«تقاسيم على الحياة» .. حياة أسرار البروفة مع جواد الأسدي

«تقاسيم على الحياة» .. حياة أسرار البروفة مع جواد الأسدي

العدد 597 صدر بتاريخ 4فبراير2019

أن تقبل في معهد الفنون الجميلة طالبا في قسم المسرح ويتولى تربيتك معلم اسمه (بهنام ميخاييل)، هذا يعني أنك ستتبع تعاليم صارمة من راهب يغرس فيك بذرة العشق الأولى للمسرح ويعلمك أسرار السدنة الذين يهبون أرواحهم للمسرح، وهم بذلك يخضعون لقوانين أخلاقية تضعهم في الطريق الصحيح لبداية التفنن في بذل الروح للوصول إلى الهدف المنشود، وهو: كيف لك أن تصبح ممثلا محترفا يشار لك بالبنان كلما ارتقيت خشبة المسرح، ويمكن للحظ أو الصدفة أن يلعبا دورا مهما في سنين الدراسة الأولى حين يكون المربي بعد بهنام ميخاييل أحد أعمدة المسرح العراقي وأعني تماما المخرج الكبير قاسم محمد وهو يسلب عقلك وروحك ويضعها في الطريق الصحيح للبروفة مستنهضا طاقاتك كلها مجيدا بذلك إدارة موهبتك لتقف على الخشبة مسترخيا وبحضور لافت.
بعد سنوات طويلة من العمل المحترف على خشبات متعددة في المسارح العربية والعالمية، يقرر جواد الأسدي أن يقدم عرضه المسرحي في بغداد وأن تكون البروفة في (منتدى المسرح) مؤمنا إيمانا تاما بالممثل العراقي حاملا معه كتابة جديدة لقصة (أنطوان تشيخوف) العنبر رقم 6.

اختيار الممثل وحلول المخرج
على المخرج المحترف أن يجتاز المهمات الصعبة وأولها هي اختيار الممثلين، وبما أن منتدى المسرح هو خيار جواد فلا بد للشباب من الممثلين النصيب الأكبر من الشخصيات التي ينطوي عليها النص، فاختار جواد الشاب الموهوب (حيدر جمعة) لشخصية (إيفان) ويحيى إبراهيم لشخصية (آندريه) وسهى سالم لشخصية (ميخايلوفا) والشابة رضاب لشخصية (داريوشكا)، اعتذرت سهى سالم بسبب حجم الدور الذي اعتبرته صغيرا - هكذا قال لي شباب المنتدى - فاتصل بي جواد وعرض علي العمل فوافقت فورا على دور ميخالوفا الذي اقترح جواد أن يقلبه رجلا ليكون اسمه (ميخايلف)، وما أن بدأت القراءة في البروفة الأولى أوقف جواد البروفة فغير يحيى إلى شخصية أخرى وأسند لي دور (آندريه) وميخايلف إلى الممثل (فلاح إبراهيم)، انسحب يحيى لأسبابه المحترمة وبعد يومين انسحب فلاح إبراهيم لسوء حالته الصحية، ولم تكن الشابة رضاب التي اختارها الشباب لجواد مناسبة لدور (داريوشكا) فخرجت أيضا، التحق بنا الممثل إياد الطائي فأسند له جواد عدة أدوار من (مجانين العنبر) إضافة إلى شخصية خوبوتف.
وتغير دور (داريوشكا) إلى (إيغوركا) الذي جسده الشاب (أمير إحسان) وكان خوبتوف من نصيب الممثل (جاسم محمد) فاستمرت البروفة لأكثر من أسبوعين على هذا الخيار.
الإطاحة بالنص
كتب تشيخوف نصوصه لممثلين يعرفهم جيدا عبر مشاهداته لعروض ستانسلافسكي، وأعني يعرف مستوياتهم الإبداعية، ناهيك بأشكالهم، فماذا حصل مع جواد الأسدي بعد هذه الصدمات في اختياره للممثلين؟ جواد الأسدي مجنون من طراز خاص بالبروفة لا يمل ولا يكل، فهو يتمرن مع ممثليه من الصباح حتى المساء، تبدأ البروفة جماعية وتنتهي مع ممثل واحد، ومن هنا يتعرف جواد على ممثليه ويكتشف مدى قدراتهم وهو يدخل إلى أعماقهم، فبعد انسحاب الممثل فلاح إبراهيم أسند جواد شخصية (ميخاييلوف) إلى إياد الطائي بعد أن وجد في إياد الحرص والالتزام الكامل والانتماء الحقيقي للبروفة، كتب له مشاهد إضافية عززت من شخصية (ميخاييلوف) وارتقت بالمتن النصي، وبما أن جواد من رواد مسرح بغداد فكتب عن تاريخ هذا المسرح العريق الذي يعتبر من أهم المسارح العراقية الذي للأسف الشديد تتكوم الأزبال عند أبوابه، ومما أثارنا أن جواد بدأ يستذكر مع شخصية (ميخاييلوف) أمجاد شارع الرشيد الذي قتله الإهمال وتحول من شارع يضج بالمقاهي الثقافية والمكتبات العريقة ودور السينما التي ارتقت بذائقتنا في سبعينات القرن الماضي، فتحول النص عراقيا بعد أن كتب الكثير من المشاهد الجديدة لـ(إياد الطائي) ومن ثم للشاب المجنون بحب المسرح (أمير إحسان) الذي لعب دور (إيغوركا).

