تسجيل دخول log in

تسجيل دخول  log in

العدد 590 صدر بتاريخ 17ديسمبر2018

تمتلك هذه التجربة خصوصية فريدة، باعتبارها من الأعمال التجريبية المشاغبة، التي تقرأ تفاصيل الواقع عبر مفارقات الدراما واستعارات الجمال، لتطرح تلك المواجهات المثيرة، مع وقائع وجود مهزوم، ينهار في موجات السقوط، بعد غياب معنى الإنسان والعدالة، وانهيار منظومة القيم. وفي هذا السياق تبعث مسرحية “تسجيل دخول”، ثورة جمالية جديدة صاخبة، حيث تشتبك برشاقة وشراسة، مع ذلك العالم الافتراضي الكوني الغامض، الذي يغير الواقع والملامح والأعماق، يسقط كل المحظورات، يفتح المسارات أمام المعرفة والحقائق، الأوهام والأكاذيب، والمؤامرات والخيانات, يمزق كل الأقنعة، ويكشف أن الحقيقة ستظل دائما مراوغة، لا وجود لها.
هذه المسرحية من إنتاج مركز الهناجر للفنون، أما صاحب فكرتها ومخرجها هو الفنان هاني عفيفي، الذي أدرك أن هذا العالم الافتراضي يتجاوز جموح العبث واللامعقول، يبعث تيارات التناقضات، يؤثر في وجودنا وأفكارنا ومشاعرنا، يكرس لقيم وقناعات، تأخذنا من مرحلة إلى أخرى، دون أن ندرك ماذا بعد كل هذه التطورات، لذلك يصبح علينا ألا نندفع إلى سحر الأشجار الصناعية الجميلة، وننسى أننا نمتلك أشجارا حية وارفة، وأن المجتمع بشكل عام عليه أن يسجل دخوله إلى المستقبل، عبر امتلاك الذات والوعي، والعلم والثقافة والقيم، وهكذا استطاع المخرج هاني عفيفي أن يقدم للمسرح المصري إبداعا جريئا حارا، يمتلك شرعية وجوده، يموج بوهج التساؤلات وبريق الجدل، ينطلق من قلب عالم درامي مكتمل، تتضح أبعاده عبر اشتباك واقعنا الشرس مع العلم الافتراضي المراوغ، الشخصيات نعرفها وتعرفنا، والتفاصيل ترسم ملامح القهر والجهل والاستلاب، الذي يهزم نبض الحياة وروح الإنسان، ويذكر أن تيارات الحياة الفوارة، كانت حاضرة في قلب الحالة المسرحية، التي تميزت بالبساطة والجمال والإبهار، ووضوح الرؤية وخصوصية البصمات، وحرارة التفاعل، وجماليات الأداء الجروتسكي الساخر، الباحث عن الاحتفال بالحياة. تبلورت فكرة المخرج هاني عفيفي عبر السيناريو المتميز، الذي كتبه إسماعيل إبراهيم وفادي سمير، فبعثا معا وجودا متفجرا بالتناقضات الدقيقة، التي جمعت بين مجموعة الأصدقاء على الواتس أب، فعرفناهم بوضوح من خلال المساحات المتاحة لكل منهم للكشف عن ذاته وأعماقه، لامسنا طبيعة علاقاتهم على الماسنجر وفيسبوك، أدركنا التحولات والانفعالات ودلالة رؤية كل منهم للوجود. أما حركة النص عبر الزمن، في الماضي والحاضر، فقد جاءت شديدة النعومة، تموج وعيا وحرارة واشتباكا ساحرا مع ملامح واقعنا الفعلي المتوتر. ويذكر أن مستوى الكتابة كان متفاوتا، فجاءت ملامح بعض الشخصيات شديدة العمق، أخاذة الوعي والجمال، بينما افتقدت شخصيات أخرى كل هذه الملامح، وجاءت مسطحة، تميل إلى الإضحاك عبر الهزل بمفهومه السائد، بعيدا عن أسسه العلمية والجمالية.
تدور الأحداث في إطار تشكيل سينوغرافي، يأخذنا إلى حالة من الجمال الخلاب، تبعث حضورا وشعورا عارما بالحياة، حساسية منظومة الضوء الدرامي تسيطر على الزمان والمكان، تستدعي الماضي بنعومة لتواجهنا بوقائع الحاضر، خطوط الحركة الرشيقة المغايرة، تتقاطع مع لغة الجسد، والموسيقى ورغبات الحياة، بينما الخلفيات السوداء في العمق تسجل عبر الساعة الأنيقة مفهوم انطلاق الزمن اللانهائي اللاهث، ويظل اللون الأزرق يشاغب الضوء اللامع، لتأخذنا اللحظات الأولى إلى الساحر الأنيق الواثق، الذي يسيطر على العالم الافتراضي المراوغ, يطرح نفس تساؤلات الفيسبوك، عن الهوية والحب والزواج والطلاق، والعلاقات المعقدة, يشاغب الفن والسياسة والأغنيات والأحلام، بينما نرى على خشبة المسرح تلك الأشباح الصامتة، المستغرقة في أجهزة الموبايل، وعبر موجات الضوء تتكشف ملامح المكان الافتراضي المألوف، الذي يجمع الأصدقاء.
