حدث في بلاد السعادة ومشاكسة الوضع الراهن

حدث في بلاد السعادة ومشاكسة الوضع الراهن

العدد 573 صدر بتاريخ 20أغسطس2018

أين تكمن السعادة؟ وكيف نحصل عليها كشعب في ظل أحداث متلاحقة ومواقف تأخذنا بسرعة كبيرة إلى الخلف؟ هل يتعلق الأمر فقط بولي الأمر وعلاقته الوطيدة بهموم شعبه أم بالرغبة الحقيقية في تغيير الوضع الراهن من طرفي المعادلة دون اللجوء للفكرة القديمة التي تتلحف بالمخلص وأهمية دوره في إنقاذ الناس من همومهم الاجتماعية والسياسية؟ العرض المسرحي «حدث في بلاد السعادة» تأليف وليد يوسف وإخراج مازن الغرباوي يتناول القضية من عدة زوايا جمالية ويصل لنتائج مفجعة عن مصائر الشعوب وطبيعة تعاطيها مع القضايا المتعلقة، ولكنه يعطيك الأسباب من وجهة نظره بالقدر الذي يسمح بتمرير إجابة ما قد تختلف من شخص لآخر، ولكنها في النهاية إجابة لها وجاهتها وقدرتها على مناوشتك كمتلق تحاول أن تشتبك مع ما يقدم إليك من ألعاب درامية، فمشاكسة الواقع الراهن والوقوف على قضاياه إحدى مهام الأعمال المسرحية التي أهملت كثيرا.
لن تجد هنا تكوينا تقليديا لطبيعة بناء الحدث الدرامي وإن كانت الحكاية الإطار لا تخلو من معقولية ترتيب الأحداث، فقط ستلاحظ قفزات سريعة من جانب المؤلف ترصد محاولات الحاكم الجديد الذي حطم الوضع الساكن، وحاول التغيير بكل قوة ولكنه فشل، قد تقلقك تلك الطريقة في عرض الفعل الدرامي ولكنها وللحق مقصودة بالقدر الذي ينفي التماهي مع الحقيقة المعروضة ويقدم من خلالها فريق العمل حلول بديلة تتوسل بالمنظر المسرحي والزي والرقص والغناء حتى يقطع الطريق على تردد المواطن البسيط في تفهم طريقة تدوير الحدث المعروض.
اللعبة الدرامية التي انتهجها المؤلف تحاول أن تتلمس طريقها دون إشارة مباشرة لبلد بعينها أو مجتمع بعينه حتى تتاح له الفرصة ليغوص في المأساة التي تحوط بمعظم المجتمعات العربية، قد تجد بعض التشابة في بناء الأحداث بين نص العرض وبعض الأعمال الدرامية المتوارثة التي أخذت عن (ألف ليلة وليلة) في ستينات وسبعينات القرن الماضي، ولكن تبقى محاولة الكاتب هنا متفردة في كونها لا تتبع حكايات - ألف ليلة وليلة - خاصة الجانب المتعلق بأهمية الدخول والخروج من الحدث بمنطق الصناعة التي تتخذ من الحكاية الأسطورية سبيلا لتطوير وجودها، كما أن النهاية الصادمة وتخلي الحاكم (بهلول) عن منصبه طواعية كفيلة ببقاء الموضوع في ذهن المتلق فسؤال العرض لم يجب عنه بشكل مريح أو سهل وتركت النهاية مفتوحة للتأويل، وهي طريقة تخاصم الحلول الدرامية القديمة التي تعتمد على النهاية المتصالحة وتنطوي على حل صادم قد يعيش كثيرا في خيال المتلق المشتبك مع الحدث.
