«مرة» والاستيراد العشوائي

«مرة» والاستيراد العشوائي

العدد 561 صدر بتاريخ 28مايو2018

إذا كان الحدث أو الفعل هو سيد الدراما ومحركها الأول. وإذا كانت العاطفة الإنسانية التي تحركت من جراء حدث ما؛ كانت دافعا لحدث مضاد أو موازٍ للحدث الرئيسي. وإذا كان الحدث التالي مرتبطا بحتمية الحدوث نتيجة الأول. فإن هذه الحتمية قد تتغير من شخصية لأخرى أو من ثقافة لأخرى.
وعليه، فإذا كان الشعور الإنساني، ومن ثم العواطف والغرائز التي تتحكم به واحدة عند بني البشر، فإن ممارسة هذا الشعور تختلف أولا من شخصية لأخرى طبقا لقواعد بناء الشخصية وتاريخها. ثانيا تختلف طبقا للمجتمع ذاته. بل إنه في بعض الأحيان وطبقا للثقافة المجتعية؛ قد يتوحد رد فعل أو حدث بين ثقافتين. ولكن التعبير عنه أو ربما مجرد الإفصاح به يختلف.
بل إنه في الأحداث التي تبدو عادية وليست حدثا دراميا؛ قد تدلك على مكان الحدث وثقافة المجتمع واستحالة أن يكون بمكان آخر بالطريقة العادية التي كان عليها في المكان الأول. فمثلا لو صورت مشهدا في مطعم وهناك من يطلب شرائح اللحم، فهذا شيء عادي موجود في كل المجتمعات تقريبا، أما لو كان الطلب هو طبقا من الضفادع؛ وتم التعامل معه بالشكل العادي، فأنت هنا تخرج نطاق هذا الحدث عن الشرق الأوسط كله، فما بالك بمصر. وهذا الطلب في حد ذاته سيحصر لك المجتمعات التي فيها هذا الطلب ضمن حدود ثقافتها اليومية؛ ما دام قد تم التعامل معه باعتيادية.
وإذا كانت حركة المسرح العالمي قد اعتمدت على إعادة معالجة بعض النصوص الشهيرة أو النصوص الرئيسية التي تعاملت مع العاطفة الإنسانية وتقلباتها وطرائق التعبير عنها، وخصوصا المسرح الإغريقي والروماني والشكسبيري، فإن تلك المعالجات اعتمدت في الأول على شيئين:
أولهما أن يكون الحدث وما ينتج عنه موائما للبيئة الجديدة التي يقدم لها وبها؛ خاصة إذا تمت استعارة أو استعادة مكان الحدث والخروج به عن بيئته الأصلية إلى البيئة المقدم بها.
ثانيهما إذا كان الحدث وما ينتج عنه ودلالته الأخلاقية والفلسفية والاجتماعية والسياسية مطلوبة بشدة أن يتم طرحها في البيئة المستعارة، ولكن كيفية الحدث ذاته وما ينتج عنه غير متوائم مع البيئة المستعارة؛ ساعتها يتم التقديم ولكن بالمحافظة على البيئة الأصلية؛ حتى يتقبل المجتمع ما يحدث أمامه؛ على اعتبار أنه يخص أناسا غيره. وعليه فقط أن يأخذ العبرة أو الفكرة أو الرسالة.. الخ. أو يتم تطويع الحدث ذاته بما يتفق مع البيئة المستعارة. بالتحفيف أو الاستبدال أو المعالجة.. الخ.
وعليه، فلا يمكن أن نخرج كل النصوص على علاتها لتتواءم مع بيئات مستعارة. وما يمكن أن يكون صالحا للتقديم عند س، لا يمكن القبول عند ص. وساعتها ستفشل عملية التقديم هذه؛ وهذا أهون الأضرار. أما الضرر الأكبر فيكون من عملية تطويع البيئة المستعارة لقبول حدث متعارض مع التركيبة الاجتماعية والأخلاقية. خاصة إذا كان الحدث بالشكل السيء الذي من نتيجته أن يتم بطريقة مباشرة تطويع البيئة على تقبل مزيد من شرور لم تكن تعرفها من قبل، تحت دعوى الرضوخ للعاطفة الإنسانية وما ينتج عنها.
نعم هي مقدمة طويلة بعض الشيء؛ ولكن كان لا بد منها للحديث أو التعامل مع عرض (مرة) الذي قدمته فرقة السامر المسرحية من تأليف عادل بركات عن نص ميديا ليوربيديس؛ وإخراجه أيضا.
