بدايات المسرح في أسيوط (4)

 بدايات المسرح في أسيوط (4)

العدد 597 صدر بتاريخ 4فبراير2019

في المقالات الثلاث السابقة؛ تحدثنا عن أهم العروض المسرحية، التي عُرضت داخل مدارس الأقباط في أسيوط، وعن العروض المسرحية في بعض مراكز أسيوط مثل مركز أبي تيج، وتتبعنا عروض الفرق المسرحية الكبرى التي زارت أسيوط، مع الإشارة إلى أماكن عروضها داخل أسيوط، حتى وصل بنا الحديث إلى الفرق المسرحية الهاوية، التي تكونت من أهالي أسيوط مثل جوق الكمال، وكذلك الوقوف عند عروض جمعية الشبان المسلمين المسرحية، حتى اختتمنا حديثنا السابق بعرض لمسرح الطفل. ولم يبقَ لنا سوى البحث عن أقدم نقاد مسرحيين في أسيوط، لنختتم بهم هذه السلسلة من المقالات التي تتحدث عن بدايات المسرح في أسيوط.

المنقبادي الناقد المجهول
كفى بأسيوط في مجال النقد المسرحي، أنها أنجبت أول ناقد مسرحي – معتمد ومعترف به - في تاريخ مصر، وهو المرحوم الناقد (محمد عبد المجيد حلمي)، الذي بدأ يوقع باسمه على مقالاته النقدية المسرحية المنشورة - في صحيفة المنبر ومجلة القصص وجريدة السياسة - منذ عام 1919، حتى أصبح ناقدا مسرحيا صاحب صفحة (المسرح العربي) في جريدة (كوكب الشرق) منذ عام 1924. أما أعظم إنجاز له، فهو قيامه عام 1925 بإصدار أول مجلة متخصصة تحمل اسم (المسرح) في تاريخ المسرح المصري والعربي، التي ظلت تصدر حتى وفاته يوم 27/ 8/ 1927!! وكم كنت أتمنى أن أتحدث عن هذا الناقد بصورة موسعة، لولا قيام صلاح حسني عبد العزيز عام 1966، بإصدار كتاب عنه، تحت عنوان (محمد عبد المجيد حلمي كناقد مسرحي)، مما يعني أنني سأتحدث عن شخص معروف، ومكتوب عنه من قبل، وهذا ضد أسلوبي في الكتابة؛ لذلك سأحدثكم عن ناقد آخر من أسيوط – وتحديدا من منقباد - لم يكتب عنه أحد حتى الآن، على حد علمي!!
سيلاحظ القارئ أن جريدة (مصر) – التي تصدر في القاهرة - ذكرناها كثيرا فيما سبق، فما السر وراء اهتمام هذه الجريدة القاهرية بأسيوط؟!! السر يكمن في أن صاحبها من منقباد، واسمه الشهير والمعروف به، هو (تادرس شنودة المنقبادي)، وقد أصدر الجريدة في القاهرة عام 1895. وكان للجريدة مراسل في أسيوط، يرسل إليها الأخبار المتنوعة، ومنها النشاط المسرحي. ولم تكتف الجريدة بأخبار المسرح في أسيوط، بل خصصت ناقدا مسرحيا من منقباد، ليقيم في القاهرة، ويكتب عن الحركة المسرحية، وينشر كتاباته النقدية في جريدة مصر، وهذا هو ناقدنا المجهول، الذي سنتحدث عنه!! ومن حسن الحظ أن هذا الناقد، هو ابن صاحب الجريدة، والذي كان يوقع على مقالاته باسمه الصريح (قيصر تادرس المنقبادي)!! وأول مقالة مسرحية، وجدناها منشورة له في جريدة مصر، كانت في مايو 1925، تحت عنوان (مسارح التمثيل.. كلمة تمهيدية)؛ ولأنها المقالة الأولى للناقد، وتُعد بداية لفكره النقدي المسرحي، يجب علينا أن ننشرها كاملة؛ بوصفها وثيقة تاريخية لناقد مسرحي من أسيوط لا يعرفه أحد!! وفيها يقول:
“قال المرحوم قاسم بك أمين (لعل من أكبر أسباب تقهقر الأمة المصرية، تأخرها في الفنون الجميلة كالتمثيل والموسيقى). وإذا اعتبرنا علم النفس الموسيقي لغة الفؤاد، وذات تأثير نفساني قوي عند الحيوان قبل الإنسان، وعند المعتوهين قبل العقلاء، حتى أن مستشفيات المجاذيب أخذت في استخدام الفنون الموسيقية، ليشنف المصابون في عقولهم بأنغامها الشجية، فتثيبهم إلى رشدهم، وترجعهم إلى هداهم. إذا كان هذا قدر الموسيقى وتأثيرها؛ فإن للتمثيل قدرا فوق هذا