شامان وتحدي سعيد سليمان

شامان وتحدي سعيد سليمان

العدد 523 صدر بتاريخ 4سبتمبر2017

أول مايثير تساؤل الجمهور الذي شاهد وسوف يشاهد العرض المسرحي “شامان” الذي يعرض على  مسرح الغد بالعجوزة هو: من هو “شامان”؟ وللإجابة على هذا السؤال نعود إلى ما استعرضه “ميشال بيران” مؤلف كتاب “الشامانية فلسفة حياة”، حيث وُجِدَ أن جذور هذه الكلمة تعود إلى كلمة “صامان” حيث “صا” تعني المعرفة بلغة “التونغوس” وهي جماعة لغوية منغولية تنتشر في سيبريا الشرقية وحتى حدود الصين، أي أن كلمة “صامان” تعني (العراف) الذي يعرف.. أما في قاموس ليتري فيُرجع أصل كلمة “شامان” إلى الكلمة السنسكريتية “صرمناص” التي تعني المتعبد الصوفي.. وتوضح القواميس التاريخية أن الكلمة بنطقها الذي جاء كعنوان للمسرحية “شامان” ظهرت للمرة الأولى باللغة الفرنسية، وكانت الملاحظات الأولى عن هذه الكلمة والتي دُوِّنَت في القرن السابع عشر من رجال دين ونبلاء روس تباينت بين: أنهم جماعة من المشعوذين، أو مجموعة يتسم سلوكهم بالغرابة المَرَضية نتيجة خصائص عرقية وشروط مناخية صعبة.
شامان بين النص والإخراج ؟
أطلق مخرج عرض “شامان” سعيد سليمان على هذا العرض (مسرح العلاج النفسي) الذي يقوم على المعالجة الشخصية والذاتية للفرد بنفسه ولنفسه من الأمراض النفسية والروحية التي تتراكم بداخله مع مرور الزمن من خلال الممارسات الروحية والصوفية.. وبناء على ذلك قام سعيد سليمان المخرج بكتابة خواطر  تخدم فكرته كمخرج لتحقيق هدفه المنشود من العرض، وكان هذا بعيدا عن مفهوم النص المسرحي بعانصره المتعارف عليها فعلى سبيل المثال: أولا/ لم أجد حوارًا وعلاقات بين شخصيات العرض بالرغم من وجود جميع الممثلين والممثلات تقريبا في المساحة المخصصة للعرض طوال مدة العرض، إلا أن كل شخصية كانت تتحدث مع ذاتها لتعبر عن مشاهرها السلبية دون الدخول في حوار مع شخصيات أخرى،  فالشخصيات تؤدي جملا قصيرة مقتضبة وفي أفضل الظروف مونولوجات قصيرة جدا على لسان كل شخصية دون أي عمق درامي للشخصية لمعرفة طبيعتها والظروف المحيطة بها، إلى أن وصلت هذه الشخصيات للتوحد مع بعضهم البعض في نهاية العرض لتقديم بعض الأغنيات الجماعية للتعبير عن حالات انفعالية منفردة تتوحد في الأداء فقط بمصاحبة عزف جميع الآلات الموسيقية والطبول في دلالة على التطهر الروحي والخلاص من الأمراض النفسية التي استعرضتها شخصيات العرض في بدايته.. ثانيا/ لم يظهر تباين في لغة الشخصيات فجميعهم بلغة ولهجة واحدة يعبرون عن تنويعات لمشاعر إنسانية واحدة.. ثالثا/ انتفت فكرة الصراع الدرامي بين البطل والشخصيات الأخرى لأن العرض لم يكن فيه بطل من الأساس، ولأن جميع شخصيات العرض كان الصراع بينها وبين ذاتها الدفينة أي صراع الفرد مع ذاته فقط لتحقيق الفكرة الصوفية التي يسعى إليها العرض والتي تنتهي بالتطهر من خلال التماهي في الله طبقا لفلسفة الصوفة.
