبح لا وجود لها”، تلك طبيعة الاستعمار على الدوام ذلك التفتيت للدول والمحاولات الدائمة لمحو الهوية. يتم طرح هذه الجزئية في كتاب المفكر “جمال حمدان” استراتيجية الاستعمار حيث يقول:
“تتعاصر بدايات الحركة الصهيونية مع آخر موجة كبرى من موجات الاستعمار الأوروبي الحديث، وخصوصا موجة التكالب على أفريقيا والتي يتعاصر تحققها مع نهايات عصر الاستعمار بوجه عام، فلقد تعلقت الصهيونية بأذيال الموجة المدارية لتركبها ولتستثمر المناخ السياسي الاستعماري العام، وصولا إلى تحقيق أهدافها الخاصة في إنشاء (الدولة اليهودية الصهيونية) وهي من بدايتها حركة سياسية (الصهيونية السياسية) وقد تقنعت منذ اللحظة الأولى بالدين لتختلق من (رؤيا العودة إلى أرض الميعاد) آيديولوجية تاريخية ودينية”.. يمكن أن تعرف أنه في داخل كل فلسطيني تكمن حكاية الوطن وأوجاعه، ومن غير المهم كيف تُحكى فنيا، أو تحت أي تصنيف فني يمكن أن ندرجها، وعلى ذلك يمكن أن ترى في “سأموت في المنفى” حكاية مكررة بأشكال مختلفة تكمن في صدر كل فلسطيني ويعبر عنها بطريقته، والحكاية ما هي إلا تعبير يشكل السرد أساسه لأنه يقوم على قص حادثة فعلية أو مختلقة ويفترض وجود راوٍ، وهي تعد شكلا من أشكال التعبير الشفوي أفرز أنواعا أدبية متنوعة تقوم على القص، والعروض التي تتخذ من الحكي وسيلة للتعبير هي عروض تقوم على وجود حيزين هما حيز اللعب وحيز المتفرجين، ويتحقق فيها شكل من أشكال الفرجة، وعرض “سأموت في المنفى” يقدم بهذا الشكل، فيجلس الجمهور في دائرة وفي المنتصف يقدم المؤدي حكايته.
هنا يؤكد راوينا الوحيد في الحكاية قائلا “أبي وأمي ولدا في بلد مش موجودة على الخريطة، أصبح هناك لاجئ فلسطيني وليس هناك وطن اسمه فلسطين”،، عن وجع يسكن جنبات هذه الجملة يعبر الراوي، في أداء مفعم بالشجن، لكن ما أن تندمج بوصقك متلقيا في حالة الشجن هذه إلا ويعود بك من جديد إلى التذكير بأنه يظل واجبنا نحو القضية هو الرفض والمقاومة، وهكذا يحضر تذكر الفن من جديد بجمل لشاعرنا الفلسطيني محمود درويش حيث يقول “كانت تسمى فلسطين صارت تسمى فلسطين” تعبير يدل على استمرارية الزمن والاحتفاظ بالاسم والهوية.
يتطرق الراوي إلى “معنى اللاجئين والنازحين، وكيف تم تسمية عائلته باللاجئين وهم في إطار نفس البلد”..  جرى النزوح الجماعي من فلسطين على أربع مراحل ارتبطت بشكل وثيق بتطورات الحرب ذاتها، ففي الفترة من ديسمبر 1947 (المرحلة الأولى) مع رحيل الكثير من عائلات الطبقتين، العليا والمتوسطة، خصوصا من مدينتي حيفا ويافا اللتين كان المقرر أن تكونا تحت سيطرة الدولة اليهودية في طور التكوين، وقد اتضحت محورية مشكلة اللاجئين الفلسطينيين في الصراع خلال المفاوضات الإسرائيلية، الفلسطينية، الأمريكية التي جرت في الفترة من يوليو 2000 حتى يناير 2001 خلال قمة كامب ديفيد وما أعقبها، حيث برزت قضية اللاجئين باعتبارها أكثر القضايا أهمية وصعوبة في التناول، ففي حين أكد العرب على حقهم في “العودة”، رفضت إسرائيل معللة موقفها بأن تطبيق العودة سيؤدي إلى زوال الدولة اليهودية، فكرة النزوح الجماعي يقدمها “بيني موريس” فى كتابه “مولد مشكلة اللاجئين الفلسطينيين” ترجمة عماد عواد، والصادر عن سلسلة المعارف بالكويت 2013.