تتناول أحداث العرض كيف أتيح لواحد من أفراد الشعب تولي سدة الحكم في البلاد بعد اتفاق بين الحاكم واثين من وزرائه على إعطاء الفرصة لذلك المواطن الذي استطاع رغم الحراس المدججين بالسلاح أن يقفز فوق أسوار القصر ليطلع الحاكم على الأوضاع المتردية في البلاد، والكاتب هنا يبرز أطماع المجموعة التي تحكم ويبين أنهم أصلا من بلاد غريبة، وقد احتلوا تلك الدولة وجثموا على ثرواتها وأن ألاعيبهم لا تنتهي فتمريرهم لفكرة تولي أحد أفراد الشعب لسدة الحكم ليس معناها التخلي عن ذلك الكنز وإنما المراوغة والالتفاف من جديد في عدة صور أهمها إفشال ذلك الرجل واختبار وعي هذا الشعب وإحساسه بالموقف كما يمكن تمرير وتجربة بعض فلسفات علوم الاجتماع والمنطق في تسيير أمور الحكم، فالدولة ما زالت دولتهم يتصرفون فيها كيف شاءوا وما الحاكم الجديد سوى فرد صالح في منظومة فاسدة، ومن ثم كيف يستطيع وحده تغيير الكون؟
تتطور الأحداث والمواقف بالمنطق الذي يضع الحاكم مباشرة أمام فشله الذريع في إنقاذ الموقف، فالكل من حوله لا يستجيبون للتغيير ولا يصدقون قدرته على إعادة تقسيم المعادلة، وهو آمر يمرر الإحباط ويرسخ عدم الجدوى عنده، وحتى (الحكيم والشاعر) المسجونان لدى النظام القديم رفضا أن يطاوعاه في الخروج للناس وتغيير المواقف رغم تصديقهما لكونه نظيف القلب عفي الإرادة صادق فيما يحاول، لقد تركاه ليواجه وحده ذلك الطغيان في تصرفات المسئولين وتلك الهزيمة واللا مبالاة في عيون العباد.
اللعبة الدرامية تبدأ من عند كلمة مفتاح مفادها أن الأحداث والمواقف المتضمنة في المسرحية لا علاقة لها بأي مواقف سياسية مشابهة وأن أي تشابه هو من محض الصدفة، وحتى لا يختلط الأمر على المتلقي بين التناول صراحة ضمن طريقة المؤلف لتطوير الحدث الدرامي أن هذا الفعل الدرامي لا يشتبك بأي حال من الأحوال مع بعض مواقفنا القريبة قبل وبعد ثورة يناير، والحقيقة أن هذا النص كتب قبل أحداث يناير بسنوات طويلة كما أن بناءه الداخلي لا يشير بأي حال من الأحوال إلى مواقف عاشها الشعب المصري من قريب أو بعيد.
المؤلف هنا يعرض لبعض مواقف الناس المهزومة بطريقة هي أقرب للمواقف البلاستيكية غير المطعمة بتيمات وتراكيب جمالية تجعل المتلقي يتأمل موقفهم ويتعاطف معها، فقط اهتم بتغليف المواقف بالهزيمة والتعبير عن قضاياه من منطق يبرز كونهم يكشفون ما بداخلهم كمخدرين تحت تأثير المشروبات الروحية لا كأشخاص متحققين يمكن أن يثوروا على حكامهم، وعلى جانب آخر بين أن الشرطة تراقب وتعرف تماما كل الخلايا التي يجب القبض عليها قبل استفحال الموقف، وهي طريقة في البناء لا تؤدي بالضرورة لتعاطف المتلقي وإنما دفعه لفهم فلسفة التكوين الجمالي والوقوف على أهميته بالقياس للحدث الدرامي البسيط.
وقد اهتم المخرج «مازن الغرباوي» طوال الوقت بصنع مسرحية متكاملة العناصر يعتني بكل تفصيلة فيها، فتجده قد اعتمد بداهة على مجموعة من المحترفين: في الديكور حازم شبل، وفي الأزياء مروة عودة، وفي الموسيقى محمد مصطفى، وفي الغناء فاطمة محمد علي ووائل الفشني، وفي التصميم الحركي كريمة بدير، كما أنه قد حشد معهم تقنية 3d mabeng ليعطي إحساس الحقيقة في المواقف التي تتطلب تفاعل المتلقي وتشويقه.
فقط، وقف عند التعامل مع المجاميع بالمنطق الذي قد يتضاد مع التفسير الداخلي لطبيعة التناول؛ إذ إن هناك فارقا بين منطقين أو أكثر في تقديم العمل الدرامي، فإما أن تعقد اتفاقا مع المتلقي يفيد بأنك تقدم الموضوع بمنطق ينحاز للعب الدرامي، ومن ثم يكون مبررا نزول المؤدين للصالة باستمرار واشتباكهم معها، أو أنك تتناول القضايا من الداخل بمنطق إيهامي يضع الموضوع في صيغة جمالية تجعل المتلقي متلصصا على الحدث، وعليه يكون الأداء من داخل الشخصية الدرامية. أما ما حدث في العرض، فقد مزج المخرج بين الطريقتين دون فلسفة تعضد ذلك التوجه في التقديم، يمكننا تقبل الراوي المغني حينما يلتحم بالجمهور ليكون لسان حالهم، أما البطل الذي يدخل من صالة المشاهدة ويعود إليها مرات ومرات دون مبرر كبير لذلك التصرف، فهذا أمر يرجى مراجعته فنيا.