القدر. فالتمثيل أكبر عبرة وأصدق عظة، ويقول الأخلاقيون إن الخطباء فوق أعواد منابرهم، والوعاظ في كنائسهم أو مساجدهم، لا يستطيعون أن يصلوا إلى قلب الجمهور بالسهولة التي يستطيع بها الممثل القدير وهو فوق خشبة المسرح يهرج. ولهذا لم يخطئ الذين قالوا إن دور التمثيل مدارس الشعب. ولو أن للتمثيل قدرا غير هذا القدر، ولو دونه بقليل، لما عني بأمره والتأليف والتصنيف له، أمثال: دوماس الصغير والكبير، وهوجو، وشكسبير، وموليير، وغيرهم. قد يقول قائل إن هؤلاء اهتموا بوضع الروايات التمثيلية، بحكم الطبيعة التي خلقوا على سننها، طبيعة الاشتغال بالعلم والأدب، وهي التي قضت عليهم بوضع روايات قصصية أيضا. ولكنا نرد على هؤلاء القائلين بما حدثتنا به الصحف الإيطالية أخيرا عن السنيور موسوليني زعيم حزب الفاشست أولا، وصاحب جريدة (بويولوديتاليا) ثانيا، ورئيس الوزارة الإيطالية ثالثا، وديكتاتور روما كما يلقبه الكثيرون أخيرا. وضع رواية تمثيلية في أميركا، ليكون الحكم الذي يصدره المشاهدون حقيقيا بعيدا عن المحاباة، سواء أكان لها أو عليها. كل هذا دليل قاطع قائم على ما للتمثيل من مكانة سامية، ينزل عندها الجميع بلا استثناء، محترمين وطائعين. وكم حدثتنا الصحف الغربية أن أميرات قمن بتمثيل أدوار في روايات لعمل خيري، اشتركن في التمثيل، وهن مختالات فخورات، إذ علو الكعب في التمثيل مفخرة وأي مفخرة. ولقد كانت سارة برنار، تجالس الملوك وتحادث الإمبراطورة والقياصرة، كما كان (سلفان) صديق لسادة القوم في كل مكان؛ ولكن مكانة التمثيل في مصر غير هذه المكانة، فهو هنا في أدنى المراتب وأحطها، وهذا علة من علل التقهقر والتأخر، الذي تعانيه مصر وتكابده. ويرجع انحطاط التمثيل في مصر إلى أسباب كثيرة بعضها قائم من جانب القائمين بأمر التمثيل، والبعض الآخر قائم من جانب الجمهور. وسأعالج البحث في هذا أو ذاك في رسائلي القادمة فإلى الملتقى”.
وبالفعل قام قيصر المنقبادي باستكمال هذا الموضوع في مقالتين تاليتين - تم نشرهما في جريدة مصر في شهر مايو 1925 أيضا – بدأ المقالة الأولى ببعض الأخبار المسرحية، والتعليق عليها سريعا، مثل: وجود اتفاق بين عمر بك سري، وبين جورج أبيض على تكوين فرقة مسرحية خاصة بهما؛ وتدخل الناقد برأيه، كاشفا عن واقعة تاريخية - حدثت من قبل - جمعت بين الاثنين وثالث لهما هو عبد الرحمن رشدي، وأن الثلاثة كوّنوا فرقة مسرحية، فشلت في عروضها، وتم حلّها!! ثم تناول الناقد خبرا آخر، عن فشل منيرة المهدية في عرض آخر مسرحيتين لها، لأن مؤلفهما هو بديع خيري؛ الذي يكتب لأكثر من فرقة. وهذا الأمر جعلها تتفق مع بديع على عدم قيامه بالكتابة المسرحية لأية فرقة أخرى غير فرقتها. وبعد هذه الأخبار، وجدنا قيصر يعود إلى موضوعه الأساسي، فيقول:
“... ولنعد إلى موضوعنا الأصلي، فنقول: إننا ذكرنا في كلمتنا الأولى، أن ضعف التمثيل وانحطاطه، يعودان إلى القائمين بأمره من ناحية، وعلى الجمهور من ناحية أخرى. وحديثنا اليوم عن واجب الجمهور. يعرف الجمهور الغربي ما له وما عليه، ويأبى إلا أن يحافظ على حقوقه، ولا يفرط في أدنى شيء منها، وهو جريء في هذا السبيل، جريء جرأة ينتصر له فيها القانون. ولهذا لا يستطيع أحد أن يعرض أمرا زائفا أو مموها، ولا يقدر أحد على أن يخدعه أو يغرر به. وهم إذا كانوا يقاطعون التاجر المزور ويقاضونه؛ فإنهم يسكتون الخطيب الغبي، أو الذي يلقي القول بلا تمعن وبغير حساب، ويحقرون من شأن المؤلف