الإطاحة بالأداء
لا يستقر مخرج باحث مثل جواد الأسدي على نمط واحد من الأداء، فهو يبني و”يفلش” وبما أن جواد يعرف قدراتي الأدائية فقد تركني في الأيام الأولى أتلمس الدور الذي نما تدريجيا، فبعد أسبوعين بدأت أنحت في الشخصية فقدمت طبقة صوتية جوانية خالصة، فأوقفني متسائلا: هل تقصدت هذا الأداء؟ قلت: نعم، قال: إذن، هذا هو آندريه، ولكنه بعد أسبوع اقترح نمطا آخر من الأداء مطيحا بالاستقرار الذي تشبثت به. ترددت على “تفليش” ما بنيناه سويا، وما سأعترف به الآن هو التالي: أنا أخاف من طبقة صوتي القوية وأتعلم من أخطاء الآخرين من الممثلين الذين يحبون أصواتهم، لذلك جرى نقاش طويل في كيفية استخدام طبقة الصوت (القرار)، وبما أنني أكره القوالب الجاهزة وأثق به كمخرج يحسن إدارة ممثليه، بدأت أجرب استخدام هذه الطبقة بحذر شديد وهدوء تام متوافقا مع روح شخصية (آندريه)، وبتشجيع كبير منه استقر أدائي للشخصية حتى العرض الأخير، إضافة إلى الارتجال الذي اقترحته أمامه وصلنا معا للنتجية التي ظهرت في العرض - حتى هذه اللحظة أشعر بمتعة البروفة - لقد فعل جواد نفس الشيء مع حيدر جمعة الذي كان يعاني كل يوم من أدائه وهو يهمس لي (لقد غير الأداء) وهو يبتسم بعد أن اعتاد على قلق هذا المخرج المجنون.

الحرية في التمثيل
أن تعمل مع مخرج محترف لا يرضى عنك بسهولة، فعليك أن تقترح كل يوم شيئا يعزز من أدائك للشخصية، فجميعنا أحب الفتى (أمير إحسان) وهو يصل إلى المنتدى من كلية الفنون الجميلة حيث يدرس طالبا فيها، مشيا على الأقدام، وقدمنا له العون بمحبة كبيرة فأسند له جواد الشخصيات التي تمرن عليها الممثل (إياد الطائي) واحدة تلو الأخرى وهو يؤدي بفخر وسرور تامين، ولما كان إخلاصه كبيرا فقد تمتع مع جواد بتمارين خصصت له وحده فكان مثل طائر حر مغرد بعدة أصوات تسحر سامعيه، ففي أيام العرض كان أمير يتمرن مع مجموعة الشباب لوحده نستمع إلى صوته ونبتسم لهذا الجنون الجميل. نعم، كانت الحرية لنا ملاذا في البروفة نأتيها كما العطاشى نغرف من المخرج وننتشي ونحلق، نأكل يوم السبت ونشرب الشاي ونحن نتندر على بعضنا البعض بفكاهة شفافة تزيل عنا عرق البروفة الطويلة.