يكتب السباب عن عمرو، تتبلور رؤاهم في أنه ماركسي، ملحد وعلماني، وعبر تقاطعات الواقع والافتراض، تأخذنا الموسيقى إلى يسار مقدمة المسرح، لنتعرف على ذلك الشاب المعذب بالانتظار والقهر والاضطرار، يعيش مأزق الاختيارات الصعبة، يحاصره العبث والغياب، يفتقد الحرية الإنسانية، يدرك أنه يعيش وهما مخيفا وانتظارا ممتدا، مختنقا بالكبت والعذاب والاستبداد، يبحث عن الخلاص ويريد الموت، فقد ظل يبحث عن الحقيقة، وأدرك أنها نسبية، ولا وجود فعلي لها، وعبر موجات الضوء والحركة والموسيقى، يتصاعد تيار مشاعر العجز والإحباط، ويسقط عمرو فاقدا لوعيه، وفي هذا الإطار نعايش طبيعة أحلام تلك الشابة الباحثة عن المعنى, تخبر أصدقاءها أنها ستدرس لهم كورس يوجا للقلب المجروح، خطوط الحركة اللاهثة تكشف أبعاد الواقع، عبر الاقتراحات الكثيرة الساخرة عن ورش التمثيل, أو جلد الذات أو لف الهدايا.
تأتي دلالة اتصال الأصدقاء التكرر بمطعم الكوارع، لتكثيف مفاهيم الانتظار والعبث، وتمنح الحالة المسرحية مسارات للتصاعد والإيقاع الملموس، الشاب يحيى الغارق في علاقات الحب يتحدث مع الديلفري عن اختراق الحسابات وتسجيل الدخول والخروج، الموسيقى والحركة والضوء يتضافرون مع سيطرة العالم الافتراضي، والأخبار والإشاعات، الكلمات السريعة الدالة تشتبك مع السياسة وثورة يناير والديمقراطية، لتتصاعد وقائع الخلط المفزع، الذي تضيع معه كل الرؤى والتوجهات، لتبقى اندفاعات الشابات إلى برج الحوت والعذراء والقوس والسهم، لتتفجر إيحاءات الرغبة والجنس والحب والخديعة والخيانة, بأسلوب مقبول بعيد عن الإسفاف، ويأتي الفيديو الحي الذي تقدمه تلك الشابة المشاغبة الجميلة، عن «إزاي تصطادي راجل»، يأتي كمنطقة شديدة الجاذبية والإبهار، تكشف عن جمال واختلاف الأداء التمثيلي، وعن حيوية ورشاقة الكتابة والارتجال المدهش, تلك الحالة التي تتناقض تماما مع حكاية شافعي الزملكاوي، مع الشعر، وقصائده الرديئة المفزعة. تأخذنا إيقاعات الوهج إلى اشتباك مع الفوتوشوب والحجاب، والحلال والحرام، عن شرعية الميدان والرصاص والاتهامات، عن العلاقات والمتابعين والأصدقاء، والبلوك والانستجرام، عن الأيام العالمية للأب والبنت وأي موضوع في الحياة، وننتقل عبر الرقص الجميل والموسيقى الساحرة إلى أخبار الكوارع التي لا تصل، ثم تأخذنا إيقاعات الزمن إلى مصر الجميلة والسوهاجي والقناوي، بعد ثورة 30 يونيو، شاشات المحمول تطلق مفاهيم الطابور الخامس والمندسين، والسينوغرافيا تشتبك مع خطوط الحركة لنعايش، ذلك الطرح الجميل الراقي، لعذابات المرأة المصرية ومفهوم مطالبتها بالعدل قبل المساواة مع الرجل، الزمن يأخذنا إلى قلب الحاضر، حيث الإشارات الدالة إلى أستاذ الجامعة عنتيل المحلة، إلى سيدة المطار، وبرامج التوك شو وصاحبة السعادة، أبطال العرض يقفون على اليمين في تشكيل حركي ساكن، يحاولون تسجيل دخولهم، بينما يجلس الساحر في الضوء يضحك سعيدا بجانبه مانيكان بلا إرادة، الساعة تنطلق كالمعتاد ويمضي الزمن، ويصمت الجميع، فنحن الآن في اليوم العالي للصمت, وهكذا ينسحب الضوء بنعومة مبهرة، وتبقى الموسيقى، لتنتهي التجربة الدالة المتميزة.
شارك في المسرحية الفنانون الواعدون أحمد السلكاوي، منة حمدي، عمرو جمال، شادي الدالي، ندى نادر، محمد الشافعي، هبة الكومي، وأوسكار نجدي.
كان الديكور لمي كمال والأزياء لمروة عودة، والموسيقى لمحمد صلاح، ومونتاج الفيديو لأحمد الروبي، والإضاءة لهاني عفيفي ومحمد عبد المحسن.

 


وفاء كمالو