أبكي.. أنزف.. أموت.. «أمر تكليف».. النيات الحسنة لا تكفى

أبكي.. أنزف.. أموت..  «أمر تكليف».. النيات الحسنة لا تكفى

العدد 569 صدر بتاريخ 23يوليو2018

مسرحية “أمر تكليف” التي أنتجها وعرضها مسرح السلام التابع للبيت الفني، ويفترض أنها ستقوم بجولة في محافظات مصر تبدأ من بورسعيد، يمكن وضعها تحت عنوان “المسرح الموجه”. وهو نوع معروف تلجأ إليه المجتمعات في حالات خاصة تستلزم استنهاض الهمم والحشد المعنوي أمام ما تواجهه من خطر سواء كان حربا أو كارثة طبيعية أو غيرهما من المواجهات.
تحاول المسرحية التي كتبها عيسى جمال وأخرجها باسم قناوي، الاقتراب من إحدى وحدات الجيش المصري الرابضة على الحدود لتكشف لجمهورها المستهدف ما يعانيه أبناؤنا من جنود مصر البواسل وما يقدمونه من تضحيات تصل إلى حد الاستشهاد، مدفوعين بإيمان صادق بما سبق وأن ردده الآباء في مواجهات كثيرة. وتذكرنا بالأغنية التي صدح بها محاصرون سابقون (أبكي، أنزف، أموت، وتعيشي يا ضحكة مصر) ذلك القسم الذي سبق وأن سجله فيلم يعد من أيقونات السينما المصرية، وهو “أغنية على الممر” الذي صاغه السيناريست الشاب - آنذاك – “مصطفى محرم” عن مسرحية بالاسم نفسه لعلي سالم ونفذه ابن جيله “علي عبد الخالق” عقب هزيمة 1967 في أولى محاولاته االسينمائية الطويلة.
وتعد “أغنية على الممر” هي المسرحية المصرية التي لاقت رواجا كبيرا في زمنها؛ حيث نفذت كثيرا في أقاليم مصر المختلفة وعبر فرق الثقافة الجماهيرية أو الجامعة أو المحترفين. ثم جاء فيلم علي عبد الخالق ومصطفى محرم ليمنحها خلودا أعمق بما يتوافر للوسيط السينمائي من إمكانيات خاصة، وبحساسيتهما في التقاط زواياه، وقدرتهما على رسم شخصيات حقيقية من لحم ودم تمثل شرائح مختلفة من المجتمع المصري الذي نسى كل متطلباته واحتشد خلف قيادته حتى يتمكنوا معا (شعبا وقيادة) من الخلاص من عدو كسب معركة ولم يكسب الحرب. والأجمل أن العرض الأول للفيلم جاء قبيل شهور من انتصار 73 ليؤكد الواقع على المعنى الذي أراده الفيلم.
“أغنية على الممر” – الفيلم والمسرحية – سيظلان يراودانك طوال مشاهدتك لعرض “أمر تكليف”، فالموقف متشابه إلى حد التطابق، كتيبة جيش صغيرة ترابض على الحدود، تتشكل من أفراد مختلفي المنبع سواء بحكم المحافظة القادم منها كل فرد، أو سواء درجة التعليم التي نالها أو حتى الديانة. فقط سيكمن الاختلاف في نقطتين: أولهما شكلية، تخص طبيعة العدو الذي كان جيش الكيان الصهيوني في “أغنية على الممر”، وثانيهما وهي الأهم في درجة إجادة رسم الشخصيات وتطور الحدث. ولا شك أن هذا الاختلاف سيأتي لصالح العمل الأول.
لكن، بعيدا عن المقارنة التي ستظلم «أمر تكليف» كثيرا، تبقى المفاجأة الأكبر بالنسبة لنا وهي أن كاتب هذا النص هو عيسى جمال الدين الذي سبق وأن رحبنا به عبر قراءتنا لمسرحيته “الساعة الأخيرة” ووصفناه بـ”كاتب نظنه آتيا وبقوة في مستقبل المشهد المسرحي المصري القريب”. فهنا يواجهنا كاتب آخر يشي نصه هذا بأنه يخطو خطواته الأولى المتعثرة في عالم الكتابة الدرامية. فالشخصيات أقرب للأنماط، والعلاقات بينها عابرة، ونقطة الهجوم على الحدث تأخرت كثيرا بما أصاب ما سبقها من ترهل اقترب من ملل كاد يفسد هدف العرض الذي يفترض أنه يسعى إلى (الحشد) و(الالتفاف).