يعود الراوي ليكمل حكايته بعد أن جعل المتلقي ينتبه للتواريخ الخاصة بالقضية، وببعض من الأسى يؤكد «أشعر بأنني بدل فاقد» هذا الذي يقف أمامكم هو بدل فاقد، أريحا التي ولدت بها هي بدل فاقد، عن كفر عانا التي كان يجب أن أولد فيها، بنت الجيران التي أحببتها في جرش هي بدل فاقد، عن بنت الجيران التي كان يجب أن أحبها في كفر عانا، فرحة الثانوية التي فرحها لي أهل جرش مع نبلهم هي بدل فاقد، عن فرحة الثانوية التي كان يجب أن تكون في كفر عانا، حتى زوجتي وأولادي بدل فاقد، عن الذين كانوا مهنتي كمسرحي هي بدل فاقد، لمهنة معلم مزارع لست أدري، ربما النكبة هي التي صنعت مني مسرحيا، والسؤال الذي يؤرقني الآن أنا حين أموت الآن من الذي يموت غنام الأصلي أم غنام البدل فاقد. وينتقل الراوي إلى الأم التي تعد تعبيرا عن الأرض الفلسطينية، والتي تنوح على شهدائها، ومنهم فهمي الأخ، وتغني الأم في صورة نواح وعديد قائلة على الله تعود بهجتنا والأفراح ياما.. إيه ياامه يا فهمي إيه رحت وتركتني ياما يا شيخ الشباب تمد إيدك تاخدني أمك ما عادت أمك جاتلها موتك وهَمك. يمارس الراوي ألعابه الميتاتيترية حيث التمثيل داخل التمثيل فهو المحاكي للأم ولجميع الشخصيات التي يذكرها، ومن ثم يعود متحدثا بلسانه قائلا عن الأخ “فهمي” عاد ليموت بيننا سرعان ما مات فهمي.
ويعود في نوع من النوستاليجا إلى طفولته، وكيف أنه كان طالبا أردنيا يقرأ عن فلسطين على أنها شعب شقيق، ويعود إلى البيت ليجد أمه بالثوب الفلسطيني المطرز والأب لديه جرح في كتفه منذ سنة 1948، وجدته تحكي عن الخال الذي استشهد في 1936، يسأل الراوي هل نحمل الأوطان بداخلنا ونمضي، أم تحملنا هي على أرضها؟ إنه الحلم الدائم بالعودة إلى الأرض، ليست العودة المؤكدة حيث ينتهي كل شيء، إنها العودة التي تشعر معها بأن شيئا جديدا قد يبدأ.  
يطرح المخرج المؤلف فكرة المقاومة وحلم العودة إلى أرض الوطن فلسطين في مسرحية أخرى من إعداده وإخراجه، وهي “عائد إلى حيفا” عن رواية غسان كنفاني، ويقدم فيها قضية تاريخية إنسانية عاش تفاصيلها كفلسطيني، يطرح سؤال الهوية، وسؤال مستقبل الوطن في تجربة فريدة من نوعها، تمزج بين الخاص والعام، بين السياسي الإنساني، بين رؤيته التي تتحرك بتحول البنيات الدرامية التي تنظم المشاهد، وبين تجمع كل الأفكار السياسية والنفسية، والتاريخية التي صاغت أفكاره أثناء تقمص الأدوار، التي شكلت عالم الدراما المستمد من القضية الفلسطينية، ومن شخوصها المنتشرين في الوطن العربي والعالم.  
يحاول المخرج التعبير عن رؤية العالم العربي ككل، بصراعاته اللامنتهية محاولا بشكل دائم إحياء الذاكرة، والوقوف أمام شبح النسيان ومحاولات محو الذاكرة المستمرة من قبل المحتل، لطمس معالم المكان في نفوس الفلسطينيين والعرب بل والعالم فالمطلوب نسيان “القدس، يافا، حيفا، نابلس، أريحا” وتحت ضغط العدوان تمت الإزاحة لسكان هذه المدن، تلك هي ألعاب مجتمع “ما بعد الاستعمار”، “ما بعد الكولونيالية” وهو لا يعني أن البلاد المستعمرة سابقا قد تخلصت من آثار المستعمر، سواء كانت هذه الآثار ثقافية أو لغوية أو اقتصادية، أو عسكرية أو صناعية أو كل ذلك مجتمعا، فمعظم الأمم لا تزال خاضعة ثقافيا واقتصاديا للدول الكبرى عبر أشكال متنوعة من الاستعمار الجديد.
خطاب “ما بعد الاستعمار” نشأ في الغرب وهو خطاب نقدي قاده كتاب غير غربيين، “إدوارد سعيد، هومي بابا، جيتري سبيفاك” وفي هذا الخطاب إعادة قراءة لفترة الاستعمار بعيون المستضعفين الذين تم احتلالهم، هذا الخطاب يؤسس لقراءة التاريخ من جديد.  
الأعمال التي تقدم القضية الفلسطينية أعمال جديرة بالاهتمام، فبقدر ما بها من تجربة شخصية عاشها مبدعوها، فهي أيضا تجربة عامة بالنسبة لكل فلسطيني، ومن المهم أن تتوارث الأجيال معرفة تلك التجارب حتى لا يبتلعها شبح النسيان.
 

 


داليا همام