من الواضح أن بركات اعتمد على أن جمهوره على وعي بالمسرح الإغريقي والمصري المستجلب من نصوص أخرى سواء كانت مصرية أو أجنبية. وحاول أن يقوم بعملية مزاوجة بين (مرة) تلك الشخصية المسرحية الشهيرة خاصة عند رأفت الدويري؛ تلك الشخصية التي ترغب بكل جوارحها في الانتقام ممن قتل والدها؛ وبين ميديا الراغبة في الانتقام أيضا؛ وإذا كان اسم (ميديا) يعني الساحرة، كما أن لها قدرتها على القيام بالفعل؛ أي السحر، فهو - أي بركات - قد صنع من مرة غجرية لتتواءم مع بيئة الجنوب المصري التي أقحمها فيها. ولكن ميديا التي سرقت والدها من أجل حبيبها، وقامت بقتل شقيقها ونثرت أجزاء جثته حتى ينشغل الوالد بمحاولة تجميع جثة ولده ولا يلاحق الخائنة وعشيقها. وعندما يذهب العاشقان لمكان آخر يود الحبيب أن يكون له مكانة اجتماعية فيوافق على الزواج من ابنة الملك. وهنا تتوعده ميديا بالانتقام. وتنسج حيلتها. فتشفي ملك ما من عقمه ليمنحها إقامة في أرضه بعد أن تنفذ وعيدها. وإذا كان الحبيب يقول إنه يفعل هذا من أجل أولاده؟! فهي تتخذ الأولاد وسيلة للانتقام أولا من حيث إرسال ثوب وتاج للعروس الجديدة تأكيدا على المصالحة، ولكن ما أن ترتدي الزوجة الجديدة الهدية حتى يسري السم والسحر فتحترق ويتبعها والدها الذي حاول إنقاذها، ثم تقوم بقتل أولادها انتقاما وتشفي من أبيهم.
لتتسع التأويلات وتتعدد لميديا في البيئة الأصلية بما شاءت. وتتوالى المعالجات التي تتحدث عن المرأة والقهر وسطوة الحب.. الخ. ولكن في جنوب مصر ومن أفعال كهذه لا يمكن أن يتم باقي الحدث فيكفي سرقتها من أبيها أو قتل أخيها ليكون الحكم العام على الشخصية ومن ثم المصير المحتوم. قلنا إن بركات جعلها غجرية واستغنى عن الكورس والخادمة بشخصية (الخالة) التي جعلها مصاحبة لميديا ولا نعرف كيف ولم؟ بناء على ما سبق. خصوصا أنها - أي مرة - لم يكن لها لا نفوذ ولا مال. نعم، مرة خانت أهلها من الغجر وهربت منهم. ولكنهم في آخر الأمر مستعدون للصفح لو سلمتهم الحبيب (قاسم) الذي هزمهم في معركة لم نعرف دوافعها ولا كيف كانت وما هي نتائجها. حتى وضع (مرة) الغجرية قد يحيلك لـ(كارمن) في بعض الأحيان والإشارات التي لم تستكمل.
وعليه، فالعارف بأمر المسرح لا يمكن أن يستسيغ عملية المزاوجة بين (مرة) و(ميديا) حتى وإن كان الانتقام هو الدافع لكل منهما. فالأولى في المرجعية المصرية المسرحية حتى وإن شطت في عملية الانتقام، فإن قضيتها عادلة ولم تفعل ما يشين أبدا. بل وكانت صخية في أغلب الأوقات. أما (ميديا) فلها تاريخ لا يمكن قبوله طبقا للمرجعية الجنوبية، وحدث لاحق لا يمكن استيساغه تحت أي دافع في هذه البيئة.
نعم، نص العرض تجاوز عن سيئات (ميديا) مثل قتل الأخ، وسار في عملية الانتقام، ولكنه حافظ على عملية قتل الأولاد! قد يكون قتل العروس المنتظرة ووالدها العمدة مقبولا من الناحية الثأرية في جنوبنا، ولكن الامتداد لقتل الأولاد، ساعتها ربما سنقول إنه لا يعرف جيدا لا طبيعة الغجر ولا طبيغة الصعيد. ولا يمكن لـ(كبير البر) المعادل للملك العقيم ساعتها أن يمنحها أي حماية بعد عملية قتل الأبناء هذه.. وربما ساعتها سيجعلون الأولاد يجرون خلفها بالطوب ناعتينها بالجنون على أهون التعاملات.