الذي يؤلف ما لا يجدي، ولا ينفع. ولعل القراء يذكرون ما أصاب الكاتب الذائع الصيت (فيكتور) من جراء تأليفه قصة (الفتاة المترجلة). فلقد نقم عليه الشعب الفرنسوي، وقررت الحكومة الفرنسوية طرده من المجمع العلمي (الأكاديمية)، وحرمانه من رتبه ونياشينه، ولم تغتفر له شهرته التي ملأت الخافقين. والويل للممثل الذي لا يحسن تمثيل دوره. إن النظارة (المتفرجين) ينادون بسقوطه. والويل للجوقة التي تمثل رواية لا شيء فيها يذكر. إنهم يرغمون رجالها على تمثيل غيرها في ليلتها، إن كان هناك متسع من الوقت. وكثيرا ما تروج سوق البطاطس في إنجلترا عند ظهور رواية كلها عيوب وفضائح! فليقتفي الشعب المصري أثر الشعوب الناهضة. فحرام أن يتسرب ماله إلى جيوب آخرين، لا يستحقون فلسا واحدا منه؛ لأنهم بلهاء، بل أغبياء، بل جهلاء، ثم أدعياء، وإلى الملتقى”.
ونأتي إلى المقالة الأخيرة، وفيها – كما حدث سابقا – بدأها الناقد بأخبار مسرحية، والتعليق عليها، مثل: وصول فرقة نجيب الريحاني من البرازيل، ومحاولته التعاقد مع صاحبة كازينو دي باري لتحويله إلى مسرح يعمل عليه في القاهرة. ثم تحدث الناقد عن خبر آخر، يتعلق بمسابقة في الكتابة المسرحية، تقيمها الحكومة بين المؤلفين والمترجمين والمعربين والمقتبسين. ثم أورد خبرا ثالثا عن قرب تعاقد فرقة أولاد عكاشة مع المطربة فاطمة سري. وبعد أن أورد الناقد هذه الأخبار، بدأ يتحدث عن موضوعه الرئيسي، الذي بدأه في المقالة السابقة، بأن «ضعف التمثيل وانحطاطه، يعودان إلى القائمين بأمره من ناحية، وعلى الجمهور من ناحية أخرى»!! وبما إنه تحدث في المقالة السابقة عن الجمهور، فكان لزام عليه أن يتحدث في مقالته الأخرى عن القائمين بأمر التمثيل، ويقصد بهم أصحاب الفرق المسرحية، وعن هذا الأمر قال:
“... إن في مصر خمس جوقات: إحداها تعنى العناية كلها بالروايات الكوميدية والفودفيلية، وأما الباقيات فتعرض على الجمهور روايات مختلفة من درام وتراجيدي وكوميدي إلخ.. وهذه الروايات أما أن تكون مقتبسة، أو معربة، أو مؤلفة. والاقتباس متغلب على التأليف والتعريب عند الجوقة الأولى، التي لا ينافسها في شأنها أحد الآن، ولهذا هي تعيش ولا تنتحر. أما الجوقات الأربع الأخرى فينافس بعضها بعضا، منافسة عنيفة، يقاومها البعض، ويرتد أمامها البعض الآخر خاسرا، وأن هذا البعض ينتحر الآن. تسوء حالة جوقة الأستاذ جورج أبيض، وتنتحر جوقة المدعوة منيرة المهدية. وإذا كنا نأسف أشد الأسف على ما يصيب الأستاذ أبيض في فرقته في كل سنة. فما ذلك إلا لأن الأمة معجبة بفنه، مقدرة لمقدرته، وهو ممثل قدير، لا يبارى. فإن الجمهور لا يعطف على الثانية إذا اختفت من عالم التمثيل ولا يأسف؛ لأن الذين يميلون إلى الطرب، مهما يكن نوعه – نشازا أو حنونا – يمكنهم أن يسمعوا (منيرة)، لا على خشبة المسرح الأدبي، بل على الخشبة الأخرى في قهوة البسفور، وفي روض الفرج، وفي تلك البؤرة الخليعة المعروفة في شارع عماد الدين باسم (بيجو بالاس). وليس هذا بغريب، فقد شبت منيرة وشابت في مسارح اللهو الخليع، ولن ننسى سلسلة حياتها الطويلة في (الألدرادو)، و(نزهة النفوس)، و(ليلاس)، التي كانت قائمة في شارع معروف بمخازيه. أما ما يصيب فرقة الأستاذ أبيض، فهو إساءة للفن والنبوغ. وأما انتحار الثانية ففيه فوز للفن وتشريف للمهنة؛ ولكن ما يكسبه التمثيل من سقوط الفرقة الثانية، لا يعوض عليه الخسارة التي تصيبه بفشل الأولى، التي ندعوا لها بالثبات والنجاح”.