ورشة مسرحية
استدعى مدير المنتدى القديس - لم أر إخلاصا وأدبا جما كما لمسته عند (حيدر جمعة) مجموعة شباب من طلبة المعهد فأدخلهم جواد إلى العرض عبر ورشة مسرحية علمهم فن الجنون، فكان حضورهم متناسقا وخفيفا تجسد ذلك عبر حب الطلاب لعملهم وهم يخوضون تجربة على مسرح محترف.

داعش والموسيقى
قال جواد نحتاج إلى عزف حي، فالعرض يحتاج إلى آلتي الكمان والجلو، فاستدعى حيدر جمعة صديقه الذي لم نكن نعرف من هو فأتى شاب مهذب هادئ الطبع وجلس بيننا، فقال له جواد: نحن في عنبر المجانين، فقال الشاب: لقد مررت بهذه التجربة، وبدأ يحكي بهدوئه الذي اعتدناه لاحقا: كنت أعزف في بيتي في الموصل حين دخل داعش فقالوا: انت مصاب بمس من الجنون، وأنا أعزف على الكمان، فمسكوا رأسي وقالوا: يجب علينا أن نخرج الجني من رأسك، فبقيت سنة ونصف وأنا أمثل دور المجنون لكي أحتفظ برأسي ثم عزف لنا مقطوعة من تأليفه أبكتنا جميعا ونحن نرقب هذه الثروة الوطنية، إنه الفنان أمين مفداد الموسيقي الذي لعب دور أحد المجانين في هذا العنبر، إنه الفنان الذي أنقذته موسيقاه من همج يتلذذون بالذبح فمرحا للموسيقى التي تعطي العالم الحياة.

نقد البروفة
الناقد صميم حسب الله دخل التجربة مع جواد قبل الجميع فاتفقا على أن يكون مساعدا للمخرج، فكان عونا حقيقيا لنا جميعا، وكان جواد يوكل له مهمة التمرين الثاني، أي بعد أن ينتهي جواد من التمرين مع حيدر جمعة وأمير يكمل صميم معهم ليكون سندا حقيقيا لتعاليم المخرج، إضافة لعينه المراقبة الحادة وعقله الراجح في تفسير النص واكتشاف مواطن الغموض فيه، كنا نخوض نقاشات واسعة في الأيام الأولى لتذليل العقبات التي تساعدنا على فهم النص ومضغه خاصة ونحن ندرك جميعا أننا نرتقي بالنقد، فكانت الطاولة تتسيد حوارتنا المثقفة وحتى خلافاتنا في وجهات النظر التي تستقيم بعد الروح النقدية التي دائما يستمع لها المخرج بشجاعة وعقل راسخ، وهذا ما حصل مع صانع الضوء علي السوداني الذي بدأ يشرح مفهومه للضوء فمازحه جواد “لا تشرح يا علي أرني مقترحاتك وسأقول لك ما أريد”، وبخفة العارف وقف علي على الخشبة وهو يؤثثها بضوئه المبهر، وحين استمع إلى ملاحظات المخرج وفهمه درجة حساسيته للضوء كان العرض مبهرا بالضوء وقدم فضاء متقدما. لا يمكنني أن أنسى مدير المسرح (بهاء خيون) وهو يتحرك بهدوء الأنبياء ليعيننا في البروفة وخلف الكواليس طيلة أيام العرض، آه، لقد انتهى العرض وبقيت أسرار البروفة تطوف حولنا مثل أم لا تقبل مفارقة أولادها.

 


مناضل داود- العراق