على جانب آخر، حفلت طريقة المخرج في تناول العمل بالكثير من العناصر الجمالية التي تحاول الاقتراب من المسرح الغنائي الاستعراضي في إحدى صوره البهية لولا بعض الهنات في التفسير والفلسفة، طبعا نحن نفتقد بشدة هذا النوع في التقديم، وقد نحتاج لفترة كبيرة حتى نحصل على عمل متكامل في هذا الاتجاة، لكن على أية حال «حدث في بلاد السعادة» كان يطمح لهذا التكوين، ومن ثم اعتمد عناصر الإبهار في صور البانوراما التي تتبدل مع طبيعة الحدث وقوة وضعف الحاكم (مثال شكل البنايات) أثناء فترات القوة والضعف للحاكم واستخدام تقنية 3d mabeng في تلوين المواقف والأحداث، كما أن المؤلف الموسيقي محمد مصطفى قد بذل جهدا كبيرا كي تخرج الألحان بهذه الكفاءة الكبيرة والقدرة المميزة على التعاطي مع الأحداث بتيمات لحنية تمتاز بالقدرة على التقطيع والسرعة والبطء والتطريب في المواقف التي تحتاجها قضايا وأطروحات المؤلف, وكذا أزياء مروة عودة التي اعتمدت طرزا مناسبة تماما لطبيعة العمل الذي قد يدور في اللازمان واللامكان، وكذا جاءت أيقونة الدولة التي اعتمدها مصمم الديكور حازم شبل تشبه الأرابيسك العربي ولا تشير لدولة بعينها وجاءت المناظر متخذة من الأيقونة سبيلا في طبيعة البانوهات التي تمثل مباني المكان سواء عند قاعة الحكم أو في مناطق الفقراء والسجن. أما استعراضات كريمة بدير، فقد بدت رشيقة في مواقف المجاميع وتمتاز بالدقة في المواقف التي تشتبك مع صالة مسرح السلام على الرغم من الزحام الشديد تشعر أن هناك تصميما منضبطا تم التفكير الجيد في مكوناته الصغيرة.
وعن الأداء التمثيلي، يقف مدحت تيخا كبطل للمرة الأولى لهذه النوعية من العروض، ولكنه اجتهد تماما كي ما يخرج الدور بهذه الخصوصية وهذا الجمال الذي يبقى في خيالك، وكعادة علاء قوقة في أدوار الشر لامع وحاد تماما يعطي للعروض وللأدوار التي يقوم بها طعما لا يمكن نسيانه، وكذا جاء حسن العدل في دور الحكيم بصوته المميز وقدرته على إقناع المتلقي بهزيمة الحكمة في ظل أوضاع لا يمكن الفكاك منها بسهولة، أما أسامة فوزي في دور السقا، فقد أخذ لب المشاهدين بكلماته البسيطة الموجعة، ولم يترك سيد الرومي الذي قام بدور الحاكم الفرصة تمر دون أن يمطرنا بخفة ظله وقدرته عبر التلميحات والكلمات الملتبسة التي تتخطى حدود الزمن وتضعك أمام القضية الآن وهنا، أما محمد حسني في دور بائع الغلال فقد امتاز بقدرة طيبة على تمرير مناطق الدهاء والخنوع في الأوقات الحاسمة، وبدا كل من راسم منصور وعبد العزيز التوني وحسن خالد وخدوجة صبري ومنة المصري وميدو بلبل وعمر طارق بصورة ممتازة أعطت للعرض روح طيبة تتعدى حدود الدور إلى حدود الكفاءة في رسم تفاصيل شخصية تناسب الحدث، أما الراوي المغني وائل الفشني مع فاطمة محمد علي، فقد كونا ثنائيا جديدا لامعا يمكن أن يساهم في المستقبل بأعمال غنائية مكتوبة خصيصا للمسرح الغنائي فهما يتمتعان بحلاوة الصوت والقدرة على مواجهة الجمهور فقط تعطي لهما الفرصة دون اللجوء لطريقة تسجيل الألحان والأغاني التي اعتمدها المخرج، فالمغامرة تحتاج لقلب جسور وثقة تامة في قدرة المؤدي على مواجهة الجمهور، فمن غير المعقول أن يقف الراوي أمام المتلقي لا يفصلهما إلا بعض السنتمترات ويأتي الصوت مسجلا، اللعبة الدرامية الشيقة لها شروطها ويرجى منها الكثير ولن تحقق طموحاتها بسهولة أو بتصرفات آمنة تستهين بالحدود الدنيا من المعادلة الجمالية.


أحمـد خميس