أما سعيد سليمان المخرج فقد وقع على عاتقه العبء الأكبر لتحقيق فكرة وأهداف العرض مع غياب النص المسرحي للعرض، خاصة وأن جمل ومونولوجات شخصيات العرض القصيرة المقتضبة المباشرة في معناها لا يمكنها أن تقدم عرضا مسرحيا، ومن هنا جاء تحدي سعيد سليمان المخرج لنفسه كمؤلف لنص فكرته، فقد اعتمد على مجموعة من الممثلين والممثلات غير المعروفين ولكنه حرص على اختيارهم بعناية لتنفيذ رؤيته الإخراجية، أغلبهم من خريجي المعاهد والكليات الموسيقية قاموا بالغناء الجماعي إلى جانب بعض المقاطع التي انفرد بها بعضهم، كذلك قاموا بالعزف إما على آلات نفخ ووترية أو إيقاعية و بالأداء الحركي الذي وصل في بعض المشاهد إلى حدِّ الأكروبات وتحديدا في مشهد تسلق الحبال وصعود السلالم أثناء العزف على الآلات الموسيقية،  وقام آخرون بتنويع على حركات رقص الصوفة.
جاءت رؤية المخرج لسينوجرافيا العرض واعية تماما لتعبر مفرداتها وعلاقاتها مع بعضها البعض عن التصاعد التدريجي الذي يمر به المُريد الصوفي والتي قسمها سليمان في العرض إلى ثلاث مراحل هي: مرحلة المعرفة المادية التي يبدأ بها العرض حيث الممثلون والممثلات يرتدون الملابس السوداء ويفصحون عن مشاعرهم السلبية تجاه المجتمع والذات بأداء تمثيلي تبدو  عليه الاضطرابات النفسية.
مرحلة الوسط وهي التي تمت فيها طقوس استعداء روح شامان ومحاولة التخلص من المشاعر السلبية، وكانت ملابس هذا الجزء من المسرحية تتسم بالبدائية حيث صممت على شكل فراء الحيوانات، ومحاولة إبراز الازدواجيات والتشظي في الشخصيات من خلال وضع الممثلين والممثلات الأقنعة متعددة الأوجه، وقد ظهر في هذا الجزء الصعود التدريجي بالروح إلى أعلى من خلال صعود الممثلين والممثلات على درجات السلالم المتحركة الموجودة في المساحة المخصصة للعرض والتي وظفت بأشكال مختلفة داخل العرض بما يتناسب مع المشاهد بشكل رائع، وتسلق الحبال ذات العقد الخمس المتدلية من السوفيتا أثناء الغناء والعزف على الآلات الموسيقية.
 وأخيرا مرحلة اليقين وهي التي يرتدي فيها الممثلون والممثلات الملابس البيضاء وهو اللون الأساسي في ملابس راقصي الصوفة، ويلتفون حول البقعة البيضاء في منتصف المساحة المخصصة للتمثيل وينشدون بأداء جماعي شعر أبو القاسم الشابي بكلمات قصيدة (سأعيش رغم الداء والأعداء) مستخدمين جميع الآلات الموسيقية التي ظهرت في العرض بأداء قوي يدل على الثقة في النفس والتخلص من المشاعر السلبية.
شارك رؤية المخرج سعيد سليمان في السينوجرافيا مصمم الديكور صبحي عبد الجواد الذي صمم ونفذ ديكور العرض بشكل متميز تناسب مع روح العرض، حيث أحاط الجمهور بالعيون الكبيرة وبعض أجزاء من الجسد البشري محاطة بكتابات طلسمية، ورسومات أخرى على أرضية المساحة المخصصة للتمثيل مستوحاة من موتيفات الكتابة الهيروغليفية وغيرها، وجميعها يوحي بالغموض وأجواء السحر والشعوذة.. شاركت في سينوجرافيا العرض نهاد السيد التي كانت مفاجأة هذا العرض بتصميماتها للملابس والأقنعة، فهي واحدة من خريجات قسم التربية الفنية بإحدى كليات التربية النوعية وقد صممت أقنعة شخصيات العرض بشكل رائع ومتقن الصنعة للغاية، كما أن اختيارها لألوان الملابس وتصاميمها كانت موفقة جدا حيث تدرجت كالتالي: الملابس المعاصرة في مشهد المادية الوجودية، الملابس البدائية في مشهد استدعاء روح شامان، وتنويعات على الملابس الصوفية في مشهد التطهر الروحي.. وأرجو من البيت الفني للمسرح ومسارح الدولة أن تلتفت لموهبة نهاد السيد ويتم توظيفها في العروض المسرحية القادمة لتشجيع الموهوبين من الشباب في مجال صناعة المسرح.
