«الشقف» الذات المتكسرة وعلاقة الإبداع بالألم

«الشقف» الذات المتكسرة وعلاقة الإبداع بالألم

العدد 578 صدر بتاريخ 24سبتمبر2018

منذ أكثر من عشرين عاما قرأت مقالا للكاتب الراحل أنيس منصور بجريدة الأهرام بعنوان «آهٍ ومعناها»، تناول فيه علاقة الإبداع بالألم، فكلما كان الألم أكبر كان الإبداع أعظم، ودلل على كلامه بحيوان «اللؤلؤ» الذي كلما حرك خياشيمه ليتنفس دخلت بها المحار وجرحته فيبكي وينتج عن هذا البكاء دموع هي حبيبات اللؤلؤ، التي تعد من الأحجار الثمينة التي يقتنيها ويتزين بها من يقدر على ثمنها.
لم أنسَ هذا المقال طوال هذه السنوات بل وتشغلني هذه الفكرة، التي أعاد تأكيدها العرض المسرحي التونسي الكندي «شقف» الذي شارك في مهرجان القاهرة للمسرح المعاصر والتجريبي في دورته (25).
العرض يتناول قضية الهجرة غير الشرعية، هذه القضية التي تم تناولها كثيرا، ومع ذلك لا يمكن التعامل معها باعتبارها مكررة، بل متجددة، فالجرح ما زال مفتوحا وينزف ويعاني منه العرب والأفارقة، ولأنها قضية عميقة الألم فحين يتم تناولها في عمل فني فيكون الإبداع أيضا عميقا.
عنوان العرض «شقف» ويعني في تونس المركب الصغير، لكنه يعني في اللغة العربية معنى أعمق بكثير وقادر على قراءة العرض قبل حتى رؤيته، فالشقف هو قطع الفخار المُتكسرة التي لا يمكن التئامها مرة أخرى، وهي الصفة التي تشارك فيها كل أبطال العرض الذين تجمعهم مركب واحدة على اختلاف جنسياتهم ومعاناتهم وأوجاعهم ويجمعهم هدف واحد أيضا، فجميعهم مكسرون محطمون من الداخل رغم تظاهرهم بغير ذلك في البداية، حتى ينفجر أحدهم ويحكي مأساته، فيفتح المجال لكل شخصية لتحكي مأساتها، منهم التونسي، واللبناني، والسوري، والأفريقي، ينظرون جميعا في اتجاه واحد هو الضفة الأخرى من البحر، وتحديدا إلى إيطاليا التي يحلمون فيها بحياة أفضل مما يحيونها الآن في أوطانهم، ورغم أن الموت هو الاحتمال الأول لهذه الرحلة غير الشرعية فإن جميعهم يتمسكون بالحياة، وكل واحد يرفض أن يضحي بنفسه من أجل الآخرين، حين تقوم عاصفة شديدة ويتطلب الأمر أن يتخفف المركب من أحماله.
نجد على المركب الفتاة التي حملت من حبيبها الذي تنكر لها وتركها تواجه مصيرها وحدها، فتطردها الأم وعلى ذراعيها وليدها، فلا تجد الأمان من الحبيب ولا الأم وهما الأقرب فما بال المجتمع الذي تواجهه بمفردها مع تحملها مسئولية طفل رضيع، وهي في نظر الجميع مذنبة ساقطة، والفتاة التي تعشق الفن في مجتمع لا يفرق بين الفن والانحراف، وأخرى تقف جنسيتها السورية التي أصبحت مضطهدة أمامها مما يجعلها تمزق جواز السفر وتفقد هويتها ولا يوجد أمامها سوى الهجرة غير الشرعية، والشاب الذي يملك أحلاما كبيرة لا يقدر على تحقيقها لعدم توافر فرص العمل، وآخر مطارد أمنيا، وأم أرادت اللحاق بابنها الذي سبقها إلى إيطاليا ويملؤها الأمل في رؤيته حتى إنها أحضرت معها الطعام الذي يحبه، لكنها تضطر لإلقائه في البحر مع كل الأشياء التي على المركب لتخفيف الحمل، على أمل أن تطهي له غيره حين تلحق به، لكنها تكتشف أنه لم يصل إلى إيطاليا بل مات غرقا، فتتنازل عن الحياة التي لم تعد هدفا وتستسلم للموت الذي أصبح هو الهدف.
من خلال حالة الفضفضة التي عاشها أبطال العمل تم استعراض الكثير من القضايا الراهنة التي يعاني منها الوطن العربي بل والأفارقة أيضا، منها ثورات الربيع العربي وما تلاها من أحداث، وظهور الجماعات الإرهابية وما تمارسه من جرائم في حق الإنسانية، والملاحقات الأمنية، والظروف الاقتصادية.. إلخ.
ديكور العرض الذي صممه الفنان الكندي «إندي مورو» عبارة عن قارب صغير في عمق المسرح يحيطه الفراغ من جميع الجهات، وهو مصنوع من مادة لدنة تجعله دائم الاهتزاز مما يوحي بحركة تلاطم الأمواج، كما أنه استغل أسفله ليعبر عن محيط الماضي لكل شخصية تروي مأساتها.
اختارت المخرجة شخصيات العرض بعناية فجمعت الممثلين من الجنسيات نفسها الموجودة في الأحداث، لتضعنا أمام حقائق فعلية وليس مجرد تمثيل، هم: عبد المنعم شويات البحري رحالي، وندى الحمصي (سوريا)، وريم الحمروني، وأسامة كوشكار، ومريم دارا، وقي ايسوتوسي (أفريقيا)، وصوفيا موسى (لبنان).
الشقف فكرة الفنان الراحل عز الدين قنون وحلمه الذي نفذته ابنته سيرين قنون، مع المخرج الكندي مجدي أبو مطر، دراماتورج سعاد بن سليمان، إنتاج مشترك تونس/ كندا، وشارك في أكثر من مهرجان وحصل على جوائز عدة.

 


نور الهدى عبد المنعم