أما كيف كان العرض ذاته؟ فالمنظر الأول الذي صممه محمد فتحي (ديكوريا) اتسم بالغنى، وإن كان اعتمد على اللوحات التي لا يمكن إزاحتها من مكانها لتقدم صورة لقرية جنوبية من الخارج، مع أن عملية اللوحات في ظني - وإن بعض الظن إثم - تستعمل عادة في نقل واقع مغاير لثقافتنا لا يمكن لمصمم الديكور أن يكون ملما تماما بتقاصيله؛ لذا فهو يستدعي الصورة الشائعة في المكان أو البيئة الأخرى وينقلها حرفيا لكي يعبر. وهنا يكون إبداعه من الاختيار والتعامل. ولكن في الانتقالات لخارج القرية كان هناك خلل واضح، فالمعركة المستعادة مثلا كانت القرية ما زالت موجودة، حتى في المشاهد الداخلية للقرية التي تجلت في منزل العمدة. كان يخرج ما يشبه المسجد من يسار المسرح. ولكن المنظر العام ما زال طاغيا مع أنهم يتحدثون عن بعد المسافة. ثم عملية اللقاء بين (مرة) و(كبير البر) أين كانت؟ هل في خارج القرية؟ كيف؟ وهل عند كبير البر؟ لم نشاهد، كما أن عربة (مرة) نفسها تشعر أنك رأيتها من قبل مع التوظيف نفسه. فهل كان الأمر ناتجا عن عيب في استخدام الإضاءة أم في الديكور ذاته، خصوصا أنه لا يوجد مصمم إضاءة للعرض كما يقول مطبوعه.
لنعترف أيضا أن ألحان أحمد الدمنهوري كانت جيدة ومتسقة مع الحالة الجنوبية، خاصة مع ختيارات شاذلي فرح الغنائية، ولكنك في الكثير من الأحيان تشعر بالبرودة عند التعامل خاصة في مشاهد الأفراح والاحتجاجات، فهل شاهدتم أبدا عملية احتفال لا يكون بها بشر؟ نعم، هم رجال العمدة المعدودون فقط يقومون ببعض الحركات ويوهموننا بأنهم يغنون في مشاهد فقيرة استدعت فقط أن يكون هناك احتفال جماهيري من أهل البلدة ولكننا في الحقيقة لم نشاهد.
نعترف أيضا بأن الأداء التمثيلي كان أكثر من جيد في عمومه وخصوصا من الأبطال سمية الإمام/ مرة؛ حيث فعلا جسدت الرغبة في الانتقام وكان اختيارها موفقا لطبيعة النص والشخصية. ولكنك كنت تشعر أن هناك ما لا يريحها على خشبة المسرح. ولا أدري من أين. كما أن أحمد أبو عميرة/ قاسم - حبيب مرة - والزوج المستقبلي لبنت العمدة. أدى فعلا ما هو مكتوب كما يريد المخرج والشخصية. وهو بالإجمال ممثل جدير بالتسمية وله حضوره ولكنك في بعض الأحيان كنت تشعر بحيرته في الانتقال المفاجئ من حالة لأخرى دون تبرير كاف ودون تغيير في المناخ العام للرؤية من حيث المكان وإضاءته. ويثبت إيهاب عز العرب/ العمدة أنه ممثل من الطراز الثقيل ولكنه لم يأخذ حقه بعد. كما أن دينا مجدي/ الخالة تغلبت على طبيعتها العمرية وأقنعتنا بالمرحلة التي كانت عليها. ولكن التساؤل بضرورة وجودها أو منطقيته مع (مرة) ربما كان يلح عليها أثناء الأداء فاستعارت الشخصية كما كتبت وكفى. عموما التمثل كان جيدا من إبراهيم جمال ومحمود العراقي ومحمد الرودي وعامر همام وأحمد فرحات وعبد الله الورداني. ولكن طبقا لما هو موجود فلم يستطع أحد أن يقوم ببناء شخصيته الخاصة؟ نظرا لتعارض الثقافة العامة وعدم القبول المجتمعي، فهم وإن كانوا ممثلين إلا أنهم جزء من مجتمع.
عموما، نحن لسنا ضد الإتيان بنص ما من بيئته لبيئة مستعارة، ولكن وفقا لشروطها ووفقا لما تقتضيه البيئة المستعارة التي وضع فيها الكاتب والمخرج نفسه، ومن ثم قد يكون من الأوفق أن تتم عملية التطويع أو تقديم النص في بيئته الأصلية إن تعذر.
وعموما، هي تجربة وإن حازت على قدر من النجاخ إلا أننا كنا نطمع في نجاح أكبر لمعرفتنا بعادل بركات الذي برهن أن رؤيته الإخراجية في نص الآخر قد تكون أفضل من رؤيته في نصه هو. وحتى تتواءم الرؤيتان لا بأس بأن تكون هناك تجربة يحدث فيها بعض التفاوت على أمل الاقتراب في التجربة اللاحقة.


مجدى الحمزاوى

mr.magdyelhamzawy@gmail.com‏