الموسيقى عنصر رئيسي:
موسيقى عرض (شامان) كانت عنصرا رئيسيا فيه وقد وضعها الدكتور الفنان هاني عبد الناصر الذي سبق وتعاون مع المخرج سعيد سليمان في عرضه السابق “الإنسان الطيب”، وشاهدناه كممثل ومطرب في مسلسل “كفر دلهاب”.. ومن المؤكد أن المهمة كانت صعبة على هاني لعدة أسباب، أولها: أن الألحان وضعت لنصوص نثرية أي خالية من الوزن والقافية ولذلك جاءت الألحان مسترسلة ليس لها بناء لحني محدد كما هو متبع في الصيغ الموسيقية العربية أو الشعبية أو العالمية، باستثناء الأغنية الأخيرة التي لحنها عبد الناصر لشعر أبو القاسم الشابي والتي كانت أقوى لحن في العرض.. ثانيا: أن العرض يمر بثلاثة مستويات نفسية وكان على الملحن إبراز التباين بين هذه المستويات الدرامية والنفسية بالموسيقى والغناء وقد نجح عبد الناصر إلى حدٍّ كبير في هذا الجزء، فعلى سبيل المثال نسمع الآلات الموسيقية وأصوات الممثلين والممثلاث تؤدي جملاً أو عبارات موسيقية مقتضبة وغير متوافقة مع بعضها البعض في المشهد الأول من المسرحية للتعبير عن الاضرابات النفسية لشخصيات العرض.. ثالثاً: أن أصوات الممثلين والممثلاث لم يكن جميعها مؤهلا لأداء الغناء وبالرغم من ذلك تم تدريبهم بشكل جيد بحيث استطاعوا إيصال الرسالة، بل إننا سمعنا في بعض الأجزاء الغنائية تعدد تصويت بسيط (أي غناء الممثلين والممثلات في خطين لحنيين مختلفين عن بعضهما البعض في آن واحد).. رابعا: أن عزف جميع الممثلين والممثلاث على الآلات الموسيقية المختلفة بين ما هو شعبي كالناي، والعربي كالعود، والغربي كالفلوت والساكس فون والتشيللو والفيولين، إلى جانب الطبول والدفوف بشكل يتناسب مع مستويات العرض النفسية، دل أيضاً على الجهد المبذول في تدريب المتخصصين في الموسيقى منهم لإحداث هارموني بين أدائهم الذي كان جزء منه حوار بالآلات الموسيقية..
أما عن الممثلين والممثلات العشرين الذين شاركوا في عرض “شامان” وهم:إسلام، كاسبر، وسام، رامي، منصور، سيلفيا، شمس،ماري، عمر، مستورة، محمود، حسام، نيهال، مصطفى، ميما، عبد الفتاح، نورا، زياد، ميرا، معاذ، فقد لفت انتباهي هذه الهارمونية التي كانت بينهم واجتهادهم في التدريب الواضح في التمثيل والغناء والعزف والرقص لبعضهم..
بعد مشاهدتي لعرض “شامان” الذي يعتبر تحديا كبيرا لمخرجه سعيد سليمان لأنه من نوعية العروض التي تُحسب للمخرج فقط لكونه عرض لا يوجد فيه أبطال من نجوم المسرح أو التليفزيون، عرض يعتمد على أداء المجموعة وليس الأفراد، عرض نصه أشبه بالخواطر في صيغة جمل ومونولوجات قصيرة وليس نصا مسرحيا بالمعايير المتعارف عليها، وقد نجح سعيد سليمان في إيصال رسالة العرض بشكل متميز ومبتكر خارج التجارب الإخراجية التقليدية.. هنا أجد أننا أمام سؤال هام يطرح نفسه وهو: كيف ذهبت جائزة أفضل مخرج في الدورة العاشرة من مهرجان المسرح القومي لمخرج شاب قدم رؤية إخراجية شديدة الكلاسيكية والتقليدية في وجود المخرج سعيد سليمان برؤيته الإخراجية المبتكرة في عرض “شامان” ؟!


ياسمين فراج