لم أجد مقالات مسرحية أخرى لقيصر المنقبادي بعد هذه المقالة، ولا أعلم سبب توقفه!! فهل هجومه على منيرة المهدية - وهي في أوج شهرتها وقوتها وعلاقتها بسعد باشا زغلول وحزب الوفد، التي كانت جريدة (مصر) إحدى الجرائد المحسوبة عليه – كان السبب في توقفه عن الكتابة في مجال المسرح، حتى يتوقف هجومه على منيرة المهدية.. ربما!!
خاتمة
في يوم السبت الموافق الثامن من ديسمبر 2018، ألقيت محاضرة في نادي أدب ثقافة أسيوط، بحضور الدكتورة فوزية أبو النجا والأستاذ درويش الأسيوطي، والأستاذ نعيم الأسيوطي، وكان عنوان المحاضرة، هو نفسه عنوان مقالاتي الأربع هذه “بدايات المسرح في أسيوط”؛ حيث تحدثت في المحاضرة عن عناوين رئيسية – وردت في المقالات - مع بعض الأمثلة، دون أن أتحدث عن التفاصيل والتواريخ والأسماء.. إلخ. وقد أحدثت المحاضرة دويا هائلا هناك، وتعجب جميع الحاضرين مما سمعوه في المحاضرة - حيث إن ما سمعوه - يُعدّ مجهولا لهم تماما!! هذا الأمر شجعني على صياغة المحاضرة في هذه المقالات الأربع، حتى تكون مصدرا لبدايات المسرح في أسيوط، كي يستفيد منها الباحثون والكُتّاب مستقبلا، وهذا هدف طبيعي من أهداف كتاباتي بصفة عامة.
أما الهدف الرئيسي، الذي أتمنى أن أحققه – من نشر هذه المقالات - هو قيام شباب أسيوط وباحثوها باستكمال هذا الموضوع، والبحث فيما أوردته من موضوعات ومعلومات. فعلى سبيل المثال، أتمنى أن يقوم شباب أقباط مركز أبي تيج بالبحث في مكتبات المدارس القبطية، التي وردت أسمائها في المقالات – في حالة وجودها – لعلهم يجدون النصوص المسرحية التي عُرضت؛ بوصفها كنزا ثمينا لا يقدر بثمن، وذخيرة مسرحية وأدبية مهمة لمركز أبي تيج ولمحافظة أسيوط بأكملها!! ناهيك ببحث هؤلاء الشباب عن الملفات والوثائق المتعلقة بالأنشطة الطلابية المسرحية القديمة، لأنني على ثقة بوجودها في حالة وجود هذه المدارس. وكذلك الأمر في الكنائس القديمة، التي كانت تعرض مسرحيات دينية ووعظية في جميع مراكز أسيوط وقراها. هذا بالإضافة إلى البحث والتأريخ والتوثيق للنشاط المسرحي لجمعية الشبان المسيحيين والجمعيات القبطية.. إلخ.
والأمر نفسه يقوم به شباب جمعية الشبان المسلمين، من خلال البحث في أرشيفها ووثائقها عن كل ما يتعلق بالأنشطة المسرحية وعروضها، ومحاولة تأريخ هذا النشاط من خلال أعضائها من كبار السن أطال الله في أعمارهم. كما أتمنى أن يهتم بعض الباحثين في أسيوط بتأريخ الأماكن المذكورة في المقالات، مثل: مولد سيدي الفرغلي والأنشطة المسرحية المصاحبة له، وكذلك مولد سيدي جلال وما يرتبط به مسرحيا، وصالة الحديقة الخديوية والمقهى الخديوية، وسينما أسيوط القديمة.. إلخ. وختاما أقول: من خلال محاضرتي في نادي ثقافة أسيوط، ومن خلال هذه المقالات الأربع، أكون قد وضعت البذرة الأولى لبدايات المسرح في أسيوط؛ فهل سيأتي اليوم وأقرأ كتابا بعنوان (تاريخ المسرح في أسيوط) مكتوبا بأيدي شباب من أسيوط؟!


سيد علي إسماعيل