لكن، وحتى لا نظلم عيسى جمال، وباعتبارنا لم نقرأ نصه الأصلي الذي كتبه تحت عنوان “نقطة حدود”، لا بد من الإشارة إلى ما أكد عليه إعلان المسرحية، وهو (صياغة ودراماتورج طارق علي ومحمد يوسف)، فقد يكمن هنا الخلل، وهو ما لن نتأكد منه إلا إذا أتيح لنا النص الأصلي الذي كتبه جمال الدين.
نقطة الهجوم على الحدث وهي أسر عنصر من عناصر الإرهابيين لم تأتِ فقط متأخرة كما سبق وأن أشرنا، لكنها جاءت مترهلة مكشوفة بمشهد سابق لولاه لكان مشهد الأسر ومن بعده حوار الأخ (المجند حديثا) مع الأسير الذي يكتشف وحده أنه شقيقه المهاجر منذ سنوات إلى الخارج، خلق صدمة أشد على الأخ وعلى المشاهد في آنٍ واحد. إلا أن العرض أفسد هذه المفاجأة بحوار بين الأخوين عبر الشبكة العنكبوتية مظهرا صورة الأخ على شاشة الخلفية، ليكتشسف المتفرج مع دخول الإرهابي إلى خشبة المسرح أنه الأخ الذي كان يتحدث مع شقيقه منذ لحظات. ولا حاجة هنا للقول بأن شخصية الأسير الإرهابي جاءت مقولبة حسب الصورة الثابتة المكررة لها في كل الأعمال التي تناولتها من قبل.
تنميط الشخصيات لم يفرغها فقط من آدميتها، لكنه ورطها جميعها في أن تكون أقرب إلى الملائكة التي تسير على الأرض، وهنا لا بد من العودة إلى الأصل (أغنية على الممر) لنرى كيف رسم السيناريست، ومن قبله علي سالم، شخصية الانتهازي التي أداها ببراعة صلاح قابيل في الفيلم. وكيف عبره دعم الفيلم الإحساس بقوة منطق بقية الشخصيات التي جاءت تحمل كل منها اختلافا فريدا وجاء إصرارها على البقاء في تلك النقطة المنسية من صحراء مصر انعكاسا لضرورة المقاومة والتشبث بالدفاع عنها. في المقابل، سنجد أن “أمر تكليف” ينحو نحو (الميلودراما) التي تنجح حقا في استدرار الدموع والتصفيق في بعض المشاهد، لكن أيضا سيُمحى أثرها فور مغادرتك الصالة.
المخرج باسم قناوي أيضا لجأ إلى الحلول الأسهل في استدعاء شخصيات من خارج المعسكر ممثَّلة في الحبيبة والزوجة والأم والخطيبة، عبر إضاءة خاصة أرادها تعبيرا عن الفلاش باك السينمائي، متناسيا أن منظره المسرحي (الثابت) والمعتمد على التفاصيل الحقيقية وحوار الشخصيات وملابسها، تؤكد جميعها على منهج واقعي لا يستقيم مع الظهور المفاجئ للشخصيات المستدعاة إلا عبر حيل أخرى تبدأ من اختيار أولي لمنهج تجريدي لا واقعي للمكان، ولا تنتهي عند استخدام أكثر دقة وحرفية لتغييرات الإضاءة.
في الأخير، يمكننا القول إن “أمر تكليف” عرض اعتمد على حسن نية صناعه وبأداء موفق من فريق الممثلين في تقديم رسالة حب مستحقة إلى قواتنا المسلحة. لكن وكما تقول الحكمة الخالدة «النيات الحسنة لا تصنع وحدها مسرحا باقيا».


محمد الروبي