هدوء نسبي.. بين الهدوء والصخب

هدوء نسبي.. بين الهدوء والصخب

العدد 558 صدر بتاريخ 6مايو2018

العبث هو السمة التي لطالما ميزت حياة جنسنا البشري فالحياة المشوقة والأمجاد والبطولات التي تصنع من خلال المغامرات ليس لها وجود إلا في الأفلام الهوليوودية فقط، أما الواقع فلا يوجد داخله إلا ملل يومي وتكرار عبثي لنفس الأحداث.
ينطلق هدوء نسبي عرض مسرحي (من إخراج وتأليف وسينوغرافيا عمر المختار بطولة سارة خليل أحمد الشرقاوي ونورهان صالح) منذ اللحظة الأولى وحتى قبل بداية العرض بشكل يوحي بأن المتلقي سيرى عرضا مختلفا يحيي التوتر الطبيعي الجيني داخل الإنسان، فمكان العرض الأشبه بكهف صخري والإضاءة الخافتة التي تستخدم الشموع كلها توحي بالتوتر حيث يدخل الجمهور العرض وقد بدأت سحابة التوتر تحيط به.
يبدأ العرض باستعراض لأفراد الأسرة الذين هم جميعهم انعكاس للإنسان بكل نواقصه وأفكاره وحتى هلاوسه، تظهر ملامح العبث منذ اللحظات الأولى للعرض، فيرى الجمهور مكانا عبثيا غير محدد بإطار مكاني أو زماني معين فالمكان أشبه بالمغارة لا يشبه بيوت البشر في أي زمان كذلك فإن الملابس لا تدل على زمان معين بل حتى لا تعطي صورة عن الشخصيات التي ترتديها لا تزال تنتمي إلى السلالة البشرية من الأساس، وعلى عكس اسم العرض الذي يوحي لك أنك ستنال بعضا من الهدوء المفتقد في عصرنا الحالي (عصر التكنولوجيا الصاخبة) حتى وإن كان «نسبي» إلا أن البداية تأتي لتكسر أي أفق توقع قد يكون قد قام ببنائه اعتمادا على عنوان المسرحية حيث إن العرض يبدأ بصوت طرقات سكين على عظام خشنة، حيث تستمر الطرقات بشكل من أشكال الانتظام العبثي حيث يقف الجمهور مشاركا في الحدث يشاهد قبل دخوله إلى ساحة المسرح، كذلك تستمر مشاركة الجمهور في العرض من خلال عدة أساليب أخرى حيث إن مع دخول الجمهور إلى ساحة العرض يكتشف عدم وجود مقاعد منظمة ليبدأ في أخذ مقعد ووضعه في الموضع الصحيح والجلوس عليه ليصبح جزءا لا يتجزأ من ديكور العرض ثم يبدأ الثلاثة ممثلين في الظهور الواحد تلو الآخر لنرى الاختلاف التام بين هيئاتهم فالفتاتان تقتربان من الشكل البشري أما الذكر فقد تحول إلى شكل غير بشري أطلقوا عليه داخل العرض «مسخ»، ثم تبدأ سمات المسرح العبثي في التجلي أكثر وأكثر من خلال الحوار الذي يتمتع بالرتابة والبطء والتكرار، حيث يستمر الحوار بين البشري واللابشري حتى يتجلى أمامنا بوضوح من خلال الحوار أن هذا المسخ وهذا اللازمان الممسوخ وهذا اللامكان الممسوخ ما هو إلا هلاوس في عقل البطلة هلاوس يحولها عقلها إلى إسقاطات على واقعها العبثي، ثم تبدأ هذه الهلاوس في أخذ الزمام اللحظة تلو الأخرى، حيث يجلس المسخ على الكرسي صامتا عدا أصوات أنفاسه المنتظمة انتظاما رتيبا وتجلس الفتاة تعمل أعمالا يدوية وفي عمق المسرح يوجد «شيء» معلق شيء لا تستطيع أن تستدل على ماهيته وإن كانت هيئته توحي بأنه كان كائنا حيا فيما مضى ولكنه الآن متحلل.. مجرد بواقي بلا هوية تماما كأبطال العرض الذين مسخت هوياتهم، وتظل الجملة التي تتكرر بعدة أشكال في العرض «بشر. هل نحن بشر؟ نعم نحن بشر».
استطاع المخرج والمؤلف عمر المعتز بالله أن يجسد رؤيته عن عبثية الحياة البشرية ورتابتها التي تحول البشر إلى مسوخ من خلال العرض حيث استخدم كل من السينوغرافيا والأداء الحركي وعناصر الصورة والملابس ليجسد للجمهور هذا العالم العبثي الذي يحيا فيه الأبطال سواء أكانوا حقيقيين أم مجرد مجرد خيالات وهلاوس داخل عقل الفتاة، وقد استخدمت ثاني البطلات في العرض جسدها لتبرز جميع المشاعر البشرية والعمليات البيولوجية التي يقوم الإنسان بها طوال حياته بعضها يدركها والبعض الآخر لا يدركها ولكنه يستمر في فعلها في دائرة من العبث.
ومع نهاية العرض نرى أن البطلة قد علقت المسخ الثاني في عمق المسرح كالجثة الأخرى التي فقدت جميع ملامحه، وهذا يفتح آخر تساؤل داخل العرض وهو عن ذلك الشيء المعلق المتحلل في عمق المسرح هل هو أيضا كان مسخا أم أنه ربما كان بشريا؟ هل كل تلك المسوخ هلاوس في عقل البطلة أم أنها هي من الممكن أن تكون هلاوس داخل عقلهم؟ هل البشر بشر أم مسوخ؟ هل المسوخ مسوخ أم أنهم في النهاية كانوا بشرا؟.. كل تلك التساؤلات لا إجابة مباشرة عنها بالطبع إلا أنها تفتح الأبواب لرؤى فلسفية متعددة لماهية الوجود وتفاصيله، وفي النهاية نجد أن المخرج والمؤلف عمر المختار قد نجح في عمل عرض مختلف يخرج عن المألوف يأخذك إلى أماكن بعيدة داخل عقلك يضرب في ثوابت تصديقك لما أنت عليه، يجعلك تنظر لنفسك وللعالم نظرة جديدة وتحاول فهمهم من جديد مرة أخرى. عرض يأخذك إلى أقصى أغوار عقلك ثم يعود بك مرة أخرى إلى نفس المكان وأنت لا تزال تجلس على كرسيك داخل المسرح.


هالة راضي